معلوم أن أي سلوك له استمرارية وتنظيم وفاعلية ميدانية على أرض الواقع، فلا شك أن له جذوراً فكرية تسبقه، مهّدت لتمظهره على شكل سلوك يتفاعل ذووه مع الواقع الزماني والمكاني الذي نشأت فيه تلك الأفكار كما أن قدرة ذلك السلوك على الاستمرارية والبقاء بتلك الفاعلية الميدانية مستمدة بشكل مباشر من قوة جذوره الفكرية وصلابتها  وقدرتها على التأقلم مع واقعها بشكل جيد، لذلك كان من قول الإمام حسن البنا رحمه الله: ( إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها و توفّرت التضحية في سبيلها)، وإذا كنّا اليوم سنتجاوز الحديث عن التضحية في سبيلها ونرجئه إلى مقال لاحق له ارتباط مباشر مع الصفات القيادية، فإن الذي يعنينا اليوم هو الحديث عن قوّة الفكرة في حدّ ذاتها، و نتساءل عن عوامل قوة المقاومة كفكرة.

ومسارعتنا للقول بكونها فكرة قوية ليس مصادرة على المطلوب ولا قفزاً على الموضوعية كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل هو تماش مع فلسفتنا العامة التي سنعتمدها طيلة هذه السلسلة باعتبار ما حدث في معركة طوفان الأقصى إنما هو معجزة حقيقة تجاوزت مرحلة النجاح بمراحل، و لسنا هنا في معرض التنظير في بحث ما إذا كانت ناجحة أم لا، بل نحن في معرض استلهام الدروس التي أدت الى هذا النجاح الخرافي المعجز، فلو لم يحدث النجاح الباهر بتلك الطريقة التي اعترف بها الخصوم المناوئون قبل الأنصار المؤمنون لكنّا اليوم نتحدّث عن خواطر جميلة وأحلام يقظة وأمنيات عاجزة.. أما وقد وقعت الواقعة، وانهارت أسطورة الكيان فهي اليوم واهية، فإن مناقشة قوّة الفكرة التي صنعت المعجزة من عدمه اليوم،  يعتبر عبثاً لا طائل من ورائه.

أولا: المقاومة فكرة مع الفطرة
 

إن أهم عامل من عوامل القوة التي اكتنزتها المقاومة مشروعاً و فكرة، هي أنها فطرة قبل أن تكون فكرة، فلقد خلق الله الإنسان وغرز فيه مقاومة الاعتداء بشكل فطري، لا يحتاج معه الإنسان إلى بذل جهود كبيرة حتى يكتسب الفعل المقاوم، بل على العكس، يحتاج فيه المعتدي إلى جهود كبيرة لإماتة جذوة المقاومة في البشر السوي.

 لذلك علينا القول بشكل مباشر أن التخلّي عن المقاومة كفكرة إنّما هو تخلّ مباشر عن جزء من الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية، بيد أن الجهد الذي يبذله المعتدون في مسخ قطاعات من الناس عن فطرتهم المقاومة يحتاج إلى نوعين أساسين من الفعل القاتل للمقاومة:

  •  قد يلجأ المعتدي إلى القساوة والفظاعة والإخضاع بالقوة العنيفة، فيمارس بذلك عنفا مفرطا يقضي به على المقاوم بشكل كلّي أو يقضي على رغبته في المقاومة بجعلها تحتاج إلى ثمن باهظ ليس في إمكانه دفعه.. فتتحول المقاومة في وعيه من فكرة تلقائية تولد معه، إلى كلفة تحتاج موازنة وحسابات بين المكتسبات المتوقعة وبين الأضرار المحتملة.. وهذا كما نرى تحوّل جوهريّ.. فبدل أن يحتشد الناس خلف المقاومة باعتبارها فطرة، يصبح الانتماء لمشروع المقاومة اقتناع بأن المكتسبات أكثر من الأثمان، وهذا تحول كبير لا شك.
  •  وقد يلجأ المعتدي إلى أسلوب مختلف تماما عن القوة والعنف، وذلك حين يلمس صلابة كبيرة من المقاوم.. فيكتشف أنه يزيد في قوتها ومتانتها ويغذيها بأسباب الاستمرار بعنفه المفرط واللامسؤول، حينها يلجأ إلى القوّة الناعمة وهي اللعب على الأفكار والقناعات الفطرية بتغيير المسميات والمضامين، فيحوّل نفسه بالتلاعب إلى مخلص بعد أن كان في الأذهان معتديا يستوجب التصدي، ويحوّل رموز المقاومة وكبار منظريها والفاعلين فيها إلى إرهابيين أو مخربين أو غير ذلك بعد أن كانوا في الفطرة السوية أبطالا وأيقونات مجد وعزة وكرامة، فضلا عن الإغراء بأمور أخرى هي أيضا موجودة في فطرة الإنسان وغيرها من الأساليب التي قد تضعف الفطرة المقاومة في الإنسان كالمال والجاه وغيرها من المكتسبات.. 

    وأيّاً ما كانت عليه الأمور فإن البشر في غالبيتهم يبقون على فطرتهم الكارهة للمعتدي، فما من شعب تمّ احتلاله إلا قاوم وضحّى وصنع أساطير وسطّر ملاحم وليست تجربة الجزائر وفيتنام عن الأذهان ببعيد فضلا عن العراق وغيرها في القريب..
    بل إذا أردنا أن نذهب أعمق من ذلك فإن لدى الإنسان استعداد مبدئي لمقاومة حتى المقربين منه إذا ما شعر أن الاعتداء عليه تمّ بشكل أو بآخر، لذلك تعتبر الفطرة عاملاًً من عوامل قوّة المقاومة كفكرة ومشروع.

ثانيا: المقاومة مشروع وطني

 ومعلوم لدى كلّ متابع أن المقاومة الفلسطينية انطلقت منذ انطلاق القضية بالاحتلال الغاشم لهذه الأرض الطاهرة المباركة ولقد أخذت أشكالا متعددة صاولت هذا الكيان منذ نشأته، ولها تاريخ زاخر بالعطاء والتضحيات والإنجازات، غير أننا في سياق الحديث عن معجزة طوفان الأقصى واستلهام دروسها سنكون معنيين بشكل مباشر بالمشروع المقاوم الذي استجدّ في غزة بالذات، وتراكم إلى أن أنتج هذا الواقع الذي نقف اليوم للتعلم من إنجازاته، و ليس يكفينا الوقت ولن يسعفنا الجهد للإحاطة بالمقاومة الفلسطينية ككلّ فالتاريخ أعمق والجغرافيا أوسع من هذه الإحاطة التي نسجلها على عجل لتوصيف معجزة تم التحضير لها على غير عجل..
    
 إن أهم عامل قوّة رأيناه كملمح أساسي في هذه المعركة المباركة أن المقاومة كمشروع استطاعت أن تحتضن في حجرها أغلب الفصائل الفلسطينية التي لها فعل ميداني ان لم نقل كلّها، واستطاعت أن ترتب الأولويات لدى مختلف الفصائل بحيث يتموضع الفعل المقاوم على رأس أولوياتهم جميعا بصرف النظر عن التركيبة العسكرية والعقيدة الأيديولوجية لدى مختلف الفصائل، و هذا ما أدّى إلى تظافر الجهود وتراكم الإبداع والخبرات وتنوع الفعل المقاوم  وزيادة الفاعلية فيه، ثم إنها قبل كلّ ذلك وبعده صدّرت نفسها بهذا الإجماع على أنها خيار شعبي واسع فوّت على المناوئين لها فرصة إلصاق صفة الإرهاب بها، فهي مشروع وطني تحرري يضم مختلف شرائح الشعب الفلسطيني وتوجهاته بعد أن أريد لمشروع التسوية أن يكون هو المعبّر الوحيد عن الشعب الفلسطيني الذي أريد لقضيته أن تصفى تحت مخرجات شتّى،  فهي بذلك ليست ميليشيات منفلتة كما تردد السردية الصهيونية ومن على شاكلتها من جوقة التصهين العربي، وفي كلّ ذلك امتثال لقوله تعالى في محكم تنزيله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا) وقول المصطفى عليه الصلاة و السلام: (يد الله مع الجماعة).

واللافت للنظر أن المقاومة لم تكتف بدفع تهمة الإرهاب عنها وتحولها إلى مشروع وطني جامع، بل تجاوزت ذلك ليصبح لها امتدادات ميدانية فاعلة، وامتدادات شعورية متفاعلة تجاوزت حتى بعدها الاقليمي وعمقها الوجداني بل أصبح لها أنصار في كل بقاع العالم، فكسرت بذلك كلّ الحصار الذي أريد له أن يخنقها، وهذا قطعا من أوضح عوامل قوتها..

وعليه فإنه من أبلغ الدروس التي علينا أن نسارع بتسجيلها أنه كلما كانت هناك فكرة جامعة قادرة على توجيه الجهود المختلفة واستيعاب طاقاتها جميعا وترتيب أولوياتها  إلى أن يتمّ بلورتها كأولوية قصوى في أي بلد أو مؤسسة أو حزب أو جماعة أو حتّى حضارة وأمّة، فإن حظوظ تلك الفكرة في النجاح والفاعلية ستكون أكبر من كونها فكرة معزولة لا تلبي إلا رغائب فصيل منفرد له قراءاته الخاصة وأولوياته المحدودة، وهذا درس بليغ تعلمناه من المقاومة الفلسطينية في غزة التي أنجزت هذه المعجزة في طوفان الاقصى.

ثالثا :المقاومة مشروع شامل وليس شمولي 

    كما لا يفوتنا هنا التذكير بأن مشروع المقاومة مشروع شامل وليس مشروعاً شمولياً كما يريد الكيان الصهيوني الترويج له، فعلى الرغم من أن المقاومة كمشروع وفكرة استطاعت توحيد الاتجاه وتجميع الجهود تحت راية واحدة فإنها احتفظت لكل فصيل على حدة، برغبته الخاصة في الإبقاء على ذاته ككيان له رؤيته للواقع التي يتفاعل معه بها في مختلف مجالات الحياة، وهذا عزّز من قدسيته كسقف جامع لا يشعر تحته أي فرد أو فصيل بتهديد وجودي في أفكاره و توجهاته، و في الوقت ذاته يحقق الفاعلية المطلوبة كما حدث في الطوفان. 

وهاهنا لابد أن نقف مليّاً لنسائل أولئك الذين درجوا على تهديدنا بأن الاختلافات الإيديولوجية خطر على الوطن وأنها إيذان مبدئي بالتناحر والخراب، فلا مفرّ معهم من شمولية لها وجه كالح دكتاتوري بخلفية: ما أريكم إلا ما أرى! كما هو الحال في أغلب بلداننا العربية والإسلامية التي عجزت عن ولادة سقف شامل واكتفت بنموذج شمولي..

أو شمولية لها وجه مميّه مميّع لا علاقة له بالأفكار والتوجهات أصلاً، بل هي مرتع للاستهلاكيات والرغائب والملذات .. فأولوا الشأن أدرى وأعلم .. وأنّى لهذا أو ذاك أن يصنع الطوفان فضلاً عن أن تكون وجهته الأقصى!!

ما تعلمناه من الطوفان أن المعجزات يصنعها الاجتماع وتوحيد الكلمة على أولوية قصوى ولا يصنعها إذابة بعضنا في بعض أو التخلي كليّة عن بعضنا البعض. 

وكخلاصة عامة، المقاومة مشروع فطري جامع وطني شامل وليس شمولي، وأي مشروع يكتنز هذه الرباعية في أي بلد أو جماعة أو حضارة بصرف النظر عن مجال اهتمامه واشتغاله يمكنه النجاح وصناعة المعجزات في مجاله.