الفلسفة الغربية التي قامت عليها حضارة الغرب هي فلسفة مادية. وحين نقول مادية، نعني بذلك أنها تنظر إلى الوجود كله، بما فيه الإنسان، على أنه مادة، وأن الوعي طارئ على هذه المادة وليس أصيلاً فيها. واستحقاق العلو لمادةٍ ما على الأخرى وفق هذه الفلسفة لا يكون إلا بقدر ما تمتلك من قدرة على التفوق. وكل ما سوى هذه الحقيقة إنما هو دبلوماسية ضمن إطار وعيٍ يكرس المزيد من القوة والتفوق عبر تغفيل العقول وتزوير الحقائق، دون أن يحمل في جوهره أي ذرة من القيم أو الأخلاق أو المشاعر، كما قد يظهر في الخطابات المخادعة.

فإذا كانت الفلسفة الغربية قائمة على قناعات صلبة تنتهي بالوجود إلى مجرد تفاعل مادي محض، فإن نظرتها إلى الشرق عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً، قائمة على البعد المادي المحض. وما عدا ذلك هو نظرة تابعة، وليست أصيلة مهما بدت مركزية في الخطاب المعلن.

وللسيطرة على موازين القوة في الشرق الأوسط، كان لا بد من وجود "كلب حراسة" يقوم بتكريس حالة معقدة من الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدان المنطقة.

بالطبع، ليس لدى الشعوب الغربية استعداد للتعاطي مع بيئة الشرق الأوسط بشكل مباشر. لذا، كان من المناسب اختراع أيديولوجية صهيونية تحقق مطالب نفسية وروحية ومادية لليهود في العالم، وتلعب في الوقت ذاته دور الحارس لتأديب من تسول له نفسه من حكام المنطقة الوقوف في وجه الهيمنة الغربية على ثروات المنطقة، التي هي أساس النظرة المادية كما أسلفنا.

حين نجحت فكرة إقامة الدولة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، تحولت العقلية الغربية من حماية هذا الكيان إلى فلسفة جديدة تتعلق بربط عروش الحكام الظلمة، الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، بحماية هذا الكيان. ليس فقط لضمان عدم مهاجمته، بل لضمان ربط بقائهم بحمايته، والتكفل بجعل جيوش المنطقة حائط صد بين الشعوب العربية المسلمة وهذا الكيان المجرم القائم على ثقافة الأمن المطلق.

استمرت الهيمنة الغربية على المنطقة بحماية تلك العروش، وإكسابها شرعية البقاء بشرط أن تضمن دوام التخلف والرجعية والحياة المهترئة لتلك الشعوب. هكذا، فنيت أجيال بأكملها، وظهرت أجيال أخرى لم تستوعب الفجوة الهائلة بين ما تعيشه وما تعيشه بقية شعوب العالم، فانتفضت لتطالب بشيء من الحرية والحياة الكريمة.

لكن بعض الأنظمة التي تماهت تماماً مع الرؤية الغربية للوجود، وانسلخت من المنطقة وبعدها الحضاري، تكفلت بإجهاض المحاولة الأولى لشعوب المنطقة فيما عرف بالثورة المضادة. وبهذا، انخرطت بشكل مباشر في تحالف "كلاب الحراسة" إلى جانب الكيان الصهيوني، معلنة ذلك صراحة ضد شعوب المنطقة وما تحمله من ثقافة وحضارة وتطلع إلى الحريات والحياة الكريمة.

عندما تمكن الطغيان من المنطقة بشكل عام، وواجهت الشعوب معادلة صفرية بين الحرية والكرامة والهوية الحضارية من جهة، وبين التخلف والظلم والقهر والاستبداد من جهة أخرى، بقي "الحارس" متيقظاً لتوجيه بقية القوى التابعة له، لتكريس هذه الحالة البائسة من التقهقر الحضاري الذي أصبح يبدو كأنه قدر محتوم لا فكاك منه.

لكن، وسط هذا الظلام الدامس، خرجت غزة!

غزة أعادت للأمة النموذج الحقيقي الذي يمثل تلاحم البعد الحضاري الأصيل للمنطقة مع نموذج الإنسان المسلم الحر، الذي لم يتربَّ تحت الأنظمة الاستبدادية الغاشمة، ولم تتلوث ثقافته بالتأقلم مع العبودية والطغيان. لقد خرّجت جيلاً أعاد الغرب إلى الصراع الحضاري من جديد، وصنع نموذجاً أصاب المادية الغربية في مقتل، بعد أن ظنت أنها تمكنت من إذابة القوة الفاعلة في الإسلام ببعده العقدي والسياسي والاجتماعي.

إن اعتبار فلسطين بوصلة الأمة ليس فقط بسبب المسجد الأقصى أو القدس. هذا البعد الروحي والأيديولوجي يُضاف إلى السبب الأهم، وهو أنها الموضع الذي يضع فيه "الحارس" قدميه في المنطقة. وبالتالي، فإن استعادة مقدرات المنطقة وحياتها الكريمة متوقفة على التخلص من هذا الكلب، ومن يسيرون على نهجه.

أما اعتبار غزة "بوصلة البوصلة"، فهو لسببين رئيسيين:

  • قدرة أهل غزة على التعامل المباشر مع هذا "الحارس"، وإدراكهم لدوره وخطورته في المنطقة ككل، مع العمل المتواصل على إشغاله بموقع قدميه فقط.
  • الحفاظ على النموذج الإسلامي الحضاري في المنطقة، الذي لا يزال يربط بين الأرض والسماء في نظرته للإنسان والوجود، بفاعلية ومشروعية لا تخطئهما عين.

من هنا تأتي خطورة غزة ونموذجها الحضاري، الذي لا يستهدف الصمود والمقاومة من أجل حياة مادية محضة، بل يستهدف الفلسفة الغربية برمتها. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم التوحش الذي أظهره المشروع الحضاري الغربي في مواجهتها، باعتبار ذلك حرباً وجودية ضد نموذج يُقدم نفسه كبديل للإنسانية جمعاء، رغم كونه الحلقة الأضعف ظاهرياً.

لذلك، أي حديث عن تأخير فلسطين عن البوصلة، أو غزة عن كونها "بوصلة البوصلة" في مشروع النهضة الحضاري، إنما هو تماهٍ -بشكل أو بآخر- مع السردية الغربية التي ترى المنطقة مجرد خزان مادي لا ينضب، ووقود روحي خطير إذا امتلك الحكم والسيادة.