نحن أمة مهما طال بها الزمن واشتدت بها الظروف نلجأ دوما إلى تعظيم الماضي، لطالما كنا أمة لا تحب أن تتكلم عن مستقبلها ولا حاضرها، بل نجعل الصدر للماضي، وننظر للحاضر والمستقبل من خلاله، وحتى لو تحدثنا عن المستقبل فإننا نتحدث عنه باعتباره منتهيا، والحق أنه يجدر بنا أن نقف وقفة جادة مع حاضرنا وماضينا إذا أردنا أن نصنع مستقبلا مختلفا.

وأنا إذ أتحدث عن المستقبل فلست أتحدث عن العلوم المستقبلية القائمة على الظن والتخمين، بل أتحدث عن المستقبل المقدر القريب القادم، وقد كان ضياء الدين ساردار يقول: "عندما نتحدث عن مستقبل الأمة الإسلامية فهناك 3 أنواع من المستقبل؛ المستقبل القريب وهو خلال الأعوام الخمسة القادمة، ومستقبل الجيل ويمتد عشرين عاما، ومستقبل الأجيال ويمتد إلى أكثر من خمسين عام".

وهذه الأنواع الثلاثة كلها يمكن قياسها وفهمها والعمل عليها، ولا يمكن لعاقل أن يقول أن من غير الممكن أن تعلم، فالله جعل سننه جارية في الكون والأمم، وباستخدام تلك السنن، نستطيع أن نعرف إلى أين تتوجه كل أمة -خاصة أمتنا- إن نحن أعملنا عقولنا ومخابرنا، فاليوم هو مستقبل الأمس، وماضي الغد، وبقدر ما أن اليوم هو أثر البارحة، فإن الغد قطعا هو أثر اليوم، (ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا).

على مر تاريخ أمتنا، استخدم المسلمون منهجين لقراءة المستقبل، كلاهما منهج خاطئ وكلاهما أنتج كثيرا من الأخطاء التي يصعب حصرها الآن. 

أما المنهج الأول فهو منهج أدبيات آخر الزمان، وأقصد بها تلك النصوص التي تدور من حيث الأصل حول أشراط الساعة ونهاية العالم وقيام القيامة، فكنا مثل الذي ينعى ابنه حين ولادته، أو يواسي زوجين في عرسهما لطلاق أكيد قادم، وقد أنكرنا على الفكر الغربي فكرة نهاية التاريخ التي صدع بها فوکویاما رؤوسنا ردحا من الزمان في ذات الوقت الذي أعلنا فيه نهاية العالم لا نهاية التاريخ فحسب.

والمنهج الثاني هو منهج أدبيات الفتن والملاحم، الذي ينظر إلى تاريخ الأمة من خلال اختلافاتها ويلبس نظارته السوداء التي التقطها من الأمس لينظر بها إلى المستقبل، فأنّى له أن يرى غير السواد؟!

والكلام هنا ليس عن صحة الأحاديث وضعفها، ولا عن علل متونها أو قوة أسانيدها، أقول هذا وأنا متخصص في الحديث النبوي الشريف، بل إن الكلام هنا هو عن تمرکز قراءة مستقبل الأمة حول تلك النصوص، وجعلها نقطة انطلاق للمستقبل، فأحاديث سیدنا -صلى الله عليه وسلم- توجيهات ملزمة، لكن الداء كل الداء هو في فهمنا لتلك التوجيهات أو في وضعها في غير موضعها أو تحميلها ما لا تحتمل.

وكلا المنهجين أعلاه منتشر كثيرا في تراث الشيعة، لكنه تسرب بطريقة أو بأخرى إلى تراثنا نحن ليمسك المستقبل من خناقه، لتكون نبوءة محققة لنفسها من خلال فرض تصوراتها على حاضر الأمة ومستقبلها. فكيف نتحدث عن حضارة إسلامية ونحن نعلن نهاية العالم؟! وكيف نبني أوطاننا ونحن نعلن خرابها؟!

وهذه الروايات عن السفياني والخراساني واليماني وغيرها، حولت العالم الإسلامي من أمة تنظر إلى المستقبل بأمل وشغف للعمل والبناء وتحقيق الاستخلاف كما يريد منا القرآن وآياته على ذلك شهود، إلى أمة غارقة في اليأس والسلبية وانعدام الأفق والمستقبل، فأعلنا نهاية الأمة من الآن وجلسنا نناقش علامات الساعة والقيامة ويكأنها غدا.

وفي هذا خطأ كبير جدا على مستوى الوعي الجمعي لهذه الأمة المحمدية التي اختارها الله وسط بين الأمم. حتى حديث سيدي صلى الله عليه وسلم المشهور (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها) سرق من سياقه وصار يذكر في المناسبات الزراعية وعيد الشجرة، بعيدة تماما عن رسالة العمل للمستقبل التي كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يغرسها في العقل الجمعي لأمته.

والحاصل أن تلك المرويات الصحيحة منها وغير الصحيحة، لا يصح بحال من الأحوال أن تصبح مركز نظرتنا إلى المستقبل الحضاري لأمتنا، وإلا فنحن نحكم على أمتنا بالموت قبل الولادة، ونأخذ بيدها إلى دار العجزة في شبابها، لنمضي حياتنا بعيدا عن تكليفات البناء الحضاري وأسئلة النهضة التي قد تعكر على صفو لهونا.

هناك في القرآن مصطلحات أربعة تدور حول إعمال العقل في الأحداث: التذكر والتفكر والتدبر والتأمل،

أما التذكر فهو إعمال العقل في الأحداث الماضية، وأما التفكر فهو إعمال للعقل في الأحداث الحالية، وأما التدبر والتأمل فهما لإعمال العقل في الأحداث المستقبلية، والقرآن هنا يوجه أنظارنا دائما إلى الخطوة التالية، خذوا العبرة من الماضي وانطلقوا إلى الحاضر لتبنوا مستقبلا أفضل وتكونوا خلفاء الله في أرضه حقا، لكن لا يمكن التذكر دون ذاكرة وتاريخ، ولا يصح التفكر دون فکر، ولا يجوز التدبر دون تدبير، ولا مجال للتأمل دون أمل.

 العشوائية والفوضوية في أحوالنا، ونظرة اليأس والسلبية إلى مستقبلنا يجبرنا أحيانا إلى العودة إلى الماضي لتبجيله وتعظيمه بل وتقديسه أحيانا، لا نفتأ نذكر الماضي في كل جلسة وكل مؤتمر، وحتى في نظرنا إلى الماضي الذي تحبه مجدنا متفرقين ذوي أخطاء، وتختلف ونشتاق في نظرتنا إلى الماضي ثم ننقل خلافات الماضي لنحييها في حاضرنا وننقسم بناء عليها بل ونأتمن الأجيال القادمة من المسلمين على حفظ الخلاف، ویكأننا والله حتى نخشى من تلاوة قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون).

ولقد تعاملنا مع الماضي أيضا بمنهجين لا يقلان خطأ عن المنهجين الذين تعاملنا بهما مع المستقبل، بل هما انعکاس منه أو نتيجة له، أولها منهج يمحو من تاريخ الأمة الإسلامية ما يقارب 1400 عاما، فيعتبره كله هباء منثورا، ولا يسمح باعتبار أي تاريخ للأمة بعد عهد الراشدين، فجعلنا أمة دون سند تاريخي ولا مستند حضاري ... أمة لا تاریخ لها.

والمنهج الثاني يعكس الحالة تماما فيقدس كل ذرة وكل شخص وكل حدث في تلك الـ 1400 عاما، ولا يقبل عليها خطأ أو نقدا فيحبس تاريخنا في برجه العاجي، ويجعله فوق مستوى الامتثال البشري وفوق مستوى الاعتبار، فتضيع أي فائدة من دارسته، ويذهب أي معنى من التفكر فيه، فهو مقدس لا تمسه الأيدي، خاصة الناقلة البصيرة منها، إفراط وتفریط. وكلاهما يبتعد عن العدالة بنفس المقدار.

في آخر قرنين ظهرت مجموعة من الأدبيات أحب أن أسميها بأدبيات: التقدم والتأخر (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟) وهذا المجموعة زاخرة بالكتب والمقالات والمرئيات والمسموعات، يمكننا ملء مكتبة كاملة منها، ونجد فيها كثيرا من الأخطاء، في تقدير المواقف وتحديد الدوافع، وفي قراءة الأحداث، ومعظمها مليئة بلغة رد الفعل، وعقدة النقص، وهوية الضحية، فضلا عن عقدة العقد ومشكلة المشاكل، ألا وهي تبرئة ساحتنا من أي ذنب فيما حصل، فنحن مجرد ضحايا الحرب الكونية، والمؤامرة العالمية، وليس لنا من الأمر شيء .

نرمي الحمل دائما على عاتق الغرب، مسميات مختلفة: إمبريالية، صهيونية، استعمار، استشراق وكأن المفترض بالغرب أن يرانا نسقط وينتظرنا بكل أدب أن نقوم وننفض غبار اليأس عن ذواتنا المتعبة حتى يتمكن من الصراع معنا مرة أخرى.

وقد رأت تلك الأدبيات جميعا أن الحل في الخروج من الحال الذي نحن فيه هو في السياسة أو الحراكات العسكرية فقط، لأنهم رأوا أن السقوط كان بسببهما، فالعلو لا بد أن يكون بسببهما أيضا، ولهذا نجد أن حركات التجديد والإصلاح جميعا لم يركزوا على قوة الأخلاق، بل ركزوا على أخلاق القوة، فطلبوا السلطة من خلال السياسة، فكانت السلطة عندهم فوق كل شي، طلبوا القوة والمنصب بدلا من العلم الروحي والترقي النفسي، نسوا قوة العلم والأفكار والاجتماع والفلسفة والفن، وركزوا على قوة السياسة، وظنوا أنهم إذ يصلون إلى السلطة فسوف تحل جميع المشاكل بتحصيل حاصل.

وعندما وصلوا إلى المناصب ووصلت السلطة إلى أيديهم، قالوا: أين حلول الثقافة؟ أين حلول العلم؟ أين إصلاح الفكر؟ أين رقي الفن؟ ونحن هنا، لا نتحدث عن تجارب عاشها بلد أو بلدان، بل هي حالة مطردة نعيشها كل يوم في كل بلدان أمة المسلمين.

أنا لا أخاف من صراع الحضارات، بل أخاف من فرقة تمزق الأمة، ولهذا يجب علينا لزاما أن نركز على الأصول والمقاصد، فنستخدم المنهج المقاصدي بالضوابط الأصولية، لأن علم الأصول -حين يتم أخذ عملية نشوئه وتطوره التاريخي بالاعتبار- ليس مجرد علم يعتني بإنتاج قواعد الفقه وبناء أسسها، فعلم الأصول علم مهم يرسم حدود المشروعية في إنتاج المعلومات الدينية، ويشكل أرضية الأفكار التي يضعها المسلمون على المستوى الفلسفي في مجال الفقه والأخلاق، والحفاظ على وظيفة الأصول في الحكم والتحقيق يكمن في الحفاظ على أهميته ولا أقصد بالقصد هنا مقاصد التشريع فحسب، بل تتعداها إلى جميع مقاصد الدين وغاياته، مثل: مقاصد التكوين، ومقاصد العمران، ومقاصد التنزيل، ومقاصد السنة، ومقاصد القرآن، ومقاصد التكليف.

فمقاصد التكوين هي الطرق التي تناول الغاية والحكمة من الخلق بجميع جوانبها، وتضفي معنى على الوجود وتؤمن فهما صحيحة للطبيعة والكون، ومقاصد العمران هي الطريقة التي تؤمن لنا فهم التاريخ والحياة الاجتماعية وتاريخ الحضارات، في إطار المبادئ المنسجمة مع "سنن الله تعالى"، ومقاصد التنزيل هي غاية الوحي والنبوة والحاجة إليهما، ومقاصد القرآن هي المقاصد الكلية التي يشير إليها القرآن الكريم، وليس معاني آيات القرآن آية آية، ومقاصد التي هي القدوة العالية التي تعبر عنها الأعمال المتكاملة التي تعبر عن غايات الرسالة، وليس الأعمال الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقاصد التكليف هي المقاصد الكلية التي تعبر عن علاقة الإنسان بالدين، وسيره في الحياة وفق أحكام الدين باعتباره مكلفا.

 ومقاصد الشريعة هي المقاصد الكلية في منظومة الأوامر والنواهي المتعلقة بالعاملات، وغني عن البيان أنه من غير الممكن فهم مقاصد الشريعة دون تحديد بقية المقاصد، قبل شهور افتتحنا في العاصمة التركية أنقرة مركز التفكر الإسلامي، الذي يهدف أساسا من خلال دراسات الأصول والمقاصد إلى أربعة أمور: تجديد الفكر، وإصلاح المنهج، وإحياء العلوم، وإعادة بناء الأخلاق، وهذه الأربعة جزء من منظومة نعتقد أنها المفتاح للنظر إلى المستقبل بعين المخطط الواثق، الذي يعتمد على سنن الله في خلقه وكونه، لنكون خطوة في طريق نهضة أخلاقية وعلمية وفكرية، تضرب عميقا في تاريخنا لتعيد المركزي إلى مركزه، وتبعد الهامشي إلى الهامش، وتضع الأمة في طريقها الصحيح نحو أمة تستحق استخلاف الله تعالى لها على هذه البسيطة.