لا أحد يمتلك تصورًا واضحًا حول مسار الصدام بين الكيان المؤقت وإيران، ولكن في ضوء ما جرى ويجري من أحداث منذ السابع من أكتوبر، لا بد من تأكيد المؤكد من الحقائق والاستنتاجات التالية:

هناك "إسرائيل" جديدة غيرت جلدها، وتتعامل مع المخاطر والتحديات المحيطة بها بالإفراط في استخدام القوة بهدف الحسم لا الردع، والفرق بينهما أن الردع ينشئ محيطًا خانعًا خاضعًا مدجّنًا، أما الحسم فهو اللجوء إلى الحلول الجذرية لأزمة الديموغرافيا وحركات المقا و مة والتحديات الأمنية والعسكرية المحيطة بها، وهذا نابع من الشعور بالتهديد الوجودي الذي يتحسسه مواطن هذا الكيان المصطنع. ومن الضروري قراءة استطلاعات الرأي لفهم ما ينتظر المنطقة بأسرها، وأهم هذه الاستطلاعات ربما هي: 85% من المجتمع يؤيد تهجير وطرد الفلسطينيين من غزة والضفة، 65% يؤيد ضرب إيران، 90% ضد حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، حتى لو كانت ضعيفة منزوعة السلاح.

هذه ليست حرب نتنياهو، وإن كان هنالك بُعد شخصي واضح. ومن الواضح أن نتنياهو يخوض حربًا ثلاثية الأبعاد: الأولى هي الحرب العسكرية ضد الأعداء وعلى جبهات متعددة، والثانية هي حرب اليمين على الدولة العميقة داخل الكيان وتطهير مفاصل الدولة من العلمانيين، وهي جزء من استئثار نتنياهو بالحكم وتنصيب نفسه ملكًا طويل الأمد للكيان، والثالثة تحمل الطابع الشخصي الذي يُعبّر عنه نتنياهو عبر قفزه للأمام هربًا من المحاكمات، والأهم رؤيته لنفسه بأنه الملك، والمتأثر بشدة بشخصية تشرشل، مع نزعة نرجسية موهومة بلعب دور المخلّص وصاحب المجد والإمبراطور، وهوس الإرث وتخليد تاريخ اليهود له.

إيران لم تقم بـ7 أكتوبر، وليس حتى من أدبياتها المبادرة والمباغتة، وهي تتبنى الصبر الاستراتيجي. ومع ذلك، استيقظت على ضربات تستهدف شلّ أركان الدولة والنظام، وتمهد لحالة فوضى أو انقلاب ينهي وضعها الحالي. وهذه الملاحظة مهمة جدًا لأصحاب نظرية "سد الذرائع"، والتي يتغلب عليها نظرية "الوعي المبكر"، والتي كلفت المحور ضربات قاصمة، خاصة الحزب في لبنان وتردد إيران في الانخراط في الحرب مبكرًا.

لا يمكن التعامل مع "إسرائيل" بنفس المقاربة مع إيران؛ فإيران كيان ممتد عبر التاريخ، وله جذور وحضارة وقوم بتعداد بشري وثقافي، وهو شريك أصيل وليس طارئًا على المنطقة، على عكس الكيان المصطنع الذي زُرع في وسطها وفُرض عليها، ومنذ نشأته، بل وقبلها، لم تنعم المنطقة ولن تنعم بالاستقرار ما بقي هذا الكيان قائمًا بيننا.

أسخف الاستنتاجات تلك التي تفترض تقارب المصالح حد التحالف بين أمريكا وإيران و"إسرائيل"، وهذا لا يعدو كونه دعاية وهابية سمجة، أو قراءة قديمة لإيران لم تكلّف نفسها عناء قراءة مشروع الجمهورية الإسلامية الجديد ما بعد الشاه.

نتنياهو والكيان يدركان أنه لا يمكنهما التعامل مع إيران منفردين، وهو يراهن على امتلاكه خيوط اللعبة داخل البيت الأبيض لجلب دعم، بل ومشاركة أمريكية، حتى لو كانت مقامرة حمقاء، فقد فعلها في العراق قبلاً، وأكاد أجزم أن أمريكا لن تتردد في ارتكاب نفس الحماقة اليوم، وتتورط في حرب إقليمية ليست في صالحها، ولا في رأس أولوياتها الحالية.

في المقابل، من الضروري التعريج على موقف باكستان القوي في مساندة إيران، والذي يدرك خطورة ما ينتظره من مخاطر، هو وتركيا ومصر والمنطقة بأسرها، في حال نجح نتنياهو في تحقيق رؤيته للشرق الأوسط الجديد.

في المقابل، لا يتوقف دور الخليج العربي على الصمت، بل في لحظةٍ ما أدى دور المنخرط فيها عبر القواعد الأمريكية التي تحتل دوله، على وهم أنها تحميه من خطر إيران، في حين أنها موجودة لجلب النفط وحماية الكيان، ولن يكون بمعزل عن كل هذه التغيرات مهما سعى إلى تفادي مخاطر هذا الصدام، لأنه باختصار كان يملك ورقة وقف نتنياهو وكفّ يده عن الفلسطينيين، ولكنهم آثروا أن يشاركوا نتنياهو هدف القضاء على المقا و مات العربية والإسلامية، على اعتبارها أخطر - في تقييمهم - من الكيان بنتنياهو وسموتريتش وبن غفير.

من يجزم بحتمية انتصار جهة على أخرى، فهو مجرد مقامر أو يتعجل في القفز للنتائج، تمامًا كأولئك الذين حسموا الجدل مبكرًا: "انتهى الكيان من غزة ولبنان وسوريا، وانتقل لليمن، والآن إيران والمحور انتهى"، ومنحوا نتنياهو إنجازات وهمية، في حين أن الحقيقة الجلية الآن هي ما وضع الكيان الجميع فيه: وضع لا يمكن التعايش فيه بسلام إلى جانبه، وقد أظهر وجهه الحقيقي بوضوح، ومن خلفه أمريكا، أمّ الشرور.

أما الحقيقة الأهم من سؤال الانتصار، فهي: إذا نجح الكيان في تحييد أعدائه، وكل الدول والأنظمة والحركات التي تعاديه وتقاومه، فإنه لن يقبل بعلاقات طبيعية وشراكات هادئة مع من يتبقى من أنظمة أو كيانات جديدة يُفرزها، بل سيكون السيّد الذي يقود مجموعة من العبيد أو القطيع بالسوط والجلد، وواهم من يظن أن السلام مع هذا الكيان سيجلب له الرخاء، أو سيمنع عنه شرّ الكيان وهيمنته وسطوته.
لهذا، وللعاجزين الحمقى الذين يدعون "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين"، عليكم أن تدركوا أنكم لا يمكن أن تخرجوا من بين أيديهم سالمين بأي حال. وهنا لا يمكن أن تغيب عنا دعوات صادقي الوعد، ممن عبدوا طريق حريتنا: "اللهم استعملنا ولا تستبدلنا"، "اللهم اكسر بنا شوكتهم، وأذلّ بنا هيبتهم، ونكّس بنا رايتهم".