في إطار فعاليات اليوم الأول من الملتقى الفكري رمضان الإسلام، استضاف عمران الحضارة الشيخ محمد الحسن ولد الددو من موريتانيا والذي قدّم مداخلة حول موضوع "كيف نحافظ على تربية الروح في رمضان؟" وذلك يوم 08 أبريل 2021. تقرؤون فيما يلي نص المداخلة كاملا.
تزكية النفس فريضة عينية يساعد رمضان في تحقيقها
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر وهي: العقل الذي شرفه به على سائر الحيوانات والروح التي هي نفحة غيبية من أمر الله والبدن الذي هو من تراب، وعلى أساس هذه العناصر الثلاثة جاء الدين مؤلفاً من ثلاثة عناصر وهي: الإيمان الذي هو خطاب الله للعقل والإسلام الذي هو خطاب الله للبدن والإحسان الذي هو خطابه للروح، والروح هي العنصر الأسمى في الإنسان وليست من العالم السفلي الذي نحن فيه الآن ولذلك في هذه الحياة يغلب عليها البدن كما أنه بعد الموت في الحياة البرزخية تغلب الروح على البدن الذي يأكله التراب ويعود إليه، أما في الحياة الأخروية فيستوي الروح والبدن وتكون هي الحياة الحقيقية كما قال الله تعالى: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون"، وبما إن بدن الإنسان قابل للازدياد حيث يُولد صغيراً ثم لايزال في نمو وتطور حتى يكبر وبعد ذلك يرجع إلى ضعف وشيخوخة ثم بعد ذلك إلى الموت، وكذلك هي روحه فإن الله يُخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً كما قال تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" ثم بعد ذلك يأتي ما يُوفق الله له من التطوير لهذه الروح وهذا هو الذي يُسمي بتزكية الروح.
فتزكية الروح فريضة عينية على كل فرد من أفراد المسلمين، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى أحد عشر قسماً في كتابه على فلاح من زكاها وعلى خسران من دساها، قال تعالى: "قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها"، وبذلك يُعلم أن على كل إنسان أن يجتهد في تزكية نفسه وفي تحسين أدائه فيما خُلق من أجله وهو عبادة الله سبحانه وتعالى والاستخلاف في الأرض.
ولذلك لا شك هناك مواسم تعين عليه ومنها هذا الشهر وهو شهر رمضان، فهو شهر روحي ترتبط فيه الأرض بالسماء وذلك لما ميزه الله به من الفضائل العظيمة منها نزول القرآن فيه ومنها ليلة القدر التي فيها تتنزل الملائكة والروح، ومنها أن الله جعل صيامه ركن من أركان الإسلام وجعل قيامه كذلك مُكفراً للسيئات وجعله شهراً للراحة من متاعب الدنيا وهمومها، ينتصب فيه العابد لعبادة ربه ويتصل فيه ويعمل عبادات مستمرة كعبادات الملائكة الكرام، فالملائكة الكرام هم الصنف الأسمى منا ونحن بين صنفين هذا الصنف الأسمى وهم الملائكة عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون و يسبحون الليل والنهار لا يفترون، خلقهم الله للطاعة وسخرهم لها ولم يمتحنهم بالشهوات، والصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي فسلط الله عليه الشهوات ولم يمتحنه التكاليف والعبادات، ونحن بين الصنفين فنحن ممتحنون بالشهوات مكلفون بالعبادات والطاعات فمن أدى التكاليف ولم يلتفت للشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة الكرام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو به ماهر مع السفرة الكرام البررة"، ومن أتبع نفسه هواها واتبع الشهوات ولم يؤد التكاليف التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي فيكون كالبهيمة كما قال الله تعالى، لذلك على كل إنسان أن يجتهد في تزكية نفسه في هذا الموسم العظيم الذي أعاننا الله فيه على كل أعدائنا.
ما هي الجبهات الخمس التي يقوينا شهر الصيام على الجهاد فيها؟
الإنسان فُتحت عليه خمس جبهات يُجاهد فيها جميعاً مدة عمره، الجبهة الأولى جبهة الشيطان الذي يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ويسعى لإغوائه وإذلاله وهذه الجبهة أعاننا الله عليها في رمضان بتصفيد مردة الشياطين وهم أقواهم وأعتاهم من بداية رمضان إلى نهايته، والجبهة الثانية هي النفس الأمارة بالسوء التي بين جنبي كل واحد منا لا ترضى منه إلا أن يكون من المطففين يأخذ كل حقوقه ولا يُسامح في شيء منها ولا يسعى لأداء الحقوق التي عليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا وهذه النفس أعاننا الله عليها في رمضان بما أوجب علينا من الصيام فإنه استغناء عن شهوتي البطن والفرج وما يقوم مقامهما؛ وكذلك في القيام فإنه مناجاة لله وسماع لكلامه وتهذيب للنفوس بهذه الصلاة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر.
والجبهة الثالثة إخوان السوء وهم القرناء من أهل الدنيا الفتانون الذين يشغلون الإنسان عن طاعة ربه وتصل إليه ظلمة سيئاتهم في بصيرته وقلبه ويفسدون وقته الذي هو رأس ماله في غير الفضائل؛ وهؤلاء هم أعداؤه يوم القيامة كما قال الله تعالى: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" وقد أعاننا الله على هذه الجبهة في شهر رمضان فهم مشغولون لا يأتونك بالنهار لأنهم يتبعون شهواتهم ولا يجدونها لديك ولا يأتونك في الليل لأنك مشغول عنهم بالقيام، والجبهة الرابعة مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها وقد أمرنا الله بالإعراض عنها فقال تعالى: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى" ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا فإنها خضرة حلوة وإن مما يُنبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يُلم إلا آكلة الخضر فإنها ركعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس ثم اجترت وبالت وثلطت ثم عادت فأكلت، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع".
فرمضان أعاننا الله به على الدنيا فإن الإنسان لا يجد نفسه متبعاً لها لغناه عنها بصيامه فهو غير محتاج للمآكل والمشارب والشهوات وكذلك يزهد فيها بقيامه وإقباله على الله تعالى ويرغب في الآخرة فتكون الدنيا في يده لا في قلبه ويترف فيها ويجعلها مطية للآخرة وزاداً لها ويأخذها من حلها ولا يأخذها من حرمها ويضعها في محلها ولا يضعها في غير محلها.
والجبهة الخامسة حبوب النفوس فكل منا له أمور ترغب نفسه فيها وتهواها كحب الرئاسة وحب الانتقام وحب الشهرة وحب التملك وغير ذلك من حظوظ النفوس وهذه أعاننا الله عليها في هذا الشهر الكريم بالقرآن والصيام كذلك وبهذا يتحرر الإنسان من هذه الجبهات فيُعان عليها عوناً عظيماً ويبقى ما يجب عليه هو أن يبذل جهده في تهذيب نفسه في هذا الشهر وترقيتها فهو دورة كاملة للتعويد على التقوى وهي دورة تدريبية لأن نكون من المتقين كما قال الله سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" ولكن هذه الفرصة ليست لكل الناس وليست لكل الصائمين وليست متاحة لكل أحد فهي فرصة عظيمة فيا رب صائمه لن يصومه ويا رب قائمه لن يقومه وكثير من الذين يُخططون الآن لرمضان لا يصلون لرمضان ولا يأتي رمضان إلا وهم تحت التراب، قد قدِموا إلى ما قدَموا وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وكثير من الذين يشهدونه ويحضرونه لا يعود عليهم رمضان مرة أخرى وينتقلون من هذه الدار إلى الدار الآخرة قبل ذلك؛ فهي فرصة يغفل عنها الغافلون وينبغي أن ينتبه لها العاقلون، فالعاقلون يعلمون أنها فرصة قد لا تتكرر وأن عليهم أن يستغلوها غاية الاستغلال وأن يُبادروا للطاعات كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بادروا بالأعمال سبعة، فهل تنتظرون إلا غنى مُطغيا أو فقراً مُنسيا أو مرضاً مُفسدا أو هرماً مُفندا أو موتاً مُجهزا أو الدجال فالدجال شر غائب يُنتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" وإفساد الوقت في رمضان تعوّد الناس عليه في هذا الزمان وعملت عوامل الحضارة المعاصرة على إضاعة أوقات الناس فهم مشغولون في كثير من الأوقات بتتبع الشاشات والمواقع وسماع الأخبار وكذلك تتبع الصور والنكات وغير ذلك وأيضاً كثير من الناس يُولع باللعب فيه ويظن أن ذلك سيُعينه على شغل الوقت والتخفيف عن نفسه والواقع أنه يقتل وقته ويقتل نفسه بذلك، ونظير ذلك أيضاً كثرة التسوق ورؤية البضائع وجلوس الكثير من الأوقات في أبغض البقاع إلى الله وهجر أحب البقاع إلى الله وأحب البقاع إلى الله أحياناً يُحال بينها وبين الإنسان كما هو الحال في بعض البلدان الآن وقد أُغلقت المساجد بسبب هذا الوباء نسأل الله أن يرفعه وأن يفتح مساجدنا ومقدساتنا، فلا شك أن انشغال الإنسان بالذي هو أدنى هو سفه، وأحب البقاع إلى الله هو مساجدها وأبغض البقاع إلى الله أسواقها.
وأيضاً من عوامل الحضارة المعاصرة التي تشغل الإنسان كثيراً هو كثرة ما يتجدد لدى الناس من الموضات في الطعام والشراب والتنوع والمبالغة فيه لذلك حسب بن آدم بضع لقيمات يقمن صلبه وتتبع ذلك لا أشك أنه يزيد الإنسان غفلة ومحبة للدنيا وتعلقاً بها وفي ذلك ضرر ماحق على روحه الشريفة التي ينبغي أن يمنعها من هواها وأن يسمو بها عن هذه الأمور التي ما خُلقت لها وانشغاله بما ضُمن له عما أوجب عليه سُفهٌ والله سبحانه وتعالى ضَمن لنا الرزق فقال: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها" وأمرنا بعبادته وطاعته والتقرب إليه.
رمضان فرصة عظيمة تأتي كل سنة مرة.. فهل من مستجيب؟
وهذه القربات التي ينشغل بها الصالحون في رمضان هي مسابقة في الخيرات ومسارعة بها وأن هذا السباق المعهود بين العابدين إلى الله سبحانه وتعالى يفوز به أقوام يعتق الله رقابهم من النار ويخرجون من رمضان كيوم ولدتهم أمهاتهم وتُكفر عنهم سيئاتهم فرمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، وكذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وبالأخص ليلة القدر فإن الإنشغال عنها لاشك أنه سفه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حُرمها فقد حُرم الخير كله" فهذه الليلة العظيمة من وُفق لقيامها إيماناً واحتساباً ازداد عمره على الأقل بأربعة وثمانين سنة وستة أشهر لأنها خير من ألف شهر وخير في أصلها أفعال تفضيل وغالباً أغناهم وخيرهم وشرهم عن قولهم، وأفعال التفضيل غير محصورة فيُقال هي خير من ألف شهر بألف شهر أي بمليون شهر أو بمليار شهر والله أعلم بالخيرية لِأن الناس يتفاوتون فيها فمنهم من يكون التضعيف في حقه كبيراً ومنهم من يكون دون ذلك، ولكن أقل الناس شأناً فيها من تكون خير من ألف شهر وبذلك يربح هذا العمر الطويل، فإذا كان ذلك العمر جميعاً في طاعة الله فقد ربح ربحاً مضاعفاً هائلاً، وكذلك فإن التعرض لنفحات الله سبحانه وتعالى والتعرض لاستجابة الدعاء في هذا الشهر الكريم الذي هو موسم من مواسم الإجابة وللصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه وللصائم دعوة لا تُرد وكذلك لله عتقاء من النار في كل ليلة من ليالي رمضان وكذلك في الليلة الأخيرة من رمضان يُعتق الله الصائمين من النار، قيل أليلة القدر هي؟ قال لا ولكن الصائم يُوفى أجره عند نهاية عمله.
وكذلك من الملهيات التي تشغل الناس في هذا الشهر الكريم هو كثرة ما يسعى إليه الناس من المكاسب فيجعلونه موسماً للتجارة والإيجار والإنشغال بالمكاسب الدنيوية وفي كثير من الأحيان يسعى الناس فيه سعياً حثيثاً ليُحصل فيه أرباحاً هائلة ويظنون أنهم سيحصلون فيه رزق السنة بكاملها وذلك في الأشهر الأخرى متاح وأما هذا الشهر فالأفضل أن ينشغل الإنسان بالطاعة والعبادة وإذا انشغل بالكسب يجعله عبادة وذلك بالنية ويجعله على قدر ليس فيه مبالغة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن المبالغة في كل شيء وبالأخص في طلب الرزق فإنه بين أنه من المطلوب أن يُشمل الإنسان في الطلب والإشمال في الطلب يقتضي من الإنسان أن يعمل ولكن يتوكل على الله ويعلم أن ما كُتب له سيناله وأنه لا يُمكن أن يُنقص منه شيء.
وكذلك من الملهيات التي تشغل كثيراً من الناس عن تزكية أنفسهم في هذا الشهر ما يكونون عليه في كثير من الأحيان من المجالس واللهو والمناقشات في غير طائل، وهذه عبارة عن إضاعة للأوقات ولذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف، وكان يعتكف في مسجده هذه العشر وقد اعتكف العشر الأوائل فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلبه أمامك فاعتكف العشر الأواسط ثم قال إن الذي تطلبه أمامك فاعتكف العشر الأواخر ولم يزل يعتكفها صلى الله عليه وسلم.
والاعتكاف هو عبارة عن التخلص من الدنيا وراحة عن الانغماس فيها والإقبال على الآخرة كأنك في قبرك وأنت مُقبل على الله سبحانه وتعالى، ولذلك يلزم الإنسان فيه مكاناً واحداً من المسجد يجلس فيه للطاعة والعبادة ويُحاول فيه استغلال الوقت جميعه فيما يوفقه الله له من الذكر والقراءة الدعاء والتفكر والإقبال على الله سبحانه وتعالى نوع من أنواع القربات، وهذا الذي تحصل به تزكية النفس وتطهيرها من الأدران والسيئات والتخلية قبل التحلية ولا شك أن تخلية الإنسان عن السيئات وتطهيره منها وتخليته أيضاً عن سوء الخلق وما يقع فيه من الأغلاط في معاملة الناس وذلك معين له على الإنطلاق في الطاعات؛ فكثير من الناس تقيده السيئات عن الإقبال على الطاعات. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يُوفقنا وإياكم لفعل الخيرات وترك المنكرات وأن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى البر والتقوى وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل وأن يُفرج هموم هذه الأمة وأن ينصر المجاهدين في سبيله.