إن الإنسان كائن سياسي بطبعه، كما يقول علي شريعتي في كتابه (بناء الذات الثورية). والمقصود بصفته السياسية، الرؤية والميل الذي يربط الفرد بمصير المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الصلة هي موضع تجلي الإرادة والوعي والإختيار عند الإنسان، بحيث يحس أن وضعه الإجتماعي مثل وضعه الطبيعي. أي أنه يحس بموقعه في الطبيعة أو المجتمع ويعيه، ويتدخل فيه مؤيدا أو معارضا أو معبرا لبنيته. ومن ثم غير السياسي، إنسان في الحقيقة أبطَلَ وعطّل أغلى وأسمى تجلِِ لإستعدادِه الإنساني.

وتعرف السياسة بأنها علم حكم الدول أو فن حكم المجتمعات البشرية (حسب معجم ليتره السياسية 1870 ومعجم روبير 1962). والسياسة، في رأي الأفراد أو الطبقات المضطهدة المحرومة الفقيرة البائسة، هي صراع. أما الأفراد والطبقات المترفة الغنية الراقية، فالسّياسة عندها اندماج وتكامل. 

ومن المؤسف أن رجال السلطة هلعوا دائما من إهتمام الجماهير بالسياسة والواقع، عن طريق التسلية والإلهاء وترويج الفنون الهابطة، أو الإفراط في الرياضات البدنية، أو عبادة الإستهلاك، أو خلق مشاغل حقِيرة في الحياة الاقتصادية والأسرية.

والإلهاء إستراتيجية معروفة منذ قديم الزمان، لتحويل الأنظار والأفكار والمواقف عن القضايا الحساسة والمصيرية. وقد وجدت السلطات في التسلية والإلهاء من خلال الإعلام نوعا من المخدر الفعال للوعي.

إن الوعي هو الخطوة الأولى للتغيير. فالوعي في نظرية التحليل النفسي الفرويدي ركنا هاما من أركان النظام النفسي، مع قبل الوعي و اللاوعي. ومع أن الوعي يمثل قمة جبل الجليد في الحياة النفسية التي يظل جلها لا واعيا، فإن الوعي يحتل مكانة هامة في دينامية الصراع النفسي، لجهة التجنب الواعي للمزعجات والدوافع المثيرة للقلق، والضبط الأكثر تمييزا لمبدأ اللذة. كما يلعب دورا رئيسيا في نظرية العلاج التحليلي النفسي لجهة وظيفته في الشفاء الذي يحدث حين تخرج المكبوتات  إلى المستوى الواعي من الحياة النفسية، إذ يمثل تلك القوة الموجهة للحياة.

و يرى علم النفس المعاصر أن للوعي عموما وظيفتين رئيسيتين هما المراقبة والتوجيه. فالوعي يراقب الذات والمحيط، ويضبط الفكر والسلوك. وظيفة المراقبة في الوعي هي أشبه ما تكون بكاميرا فيديو متحركة تمسح المحيط وترصد المدركات كما ترصد الأفكار والمشاعر والأهداف وحلول المشكلات التي يحتمل أن تكتسي، نظرا لدلالتها، أهمية من نوع ما بالنسبة للشخص.

وأما وظيفة التوجيه فإنها تسمح للشخص أن يبدأ أفكارا وسلوكيات للوصول إلى هدف ما، أو ينهيها. ولذلك ينشط الوعي عادة حين يختار الشخص بين أحد بديلين لحل مشكلة ما. وتتكامل وظيفتا المراقبة والتوجيه في التعامل مع الذات ومع الواقع والوجود.

يقوم الوعي إذًا بوظيفة هامة جدا تتمثل في تعزيز التكيف النشط للمحيط بما يخدم حمايته وبقاءه وتقدمه. ولهذا فالوعي يركز عادة على الأشياء غير الرتيبة، أو غير المتوقعة؛ أي تلك الأشياء التي قد تؤثر بالحفاظ على البقاء والنماء وحسن الحال. وبينما يتصرف الناس في الحياة اليومية بشكل روتيني، وخارج نطاق الوعي معظم الوقت، نرى الوعي يتدخل عند بروز خيارات هامة مما يسمح برفع فاعلية التفكير والتبصر بالأحداث ذات الدلالة، والشغل على مقارنة نتائج الخيارات بين البدائل. من هنا نرى مدى خطورة تخدير الوعي، و إبقاء الناس في الانظمة المتسلطة على مستوى التفكير  و السلوك الآلي الروتيني على مستوى المعاش، والحيلولة دون التبصر بالذات والواقع وتدبر وسائل الفعل والمبادرة  لتغييرهما.

لكن رغم ذلك فإنه ليس على الإنسان تحمل جحيم أن لا يكون؛ لذلك يقول نجيب محفوظ بأنه لكي يبقى الإنسان إنسانا فعليه أن يثور مرة في كل سنة. إن الحياة تجدد ذاتها، فيزول مهزومون و يظهر بديل لهم، و يترك الإستسلام مكانه للمواجهة و النضال المدفوع بتفاؤل ظفر الحياة على الموت.

و النضال الإجتماعي والسياسي، باعتباره فعل أو سلوك بشري، يمكن أن يخضع لمجموعة من القوانين، أهمها:

القانون الأول : قانون الكل أو الجزء

إن الحركات النضالية لا تخضع لقانون الكل او لا شيء؛ لأنها لا تتطلب انخراط كل المجتمع من أجل التشكل أو الإنطلاق، بل يمكن أن تبدأ بفرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد. كما أن نتائجها أو تاثيرها لا يرتبط بالضرورة بكمية أو بعدد أفرادها بقدر ما ترتبط بنوعية وطبيعة مكوناتها. فيمكن لعدد قليل من الأفراد أن يحققوا ما عجز عنه عدد كبير من الأشخاص. كما أن الحركات الكبيرة تعتمد و تسبقها دائما حركات صغيرة قادرة على الحركة بسرعة أكبر و بشكل مستمر.

إن كل حركة تغييرية تحتاج إلى ثلاث شرائح مختلفة، كما يقول جاسم سلطان في كتابه (قوانين النهضة). تعبر كل شريحة عن طبيعة المرحلة التي بها الحركة التغييرية. هذه الشرائح الثلاث هي: شريحة البدء وشريحة التغيير و شريحة البناء.

الشريحة الأولى هم الرعيل الأول من الناس الذين يجتمعون حول فكرة ما في مجتمع ما في مرحلة ما، ويستعدون للتضحية من أجلها. و ليس بالضرورة أن ينتمي كل أعضاء شريحة البدء لطبقة إجتماعية معينة، بل قد يكون هناك خليط من أكثر من طبقة أو شريحة.

القانون الثاني: قانون الاستمرارية و الصراع

النضال حركة و سيرورة مستمرتان عبر الزمن، لا يمكن أن يتوقف مادام هناك ظلم أو صراع بين الخير و الشر، ومادام هناك جهات أو سلطة تخرق القانون بإسم القانون و تحكم بقانون القوة وليس بقوة القانون.

إن المجتمع البشري، كما يقول علماء الاجتماع، لا يمكن أن يخلو من مشكلات وهذه المشكلات هي رمز حياته و شعار حركته الدائبة. فالمشكلة تحفز الناس على معالجتها. وبهذا ينقسمون ويتصارعون. لكن المجتمع ينتفع من هذا الصراع الجاري وراء المصالح الذاتية. 

و يرجع البروفيسور كارفر التنازع البشري إلى سببين، و هما: استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها وحب الإنسان نفسه و تقديره أكثر مما تستحق في حقيقة أمرها. و يعتبر كفاح المواطنين ضد السلطة، المضطهدة بطبيعتها، عاملا من عوامل الصراع، كما عبر عن ذلك موريس ديفرجيه في كتابه (مدخل إلى علم السياسة)، فالشعب يعتبر الحكومة شرا لابد منه. ولذا فهو تجاهها يقف موقف المعارض بالغريزة. 

في المقابل  تخشى السلطة الجماهير في تجمعها وتجمهرها؛ كيف لا ونحن نجد أن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهددها أي شيء. و هي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار. إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير، كما عبر عن  ذلك غوستاف لوبون في  كتابه (سيكولوجية الجماهير). لقد أصبح صوت الجماهير راجحا و غالبا. فهو الذي يملي على الملوك تصرفاتهم. ولم تعد مقادير الأمم تحسم في مجالس الحكام، و إنما في روح الجماهير (تشكيل النقابات مثلا). 

إن تناوب الحكومات والمعارضة على السلطة يعد مظهرا آخرًا من مظاهر الصراع. فالحزب المسيطر، يستبدُ بالحكم، ويفقد قوته، ويمكن القول أن كل سيطرة تحمل في طياتها عناصر تدميرها. إن تفكك الحزب المسيطر حسب هتشك، الذي وضع قانون تفكك الحزب الأكثري، يرجع إلى عمليتين أساسيتين. فمن جهة تضطر ممارسة الحكم الحزب إلى تخفيف علياء برنامجه، وإلى عدم الوفاء بالوعود المقطوعة للناخبين وفاء تاما. إذا فلابد من أن يخيب أمل نسبة معينة منهم، بطبيعة الحال، فيرحلون أصواتهم نحو الحزب الخصم. ومن جهة ثانية يثير العمل الحكومي اختلافا داخل الحزب الأكثري. ويزداد الإنشقاق خطورة بين يسار لا يساوم ويمين معتدل و مساوم. و في جهة المعارضة يبقى الحزب أكثر اتحادا منه في الحكم. فمهما يكن النزاع فيه، فإن أعضاءه يبقون على إتفاق لمقاومة هذا الحزب الذي يحكم بغية الحلول مكانه. فإذا تم ذلك، ظهرت الخلافات إلى النور. و هكذا يؤدي استلام الحكم إلى عملية تفكك في الحزب تضعفه لمصلحة خصمه. و بالطبع ينزع هذا الأخير إلى أخذ مكانه. فإذا تم له ذلك، تعود عملية التفكك إليه و لمصلحة المغلوب. فالحزب الذي يناضل من أجل العدالة لا يستطيع أن يحقق هذه العدالة كاملة اذا وصل الى منصة الحكم. إن العدالة المثالية التي يحلم بها المعارضون المكافحون لا يمكن تحقيقها أبدا،  و ذلك حسب رأي علي العمري في كتابه (مهزلة العقل العربي). لكن الحزب المعارض يقوم بوظيفة اجتماعية كبرى حين يكافح من أجل العدالة.

 

إن الجهل بقوانين النضال و شروطه قد يؤدي إلى تفكك وتعطل الحركات النضالية، وما نراه الآن من كثرة أحزاب و نقابات لا يعكس قوة، بل و مظهر من مظاهر الضعف والتفكك. فتغير أو تعدد الألون الحزبية والنقابية لا يعني بالضرورة تعدد أو تنوع في الأفكار و المشاريع و البرامج.

إن كثير من التنظيمات النضالية بالدول المتأخرة يمكن أن ينطبق عليها ما عبر عنه موريس ديفرجيه في كتابه (الأحزاب السياسية)، عندما قال بأنها: " أحزاب شاخت ومالت إلى الاندماج في النظام القائم و خاصة إذا تطور هذا النظام في اتجاهها. هذه الاحزاب تأخذ  مظهرا شكليا فتقوم شيع متخاصمة تتزاحم على السلطة باستعمال الأصوات كعجينة طرية تدعك حسب الطلب".

ولعل بروز ما يسمى بالتنسيقيات أو المجموعات النضالية، التي أصبحت تناضل بعيدا و من خارج الأحزاب والنقابات، لدليل واضح على حجم الأزمة التي تمر بها هذه التنظيمات التقليدية.

و التنسقيات ليست حركات نضالية عشوائية أو فوضوية، بل هي تنظيمات منظمة؛ تتكون من مجموعة الأفراد، الذين يجمعهم هدف أو مطلب مشترك، موزعين على  مهام وأدوار،  وذلك عبر لجان ومكاتب، لتسهيل عملية التواصل بين مكونات التنظيم من جهة وبين التنظيم والتنظيمات الأخرى من جهة أخرى.

لكن استمرار هذه التنظيمات الجديد وفعاليتها يتطلب الأخذ بعين الإعتبار، بعض القواعد و الشروط، والتي تتجلى فيما يلي:

1- ان المناضل او النضال درجات و مستويات، يتأرجح بين المصلحة الخاصة و الصالح العام أو بين ما هو ذاتي و بين ما هو موضوعي. لذلك يصعب نظريا التمييز بين المناضل الحقيقي و المناضل المزيف، فالفيصل بينهما الميدان و تحدياته. و بالتالي فالنضال هو سلوك وممارسة قبل أن يكون عبارة عن كلام أو خطابات ونظريات. أما المناضل فيجب أن يكون ضميرا ومبدأ يمشي فوق الأرض و بين الناس، في زمن يعاني فيه الضمير الإجتماعي من ثقوب واختراقات، بسبب تعقد الحياة و غياب القدوة. إن سد هذه الثقوب،  كما جاء  في كتاب (ثقوب في الضمير) للمؤلف أحمد عكاشة،  يتطلب إيقاظ الضمير الإجتماعي العام بالحرص على أن يطمئن الضمير الفردي.

2 - تماسك التنظيم أو الحركة مرتبط بوجود هدف مشترك، يربط ولا يفكك. فالهدف القابل للتجزيء أو التفكك قد يؤدي إلى تفكك الحركات النضالية أمام التحديات و العراقيل أو الشروط التي تضعها الجهات النقيضة. يقول العلماء بأنه كي يتحقق الانتماء الحقيقي يجب أن تتوفر هذه العناصر : العضوية، التأثير المتبادل، إشباع الرغبات والهدف المشترك.

3- يجب تقبل الآخر وآرائه وحريته في التعبير، لكي لا يتحول الانتماء إلى تعصب وصراع بين الأفراد والمجموعات أو الجماعات. و لكي لا يتحول التنظيم إلى نظام مغلق يسقط البعد الطيب على كيانه الداخلي ويسقط الدلالات السلبية و مشاعر الحذر و الخشية و العداء على الخارج. عكس الانظمة المفتوحة على العالم الخارجي: فهي تغذية و تتغذى منه، و بالتالي تنمو و تتطور و تتغير.

4 - لا يجب ربط المطلب أو الهدف بتاريخ أو بشكل نضالي أو بخطوة نضالية. فاحيانا إنجاز خطوة أهم من حجم هذه الخطوة و السبب أهم من النتيجة. 

5- تقسيم الأدوار و المهام والتناوب عليها يقتصد على الجهد و يعطي نفس أطول للحركة.

6 - التواصل المستمر بين أفراد الحركة مهم جدا، إذ يسمح باختزال المسافة و مشاعر انعدام الثقة بين مكوناتها. أما الإنفراد بالمعلومات أو بالقرارات و عدم الرجوع للمكونات الاخرى قد يكسر الروابط بين هذه المكونات. و قد عبر عبد الرحمان النوضة عن هذا الشرط المهم، في كتابه (فن النضال)، عندما قال بأنه: " يجب العمل بأسلوب المحاسبة المستمرة و كذلك بأسلوب المراقبة المستمرة. وعندما يظهر أن بعض الأفراد متفوقون، فإن هذه المظاهر لا تبرر تقديس الفرد، أو إلغاء دور الجماعة ".

إن العصر الحديث فرض مفهوما جديدا هو البطولة الجماعية و السبب الحقيقي الذي يمنع من التعاون و تقبل فكرة فريق العمل، هو أن الجميع يريد ان يكون القائد.