لا شك أن التربية على النهج السليم والخلق العظيم والتزام قيمه وتمثل مبادئه حسا ومعنى، تحتاج إلى الاعتناء المبكر بالتربية، إذ هي الشيء الكفيل بضمان الطريق السليم إلى مستقبل زاهر وزاخر يحفظ عقول الناشئة وقيمهم ودينهم، فتهذب الأفراد وترقى بهم، كما تجعل المجتمع وحدة مترابطة عقائدياً ووجدانيا واجتماعياً. وإن النأيَ عن الاهتمام بالتربية المبكرة ونبذها وراء الظهور لسبيل جعل المجتمعات الإسلامية تعاني اليوم من التخبط والتذبذب في اختيار المنهج الذي يصلح للتربية بعدما تركت منهجها، فتراها تارة تسلك هذا المنهج وتارة ذاك المنهج، وكلما رأت مجتمعًا متفوقًا ويبني حضارة انبهروا به وأخذوا منه وعنه وحذوا حذوه وسلكوا مسلكه، متناسين إرشادات مناهجهم السامية وقيمهم الفطرية النابعة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، التي راعت جميع جوانب الإيمانية والإنسانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى في كل مستوياتها حيث لم تغفل جانبا إلا وأولته حقه ومستحقه فأقامت حضارة راقية بشقيها المعنوي والحسي. 

 إذا فالتربية هي تلك العملية البنائية التي تنشئ الطفل عقائدياً وعمليا شيئا فشيئا إلى حد الكمال الإنساني، وهي واجب ديني على كل راع في رعيته -الآباء على الأبناء- حيث أمرنا الله عزو جل أن نقي أنفسنا وأهلنا، وهذا لا يتأتى إلى بالتربية المبكرة على مبادئ الدين عقيدة وعبادة ومعاملة وخلقا، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾. وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "قوا أهليكم نارا: علموهم وأدبوهم"، وقال الحسن: "يأمرهم وينهاهم فيعلمهم الحلال والحرام ويجنبهم المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام"، وقال السمرقندي: "قوا أهليكم نارا أي بتعليمهم ما ينجيهم منها"، وقال البيضاوي:"قوا أهليكم نارا بالنصح والتأديب".

وإذا كان الأمر الاعتناء بالتربية قد بلغ ما بلغ من الأهمية، حيث انكب الناس على كل ما له علاقة التربية وما جرى مجراها، في حين قد أغفلوا الوقت المناسب لبداية عملية التربية البنائية المتكاملة... فيأتي السؤال المطروح متى تبدأ تربية الفرد على الإصلاح؟

لا شك أن تربية الفرد على الصلاح والإصلاح تبدأ في سن ليس كما يظن عامة الناس، حيث تبدأ في وقت مبكر جدا غير الذي اعتاده الناس، وهذا ما أبينه في هذا الطرح بإذن الله من خلال أربعة خطوات كفيلة بإذن الله لإخراج جيل صالح ومصلح قادر على خوض غمار هذا الاختبار الدنيوي بنجاح والذي سيتوج بفوز أخروي.

أولا: التربية الأولية المتمثلة في صلاح الآباء

كل منا يتمنى أن يكون أولاده صالحين ناجحين مميزين في حياتهم الدينية والدنيوية، ولما للآباء من دور هام وعظيم في تنشئة الأجيال والاهتمام المبكر بهذا الأمر وأثره العميق في نفوسهم الناشئة، كان لابد من تبصيرهم بروح رسالتهم التي ينبغي أن يسيروا عليها ويعلموها أولادهم، لأن الولد يتبع الوالد في حركاته وسكناته، فصلاح الأبناء مرتبط بصلاح الآباء، وإذا الأصل فسد الفرع، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.

قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ إنها قاعدة ربانية عظيمة، فمن أراد أن ينجي نفسه وينقذ أبناءه من بعده من الزيغ والضلال عليه بتقوى الله ومخافته. وإننا نرى بذل كثير من الآباء والأمهات جهودًا كبيرة في تربية أبنائهم وإصلاحهم وجعلهم أفرادًا نافعين بالاتكال والركون إلى بعض الأسباب المادية الظاهرية، ويغفلون عن كثير من الأسباب الخفية غير المباشرة التي قد يكون لها أثر عظيم في صلاح الأبناء.

إن صلاح الأبناء وحسن تربيتهم ليس وليد تميز في التلقين والتعليم فقط أو تميز في اختيار المدارس والمحاضن التربوية المناسبة، أو بذل للجهد والمال فقط.. وإنما هناك أسباب عبادية عظيمة يقوم بها الأب نفسه، من أهمها إكثار الدعاء والخوف من الله ومراقبته سبحانه وتعالى والعمل الصالح الخفي أو بر والدين أو قيام الليل أو صدقة جارية.

ومنه دعاء الأنبياء والصالحين بأن يرزقوا الذرية الصالحة قال تعالى على لسان نبيه ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وقوله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً * إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ وقوله تعالى ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا﴾. وغيرها من الآيات الدالة على صلاح الآباء قبل الأبناء وما للدعاء من أهمية بالغة في مقام التربية على الصلاح والإصلاح.

وكذلك من أجمل مَن استشعر هذا المعنى سعيد بن المُسَيب فقال: "إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي" يريد بذلك أن يصل إلى مرتبة الصالحين، فينال بصلاحه صلاح أبنائه من بعده. ويُذكر أن الإمام العابد "سهل التستري" كان يتعهد ولده وهو في صُلبه، فيباشر إلى العمل الصالح رجاء أن يرزقه الله الولد الصالح، وكان يقول: "إني لأرعى أولادي قبل أن يخرجهم الله إلى الدنيا" ويُحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد العلماء يسأله: كيف تكون التربية؟ فسأله العالِم: كم عمر ابنك الآن؟ فقال: أربعة أشهر، فقال العالِم: لقد فاتتك التربية! والمقصود هنا أن تربية الأولاد تبدأ مبكراً، قبل الإنجاب بل وقبل الزواج.

ثانيا: التربية في اختيار الزوجة الصالحة

       إن اختيار الزوجة الصالحة واختيار الزوج الصالح من الأعظم الأسباب الكفيلة بصلاح الأبناء دون شقاء أو عناء، فمن المعلوم أن اختيار الأم الصالحة من حقوق الأبناء على الآباء! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم" رواه ابن ماجه، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "اختاروا لنطفكم المواضع الصالحة" رواه الدارقطني. وقال سيدنا علي رضي الله عنه: "إياكم وتزوج الحمقاء؛ فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع"، وقال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: "قد أحسنت إليكم صغارا وكبارا وقبل أن تولدوا، قالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: اخترت لكم الأم من لا تسبون بها."

وهذا التوجيه النبوي الحكيم لم يأتي سدا، بل هو راجع لما للأم من مكانة عظيمة سواءً في الاعتبارات الدينيّة بالدرجة الأولى ثم الاعتبارات الاجتماعية والعرفية، فقد جعل الله برّها ووصلها بالحسنى فوق جميع الروابط الإنسانيّة فهي أساس المجتمع ونواته، وملكة البيت الأسري وصاحبة الدور الأعظم في بناء جيل ذا مستقبل زاهر وزاخر يحفظ دينه ويرضي ربه، فهي تستعد لإستقبال وليدها من لحظة علمها بوجوده بالحبّ وشغف، وتحسّ نحوه بروح المسؤولية الملقاة على عاتقها منذ خروجه إلى الحياة، فيبقى ملتصقاً بها فتمنحه الدفء والحنان، وتلقنه التربية المثلى النابعة من الكتاب والسنة الهادفة إلى الصلاح والإصلاح.

 ثالثا: التربية الرحِيمٍية

ومما شاع وذاع أن الأم بمجرد علمها بأنها حامل، لا تركز سوى على الراحة والأكل الصحي متابعة صحة الجنين ونموه الجسماني...لكن لا يكفي؟

والأصل أن بعدما يتم الزواج ويأذن الله بالحمل تأتي هذه المرحلة المهمة من التربية حيث يمكن للجنين سماع ما حوله من أصوات وتفاعل معها حين يبلغ عمره ثلاثة وعشرين أسبوعا، حيث يمكن للآباء استغلال هذه الفترة بدوام الذكر والشكر وتسميع الجنين من تلاوة القرآن، قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ هذا في الجماد فما بالك بالإنسان!! 

وإذا اعتادت الأم على قراءة القرآن بصوت عالٍ في بيتها فإن الجنين يعتاد هذا الصوت ويميزه عن غيره، مما يجعله ينصت كلما سمعه بعد أن يولد، فيكون محبًا للقرآن وأهله ومقبلًا على سماعه دون أدنى تردد، فيولد مرتبط بالقرآن بعاطفته ووجدانه فيزيد هذا من إقباله على حفظه بعد ذلك. كما تجدر الاشارة إلى دور الأب في تحري الرزق الحلال فلا يدخل للجنين طعام حرام، وكذلك أن تنأ الأم بنفسها عن التوتر والقلق وكل ما يكون سببا في إعاقة هذه العملية البنائية، فقد ثبت أن الجنين يتأثر بما تتأثر به الأم.

"فما أفسد الأبناء مثل تَغافل الآباء وإهمالهم واستسهالهم شَرر النار بين الثياب، كم من والد حَرَم ولده خير الدنيا والآخرة وعَرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله، وإضاعتهم لها، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حَرَمهم الانتفاع بأولادهم وحَرَم الأولاد خيرهم ونفعهم لهم هو من عقوبة الآباء."

رابعا: التربية في السنوات الأولى

إن الاهتمام بالطفل منذ الطفولة المبكرة وتربيته يكسب الطفل أخلاقا حميدة وعادات حسنة، أما إذا أهمل الطفل في هذه السن المبكرة، فقد تتمكن فيه الأخلاق الذميمة والعادات السيئة، ويصبح من الصعب الإقلاع عنها. و قد نادى ابن سينا بتعليم الطفل عندما يتهيأ ما يمكنه للتعليم، بداية بالقرآن الكريم، ومبادئ الدين والهجاء والكتابة والشعر.

 كما يرى الإمام الغزالي في كتاب "أيها الولد" ويسمى أيضا "أيها الوالد المحب" الذي عرض فيه آراءه في عشرين نقطة عن التربية الإسلامية للطفل، مما عرفت "بمنهج الإمام الغزالي في التربية الإسلامية" ومن أهم هذه النقاط التي تهمنا في هذا الطرح بالذات، حيث نادى بتكوين العادات الحسنة في الطفل منذ الصغر، بأن نعوده التبكير في النوم والتبكير في الاستيقاظ وتشجيعه على المشي والحركة الرياضية والبدنية."

 

كما أشار في معرض كتابه إلى "معاونة الطفل على إرساء قواعد الأخلاق الحميدة في نفسه، وتنمية الصفات الحسنة كالصدق والإخلاص وإرضاء الله في السر والعلن والتواضع والرحمة، والآداب العامة كالاعتدال بالكلام، والجواب على قدر السؤال، ومراعاة آداب الطعام واللباس، وتجاهل أخطاء الطفل في أول مرة ومعاقبته سرا في المرة الثانية، والحفاظ على كرامة الطفل ومشاعره، وتنمية إدراكه الحسي والعاطفي والعقلي، وتقبيح محبة المال في نفسه." 

ومما يحتاجه الطفل في السن المبكرة غاية الاحتياج، الاعتناء بأمر دينه وخلقه، فإنه ينشأ على ما عوده مربيه في صغره من حرد وغضب، ولجاج وعجلة وخفة مع ثبات، وطيش وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك وتصير هذه الأخلاق صفات من جنسه راسخة فيه، فلو تحرز منها غاية التحرز وأراد التخلص منها فضحته ولو بعد حين. إذ تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قبل التربية التي ينشأ عليها في صغره إذا أخذ إلى مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء، فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، ومن شب على شيء شاب عليه.

كما تجدر الاشارة في ختام هذا المقال، أن للقدوة الحسنة [1] أهمية بالغة في الحياة عامة وفي أمر التربية خاصة، فهي توفِّر الكثير من الوقت والجهد على الوالدين في تربية أبنائهم ومحاولة غرس السلوكيات الجيدة فيهم، فعندما يختار الطفل القدوة الجيدة فإنه يقلِّدها في السكنات والحركات، ومنه قول الشاعر:

وطِفلُ الفارسيِّ لهُ وُلاةٌ *** بأفعالِ التَمَجُّسِ دَرَّبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه

ختاما، إن التربية الإسلامية على الصلاح والإصلاح نظام تربوي متكامل المبنى، حيث يبدأ في سن مبكرة جدا إذ يقوم كل جانب فيه على تعاليم الإسلام وعقيدته ومفاهيمه ومبادئه ومقاصده، ولذا فهي تختلف عن جميع الأنظمة التربوية من حيث مصادرها والمقاصد، وبعض أسسها ومبادئها ومؤسساتها وأساليبها وخصائصها. 

وليَعلم كل مَن قصر في التربية، إن تغافل عن هذا الأمر فإن عاقبته ستكون أدهى وأمر وستعود عليه أيضًا في الدنيا والآخرة، يقول الإمام ابن القيم في كلام قيم: "فما أفسد الأبناء مثل تَغافل الآباء وإهمالهم واستسهالهم شَرر النار بين الثياب، فكم من والد حَرَم ولده خير الدنيا والآخرة وعَرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله، وإضاعتهم لها، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حَرَمهم الانتفاع بأولادهم وحَرَم الأولاد خيرهم ونفعهم لهم هو من عقوبة الآباء."