كان مذاق هذا اليوم السابع فاخراً لم يذقه الناس من قبلُ، وهو طعامٌ عجيب غذّى الروح، وشَحَنَها بالاندفاع، وغَمَرها بالثقة، وقلَب المشهدَ، وغيّر المدى، ولكنّ بعض آثاره الظاهرة في الميدان الاجتماعي العام كان فيها مرارة فاجعة، وحزن عميق، وغضب نازف، وتيه لا دليل فيه، وشعور جارف باليتم والخذلان، وقد حلّ البلاء والدمار والفقد والنقصان بكل ما حولهم ؛ ولولا أنّ الله يلقي على عباده بعضاً من رحمته، ويكرر عليهم شواهد من دلائل نصره القادم ليخفف عنهم شدّة المصاب لكان الحال أشبه بجائحة نفسيّة جماعيّة مجنونة لا يشفى أحدٌ من عقدتها.
ولا شك أن في هذا الطوفان الكبير أذىً قد جرى الإخبار القرآنيّ بأشباهه والتنبيه عليه والحثّ على الاستعداد له وتحمّل عواقبه، وهذا لا يعني أن هذا الطوفان أذى في الاستنتاج البارد، فإن النصيحة يكون فيها أذى، لذلك كانوا يوجّهوننا كيف نقلّل اتجاه الفضيحة في النصيحة، ونَزِنُها ميزانَها؛ كما أن في السفر أذى للمشقّة فيه وانقطاعه عن الأهل والأحباب ومألوف العادات.
وقد كنتُ أتحدّث لإخواني أنّنا كنا نرى كتب التفسير تذهب إلى أن الأذى في قوله تعالى: (لن يضروكم إلا أذى) هو المكروه اليسير والشرّ الخفيف، حيث نظروا إلى سياق بعض الآيات فاستنتجوا هذا، فطالَعوا هذا: (إن كان بكم أذى من مطر)، وهذا (أو به أذى من رأسه)... فذهبوا هذا المذهب.
وفاتَهم أن الأذى هنا ناتجٌة من النواتج، وضرر مقدّر بقدره، وهو يوزَن بالقدر الذي يكون عليه في كل سياق أو قضيّة، لأنّ حقيقته هو في النواتج السلبية من تداعيات الأمر، وردود الفعل عليه، وتغذيته الراجعة.
ولأنّه ناتجةٌ وأثرٌ فإن أثره يتوزع معناه في اتجاهات عدّة نحو التقذُّر والوجع والاستقباح والرهق والإزعاج والملل واستمرار القلق والكآبة والحزن وعدم الانتفاع والإهانة والانكسار والهمّ والغمّ ...
وهذا الأذى في أصل الوضع اللغوي قد يتجه صوب الضرر الخفيف كالشعور الذي يصيبك من الحر الشديد أو البرد الشديد، إذ أوّلوا الأذَى بأنّه شِبْه البَعُوض الذي يأتي عقب المطر يَغْشَى الْوَجْه ولا يَعَضُّ؛ وقد يتجه صوب الضرر الشديد كالآذِيّ الذي هو موج البحر الشديد المتلاطم الذي يمكنه قلب السفينة وتكسير الشواطئ واجتياحها؛ وقد يكون هذا الأذى على مدى متطاول، ومنه الناقة الأَذِيَة التي تراها في حركة دائمة لا تكاد تستقر، وكأنّ بها وجعاً أو أذى مخلوقاً معها فتظل في قلق متصل واضطراب غير منقطع.
والتهوين في الآية (لن يضروكم إلا أذى) ليس مادياً خفيفاً أو نفسيّاً عابراً كما فهمه بعضهم بعد أن استقر لديهم أن الأذى هو المكروه اليسير، فجعلوا الضرّ يتضمّن دلالات القتل والأسر والإعاقة المستديمة والدمار المنتشر، وجعلوا الأذى يتضمّن ما هو أقلّ منه كالطعن والجراحة والإذلال والتهديد والحملة الإعلامية والتشويه والدسائس والمؤامرات الشاغلة... بل إن زاوية التفريق بين الضر والأذى تتعلق بالتداعيات والآثار، فإن الضرر هو الفعل الشرير كبيراً كان أو صغيراً، والأذى هو ناتج هذا الضر صغيراً كان أو كبيراً.
وهذه الآية لم تكن في فهمي تهويناً للضرر الذي سينشأ عن ملاقاة هؤلاء الأوغاد الفاسقين، بل إنه تأكيد لنظرة واقعيّة بأن هذا الضرر سيكون له مستوى من الأذى يكافئ الضرر الموجود فيه وقد يخرج عن حدّه.
ومن المفهوم أن الضرر إذا كان متصلاً طويل الأمد فإن الأذى الناتج عنه سيكون مصاحباً له حتى يرتفع الضرر المباشر ويتوقف، وعند ذلك يذوب الشعور بهذا الأذى لشدة اعتياد العظائم فيه بكثرة تكرارها، وهو ما يعني تخليق جيلٍ مسبوك بالنار والثأر المحتدِم وإرادة التضحية وشعائر الثبات وحلول القيم الراسخة.
لذلك أمرنا الله دائماً بالصبر والمصابرة واستدامة الثبات والتواصي بذلك واستشعار معيّـته دائماً، وإذا حققنا الاستجابة لأمر الله فقد استحققنا موعوده القدَريّ بأنّ هؤلاء الأوغاد سيولّون الأدبار، وستُضرَب عليهم الذلة والمسكنة، وسينقطع عنهم حبل الناس كما انقطع عنهم حبل الله، وسيبوؤون بغضب منه، ومَن غضب الله عليه قهَرَه، وأذلّه.