وأنا أقرأ رواية 1984 لجورج أورويل، كتبت هذه الرسالة لوينستون سميث بطل الرواية.. ردّ من المستقبل الذي كان يحلم به.!!

 عندي مشكلة عادة في افتتاح الأحاديث مع من أعرف ومن لا أعرف، لذا سأكتفي بالدخول مباشرة في الحديث دون تحيات أو أسئلة؛ فقد بدأتُ بقراءة روايتك يا ونستون… روايتك التي لم تكن سردًا روائيًا، بل شهادة تسري فيها روح الحياة.. ووقفتُ طويلًا أمام كلماتك الأولى، تلك التي كتبتَها بخوفٍ وارتباك على دفتر سريّ، كأنك تنفخ فيها آخر ما تبقّى من روحك، على أمل أن تَصل، أن يسمعها أحد، في زمنٍ لا تكون فيه الأفكار جريمة، ولا تكون الحقيقة خيانة..

قلتَ أنك تكتب للمستقبل.. لنا نحن؛ فنحن جزء من هذا المستقبل الذي لم تره.. لأناس لا يعيشون في عزلة، ولا يتشابهون حد الذوبان.. لأناس لا يخافون أن يفكّروا، لا يخافون أن يحبّوا، ولا يُحاكَمون لأنهم صدّقوا ذاكرتهم.. لقد وصلت رسالتك، يا ونستون.. لكن… هل حقًا هذا هو المستقبل الذي توقعت وتمنّيت؟ هل هذه الحريّة التي حلمتَ بها، هل هي ما تمنّيت أن تعيشه؟ هل يُمكن للحرية أن تكون بهذا الشكل؟ حرية الكلام دون أثر، وحرية الفكر دون فعل؟

نحن نملأ الصفحات بالكلمات، ونغرق الشاشات بالشعارات، ونكتب عن الظلم والقهر، لكننا لا نتحرك.. لا نخطو خطوة واحدة نحو ما نكتب.. فما لم يتجاوز الحبر، لا يُعد جريمة.. وما لم يُترجم إلى فعل، لا يُحسَب على أحد.. في زمننا هذا، لسنا مختلفين كما كنت تتصور.. نحن متناسخون، منساقون، نكرر ما نسمعه كما تفعل الببغاوات.. نعيد الشعارات ذاتها، حتى شعارك ذاته “فليسقط الأخ الأكبر” نردده دون أن نعرف من هو، أو لماذا يجب أن يسقط، أو ما الذي يعنيه أصلاً!!

لقد أصبح الفكر “ترندًا”.. فكرة تموت في الطريق إلى المنطق.. حماسةٌ تدوم ثلاثين ثانية.. نصرخ دون أن نُصغي.. نُعلّق دون أن نقرأ.. ونضحك… حتى على الحقيقة نفسها، كي لا نراها..

نحن نعيش في عصر اللامعنى، حيث الكلمة تُقال فقط لتُقال، لا لتُغير.. في عصر المثقف الذي يكتب ليُصفق له الآخرون، لا لينهض بهم.. في عصر المؤثرين الذين يقيسون أثرهم بعدد المتابعين، لا بعمق الأفكار.. نكتب كثيرًا يا ونستون، لكننا لا نفكر كثيرًا.. نُقدّس الفكرة فقط حين تُشبهنا، أو تشبه الصورة التي نحبها عن أنفسنا.. ومن خالفنا، نُسكتُه، نسخر منه، أو نمحو صوته من التعليقات.. هذا هو شكل العظمة اليوم: أن تُفهم بطريقة سطحية، ويُصفَّق لك من جمهور لا يدري عمّا تتحدث..

سيد ونستون، لقد حلمتَ بزمن حر.. وقد وصلنا إليه… على الورق.. لكن الأفكار هنا كثيرة، كحبّات الرمل، لا تُمسَك، لا تُغرس، ولا تُثمر.. فماذا تُفيد الحرية إذا لم نعُد نعرف ماذا نفعل بها؟ ماذا يُجدي أن تكون الكلمات متاحة، إذا لم يعُد هناك من يكتب وهو يُفكر في الموت، لا في عدد الإعجابات؟

هذه رسالتي إليك، في منتصف الطريق.. قبل أن أصل إلى النهاية. وقبل أن أعرف ماذا حدث لك. لكنني فقط أردت أن أخبرك أن صوتك لم يضِع، وأن زمنك، رغم كل شيء، لم يكن أبكمًا..