وإنّا لنعلم يا أهلنا في أرض الثغر أن البلاء الذي نزل بكم لم تروا بلاء مثله قَطّ، وهو بلاء عامّ لم يستثن طائفة منكم، وليس ثمة ملجأ في أي موضع تنزلونه، وليس ثمة مستقرّ، وليس ثمّة أمن، وليس ثمّة دواء، ولا زاد، وأن أحدكم قد سقط بدنُه من الجوع والمرض، وأن الفاجعة في الأهل والولد والدور فاجعة عظيمة، وأنّ كثيرين قد انهارت نفوسهم من انعدام الحيلة وبلوغ الاستيئاس.
وبما أنّ هذا البلاء لا مفرّ منه فإن ثمّة عبادةً هي من أصول الصبر، ومنابع الثبات، ومناجم الأجر، ومخازن الرزق، وهي عبادة المراغمة.
والعجيب أن هذه المراغمة تولَد من رحم الثورة والغضب، وتتخلّق من الموانع المتكاثرة والمصائب المتتابعة، وتتشكّل في أتون المعارضة والمناقضة، وتبدأ بتحويل مسار الغضب: من الغضب على الحال إلى الغضب على الاستسلام له.
وهذه المراغمة في سلوكها العمليّ تعني معارضة اليأس، ومخالفة الاستسلام، وإظهار عكس الحال وتجاهله، واستدعاء السعة والشعور بها في جوف استحكام الضيق، والبحث عن نواحي المنحة في المحنة، واستخراج أنواع الألطاف ممّا يُخاف.
وثمرة ذلك في تفويض الأمر لله كله بلا سؤال ولا كيف ولا حساب، إذ انقطعت السبل، وانسدّت المخارج، وإقناع النفس قهراً على وجه واحدٍ بأنّ هذا الأمر محتوم خالصٌ مُنتهٍ فلا ينبغي أن تذهب النفس وراءه حَسَرات أو طُلّعات؛ وأنّ المخرج الوحيد من النار هو في دخولها طوعاً واختياراً ورِضاءً ومواجهةً.
فعندما أمر الله عباده المستضعفين أن يهاجروا فإنه طمأنهم بأنّ في هجرتهم مراغماً كثيراً وسعة، وأن هجرة الأوطان المألوفة لا تعني الفقر بعد الغنى، أو الذلة بعد العز، أو الشتات بعد الألفة، أو النقص بعد الكمال، بل إن هجرتك لله وتركك كل شيء من مالٍ وولدٍ ودارٍ وراءك هو السعة والخلاص والنجاة لك ولهم، وهذه الهجرة تتحقّق بالترك جسداً وروحاً إذا أمكن ذلك ولو حيلةً، أو بترك هذه الحال روحاً ونفساً والانغماس في حال أخرى أوسع وأرحب إذا لم يجد المرء محلاً يهاجر إليه، وحِيل بينه وبين ذلك.
والمؤمن منهيّ أن يجعل بيته مقابر، أو أن يعيش كالأموات بين القبور، وقد أمره الله أن يموت على الإسلام: (ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون) ولا يفهم المؤمن من هذا الأمر إلا الثبات على الإسلام عند إحاطة دواعي الموت.
وليست هذه المراغمة بهذه الصورة من باب تمنّي الموت، فإن تمنّي الموت هو اعتراض على القدر، وأما هذه المراغمة فهي إيمان عميق بالقدر، وتسليمٌ كامل بالقضاء، وقفزٌ عنه إلى الخير الذي وراءه.
وليس في هذه المعاني ما يستدعي الرياضة النفسيّة العميقة لتحقيقها، وإنما هي تركيز شديد على المعاني الإيجابيّة ورفض أيّ معنى سلبي، وتمكين مدخل الشكر وفتح بابه، وإدخال شكر الله على النعمة التي لا نعلمها، والانتقال من مقام الشكر إلى مقام أعلى هو حمد الله على ما قضاه فهو صاحب التدبير الأعلى والقضاء الحكيم.
ولا يظنّنّ ظانّ أن هذا الأمر لا يصل إليه إلا العقلاء الكبار، فهو قريب المأخذ يتطلّب الصفاء والتركيز وعزل الموانع والحُجُب، بل إن الأطفال قد يصلون إليه إذا رأوا ذلك منكم، فإن الطفل مرآة بيئته، وانعكاس أحوالها، وهو شديد التكيّف مع الظرف الذي يوضع فيه ببراءة لا تفكير فيها، وإذا أقنعتَه بالسلوك الحيّ والمقالة الواعية بأن هذه هي الحياة التي سيعيشها باقي عمره فإنه سيتقبّلها، ويتعامل معها بإيمان صافٍ باعتبارها الحياة الوحيدة التي يمكن عيشها.
فإذا هداك الله للمراغمة فستجد في نفسك أنفةً وحميّةً، وثباتاً عجيباً، وقوّة نامية، وموقفاً لا يهتزّ، وابتسامةً لا تذوب، ووجهاً لا يشحب، وهمّة لا تنكسر، وسترى الرزق مسرعاً إليك بما يكفيك ويكفي من معك، وستأخذ من الصّدّيقيّة بسهم وافر.
وإذا ذقتَ حلاوة المراغمة فلا تظننّ أنك أصبحتَ غافلاً عمّا حولك مستهتراً بالواقع، بل إنّك الآن في قلب المعركة الحقيقية، وأنّك قد أوجعتَ العدوّ وجعاً شديداً وأغظتَه غاية الغيظ، وأنهيتَه بالضربة القاضية لأنه لا يجد أثراً لكل ما يفعله فيك، فطاعِنه حتى ترضى، فإن الله يحب من عباده مراغمة أعدائه!