في عام 2050 سوف يتعين على كوكبنا توفير الغذاء لما يقرب من 10 مليارات نسمة وبحسب التقرير الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 17 يونية/حزيران 2019 فإن من المتوقع أن يرتفع عدد سكان العالم خلال الثلاثين عاما القادمة ليصل إلى 9.7 بحلول عام 2050 وسيزداد الطلب على الغذاء بنسبة تصل إلى 60% طبقا لتقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي مما ينذر بمخاوف توفير الغذاء والمحافظة على الأراضي الصالحة للزراعة خلال السنوات القادمة. وحيث أن القطاع الزراعي يعدّ جزءاً هاماً وحيوياً فى الإقتصاد العالمي ويلعب دورا رئيساً في تأمين الغذاء لسكان المعمورة، ولذا من الضروري زيادة كمية المحاصيل والزراعات الضرورية لتوفير الغذاء مع الأخذ فى الاعتبار المحافظة على الموارد المائية وخصوبة التربة فى ظل العديد من التحديات مثل التغيرات المناخية وزيادة تلوث التربة والمياه بالإضافة إلى أزمة تفشى وباء كوفيد-19 الذي أدى إلى انخفاض الإنتاج نتيجة نقص العمالة والقيود اللوجستية التى فرضتها الدول. لذلك كان لزاما على الحكومات والقطاعات الزراعية البحث عن طرق أكثر حداثة تتغلب على هذه التحديات من خلال تطويع التكنولوجيا الحديثة والتقنيات الرقمية فى القطاع الزراعي؛ لتحقيق الأمن الغذائى والتغلب على التغيرات المناخية وندرة المياه واأزمات المختلفة وهذا أدى الى ظهور مايعرف بمصطلح الزراعة الذكية Smart Farming.


 "الزراعة الذكية": المفهوم والأهداف

مفهوم الزراعة الذكية مفهوم جديد يشير إلى استخدام تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة وتقنيات المعلومات والاتصالات الحديثة فى إدارة المزارع بهدف تحسين جودة وكمية الإنتاج ورفع كفاءة إدارة الموارد الزراعية وترشيد استخدامها، ولذلك تعرف الزراعة الذكية بالثورة الخضراء الثـالثة بعد ثورة تربية النباتات وعلم الوراثة. 
يعتمد نظام الزراعة الذكية على استخدام التقنيات الحديثة مثل أجهزة الاستشعار عن بعد وأنظمة المعلومات الجغرافية وإنترنت الأشياء والطائرات المسيرة بدون طيار والذكاء الاصطناعي ونظم تحليل ومعالجة البيانات من أجل رفع كفاءة إدارة المزارع بداية من تسوية الأرض مروراً بوضع البذرة والري والتسميد ومكافحة الآفات والأمراض وحتى المنتج النهائي، حيث تتيح تقنيات الزراعة الذكية مراقبة نمو المحاصيل والتعرف على الآفات والأمراض قبل انتشارها، وتحديد كمية الأسمدة والمبيدات المطلوبة، والوقت المناسب لتطبيقهـا على المحصول، وكذلك المواعيد المناسبة للري وكميات المياه المطلوبة لكل نبـات، وهذا مما لا شك فيه يحقق مفهوم الكفاءة العالية فى إدارة المزارع من خلال اتخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب والذي بدوره ينعكس بالإيجاب على الإنتاج والجودة ويحافظ على خصوبة التربة وكذلك تقليل التكاليف. نستطيع القول بأن الزراعة الذكية لها مجموعة من الأهداف أهمها:
•    تعزيز الابتكار الزراعي.
•    خلق الوظائف الخضراء.
•    حفظ وحماية البيئة من خلال إدارة أفضل للموارد الطبيعيّة.
•    التكيّف مع تغيّر المناخ.
•    الحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة.
•    خفض ظاهرة الجوع والفقر.
•    زيادة الإنتاج وتحسين جودة المحاصيل الزراعية.
•    تطبيق الإدارة المستدامة للموارد الطبيعيّة.
•    تحسين إدارة التربة وخصوبتها.
•    تحويل الفضلات الحيوانية إلى غاز حيوي كمصدر بديل ومتجدّد للطاقة.

الزراعة الذكية


• أبرز مظاهر التكنولوجيا في الزراعة الذكية 


1. إنترنت الأشياء: 


    تعتبر تكنولوجيا إنترنت الأشياء (IoT) من أبرز التقنيات المستخدمة في الزراعة الذكية ويتمثل جوهر إنترنت الأشياء هنا بأنه البيانات التي يمكن استخلاصها من الأشياء ونقلها عن طريق الإنترنت لتحسين عملية الزراعة وهي ببساطة عملية ربط أي جهاز بجهاز آخر عبر الإنترنت من الهواتف المحمولة إلى الأجهزة المنزلية والآلات المستخدمة في الحقول الزراعية بحيث يمكن تشغيلها والتحكم بها وإرسال واستقبال البيانات منها عن طريق الإنترنت. تقوم هذه الأجهزة بجمع البيانات ومعالجتها بصفة متكررة بما يمكّن المزارعين من الاستجابة بسرعة للقضايا الناشئة والتغير فى الظروف المحيطة. هذه الدورة تبدأ بالملاحظة، التشخيص ثم اتخاذ القرار.

 

الزراعة الذكية

ومن أهم تطبيقات إنترنت الأشياء:


- الزراعة الدقيقة: من أبرز تطبيقات إنترنت الأشياء في الزراعة الذكية والتي تعدّ مفهوماً شاملاً للنهج القائم على إنترنت الأشياء والتي تجعل الزراعة أكثر تحكماً ودقةً وتعرّف بأنها "النهج المستخدم فى إدارة المزارع والتحكم فى المحاصيل من خلال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأجهزة الاستشعار وأنظمة التحكم عن بعد والآلات ذاتية التشغيل بهدف الحصول على بيانات دقيقة واستثمار هذه البيانات فى توجيه الزراعة توجيهاً دقيقاً نحو إنتاج أفضل وبجودة عالية بتكلفة أقل". ببساطة تحصل النباتات والماشية على العلاج الذي تحتاجه والذي تحدده الآلات بدقة فائقة وهذا يختلف عن النهج الكلاسيكي فى أن الزراعة الدقيقة تسمح باتخاذ القرارات لكل متر مريع أو لكل نبات بدلاً من الحقل من خلال قياس الاختلافات داخل الحقل بدقة. 
أيضا تلعب تقنيات إنترنت الأشياء دوراً كبيراً في البيوت الزجاجية أو الصوبات الزراعية عن طريق مراقبة درجة الحرارة والرطوبة والضغط الجوي واستهلاك المياه. يمكن للبيوت الزجاجية الذكية مراقبة المناخ والتحكم فيه بذكاء مما يلغي الحاجة للتدخل اليدوي عن طريق أجهزة الاستشعار.


- الطائرات المسيّرة بدون طيّار: إن استخدام طائرات بدون طيار تستطيع التحليق بارتفاعات منخفضة في منظومة الزراعة الذكية تساعد على تسهيل مهام الإشراف على المزارع من خلال قدرتها على تغطية مئات الأفدنة في رحلة واحدة باستخدام الأشعة تحت الحمراء والصور متعددة الأطياف وقدرتها على تجميع مجموعة متنوعة من المعلومات حول حالة الأرض والمحصول واحتياجات الري ونمو المحاصيل وتشخيص مسببات الأمراض وتسميد كل قطعة أرض حسب خصائصها المحددة مما يساعد على القضاء على الجوع في المستقبل. تستخدم هذه الطائرات فى رصد المحاصيل وتقييمها وتصوير الأراضي الزراعية ورسم الخرائط وقياس مكوّنات الهواء بالإضافة إلى رشّ المحاصيل بالمبيدات بشكل سريع وآمن وإرسال البيانات بشكل فوري إلى برمجيات تقوم بتحليلها وتوجيه المزارعين إلى تنفيذ الإجراءات بشكل أفضل. 

الزراعة الذكية

 

- أجهزة الاستشعار عن بعد: تتيح أجهزة الاستشعار عن بعد التي يتم تثبيتها فى أماكن موزعة بعناية معرفة التباينات المحتملة فى الظروف البيئية داخل الحقل لقياس مؤشرات التربة مثل مستويات النيتروجين والفسفور والمحتوى الرطوبي والحموضة ودرجة حرارة التربة والظروف الصحية الملائمة للنمو كذلك التنبؤ بأنماط الطقس لأيام وأسابيع قادمة وغيرها من المعلومات الأخرى. يتم تجميع البيانات بشكل دوري ضمن نظام دقيق لتخزين وتحليل واسترجاع البيانات مما يساعد على اتخاذ القرار الأمثل في الوقت المناسب. 

الزراعة الذكية


2. الذكاء الاصطناعي: 


    هو نوع من أنواع الخوارزميات والنماذج الرياضية التي يمكن من خلالها التعامل مع البيانات ومحاكاة القدرات المعرفية البشرية لاتخاذ القرارات. ونظراً للكم الهائل من البيانات المزرعية اليومية - التى يتم الحصول عليها من المستشعرات المختلفة وأجهزة إنترنت الأشياء - والتي تتمثل في درجات الحرارة، الطقس، الرطوبة، ظروف التربة، حالة المحاصيل، الآفات، كمية المياه وملوحتها، ظروف التربة وحموضتها...إلخ خصوصاً عندما يتم الحصول عليها بشكل فوري، تتطلب هذه البيانات استخدام الذكاء الاصطناعي للحصول على تصوّر دقيق حول ظروف الأراضي الزراعية من خلال تحليل البيانات ومعالجتها واستخلاص التنبؤات ذات القيمة، كأن يعرف المزارع وقت بذر البذور، وقت الري، الوقت الأمثل للحصاد، وقت السماد، الآفات وغيرها من الأشياء الأخرى. 


3. استخدام الروبوتات في الزراعة (المزارع الروبوتية):

    مع التطورات المتسارعة فى العلوم وتكنولوجيا الروبوتات، حيث أصبحت تمتلك قدرات ومهارات عالية، اتجهت أغلب المصانع في الدول المتقدمة إلى إحلال الروبوتات محل الأيدي العاملة. وفي الآونة الأخيرة بدأت الروبوتات تشق طريقها نحو مجال الزراعة، حيث افتتحت شركة أوكس الأمريكية فى أواخر 2019 أول مزرعة تقوم فيها الروبوتات بدور المزارعين عوضاً عن البشر وطرحت الشركة بشكل فعلي منتجات زراعية أنتجها الروبوت المزارع "آنجوس" المسئول عن أهم العمليات فى المزرعة، هذا الروبوت لديه القدرة على التعرف على النباتات التى يظهر عليها علامات المرض أو الآفات ويزيلها قبل أن ينتشر المرض في باقي النباتات. بهذه التقنية يمكن إنتاج الأغذية في مساحات أصغر بالقرب من المتاجر. وفي ولاية كاليفورنيا حيث يعدّ الخس من المحاصيل الرئيسية هناك، توجد هناك مزرعة "إيرثباوند" وهي من أكبر المزارع العضوية فى الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام أنظمة روبوتية، حيث تقوم الروبوتات بكل دقة ومهارة بتعبئة وتغليف حزم الخس وإرسالها الى الشاحنات، ويمكن لكل روبوت منها أن يحل محل خمسة عمال.

الزراعة الذكية

التكنولوجيا الروبوتية دقيقة وسريعة جداً وتتعامل مع المنتج بطريقة أكثر لطفاً من العمال، حيث تقلل من الأضرار التي يمكن أن تحدث للمنتج، كما تساعد على تحسين بيئة العمل من خلال القضاء على المهام المتكررة والتوفير في تكاليف العمل.

الزراعة الذكية

تعمل شركات التكنولوجيا أيضاً على تطوير روبوتات يمكنها القضاء على الحشائش والآفات بدون مبيدات، وهذا بدوره يساعد على خفض تكلفة الأغذية العضوية. ابتكرت شركة ألمانية جراراً مزدوجاً، يقود الجزء الأول منه سائق عادي، بينما الجزء الآخر آلياً، محاكياً الجزء الأول الذي يعمل على مقربة منه. كما قامت شركة أمريكية تدعى "جون ديري" في عام 2012 بابتكار نظام زراعي تقني يقوم على إمكانية التحاور بين الآلات، حيث تستطيع آلة الحصاد المزودة بهذه التقنية مخاطبة الماكينات الزراعية، وتوجيه صاحبها لإنزال المحصول.


4. التقنيات النووية في الزراعة الذكية:


   تستخدم التقنيات النووية والتقنيات ذات الصلة بالمجال النووي لحث التنوع فى المحاصيل بما يجعلها قادرة على تحمّل الجفاف أو الملوحة أو الآفات. وتطبّق تقنيات مماثلة لتوصيف التكوين الجيني للحيوانات الأصيلة أو المتكيفة مع البيئة المحلية والتى تجمع بين الإنتاجية العالية وتحمل الأمراض المحلية. تستخدم هذه التقنيات أيضا فى تحديد مدى كثافة وانتشار الآفات والأمراض الحيوانية وبالتالي وضع تدابير التأهب والتصدي السريع لها. 
- يستخدم النيتروجين -15 والكربون -13 لتتبع حركة وديناميات الكربون والمياه والمغذيات فى النظم الإيكولوجية الزراعية من أجل تقييم آثار التدابير الزراعية للمحافظة على الموارد والتأكد من استقرار المواد العضوية ف التربة ومعدل دورانها والوقوف على مصير النيتروجين والكربون فى مخلفات المحاصيل ودراسة تدهور الأراضي وتآكل التربة بحيث يتم توجيه ممارسات المحافظة على التربة والمياه وإدارتها جيدا.
- يستخدم كذلك إدماج النيتروجين -14، الفسفور -32، أو الفسفور -33 أو الكبريت -35 في الكائنات الدقيقة الموجودة فى كرش المجترات مثل الماشية لدراسة امتصاص واستخدام البروتين الميكروبي في الكرش ولتحديد أفضل محاصيل العلف وهذا يساعد على تحسين معدلات تحويل العلف والاستفادة من الطاقة ومن ثم الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة.
- يستخدم التشعيع بأشعة جاما والأشعة السينية فى تعقيم حشرات الآفات وكذلك فى استنباط أصناف طافرة فى المحاصيل تتمتع بقدرة عالية على تحمل الإجهاد الأحيائي وغير الأحيائي.

الزراعة الذكية وتوفير المياه:


    إن زيادة السكان خلال السنوات القادمة يستلزم بالضرورة توفير المزيد من الغذاء من خلال زيادة مساحات زراعة المحاصيل في المستقبل مع استخدام الموارد المائية بطريقة مستدامة فى نفس الوقت، وهذا يمثل تحدي كبير للأجيال الحالية والقادمة، ويبقى السؤال: هل يمكن زيادة إنتاجية المياه بحيث يمكن زراعة المزيد من المحاصيل؟ قد تكون التكنولوجيا هى الجواب الصحيح، بالطبع يمثل استخدام تقنيات الزراعة الذكية في الري طفرة كبيرة فى توفير المياه حيث تأتي منظومة الري على رأس أولويات الزراعة الذكية وتمثل أحد أهم أجنحتها ويمكن تعريفها على أنها "أسلوب عالي التكنولوجيا يعتمد على استشعار محتوى الرطوبة فى التربة من خلال أجهزة دقيقة ومستشعرات لها القدرة على تتبّع المستوى الرطوبي فى التربة ومراقبة الظروف الجوية". وبناءً على هذه المعلومات تقوم منظومة الري بضبط جداول الري وفقاً للاحتياجات الفعلية للنبات داخل الحقل، أو من خلال تطبيق على الهواتف الذكية يمكن من خلاله فتح وغلق نظام الري بناءً على رسائل ترسل من النظام للمزارعين.

- يستهلك القطاع الزراعي فى العالم ما يقرب من 70% من المياه العذبة المتاحة في نظم الزراعة التقليدية بينما عند استخدام تقنيات الزراعة الذكية يمكن توفير استهلاك المياه بنسبة تصل الى 90%، وفي أحد التقارير حول استخدام نظم الزراعة الذكية قام أحد المزارعين بعمل صوبة 600 متر وقام بزراعتها ب36 ألف شتلة فراولة (هذا العدد يكفي لزراعة فدان في النظام التقليدي) ومع استخدام تقنيات الري الحديثة وإعادة تدوير المياه تمكن من توفير المياه بنسبة 80% مقارنة بالأنظمة التقليدية.


الزراعة الذكية مناخياً: 


    تتوقف آفاق الأمن الغذائي العالمي على قدرة النظم الزراعية فى العالم على الصمود فى مواجهة تغير المناخ وقدرتها على التعافي. تسبب درجات الحرارة المتصاعدة والأحوال الجوية بالغة الشدة تأثيراً سلبياً على إنتاجية المحاصيل والثروة الحيوانية، حيث أكدت الدراسات العلمية أن الارتفاع والانخفاض في درجات الحرارة وانخفاض نسب توفر المياه وهطول الأمطار نتيجة للتغيرات المناخية، سوف تقلل من إنتاجية المحاصيل، وسوف تتسبب في الآفات وأمراض النبات. أيضا يؤثر المناخ المتغير على ظهور الأمراض المنقولة بنواقل ومعاودتها الظهور. لذلك أصبح هناك حاجة ملحة الى تحسين النظم الزراعية والموارد الطبيعية وتطبيق نظم الزراعة الذكية من أجل ضمان قدر كاف من القدرة على الصمود والاستدامة حتى تتكيف مع آثار تغير المناخ.
   يتناول نهج الزراعة الذكية مناخياً الأمن الغذائي وتغير المناخ في الوقت نفسه مع المساهمة فى تقليل غازات التدفئة من خلال تقديم وسائل لدمج الخصائص المحددة للتكيف والتحقيق فى سياسات التنمية الزراعية المستدامة وبرامجها واستثماراتها. يمكن للممارسات الزراعية الذكية مناخياً أن تساعد على التقليل من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن الحيوانات الزراعية، فقد أشارت تقارير اللجنة الحكوميّة الدولية المعنيّة بتغيُّر المناخ «IPCC» إلى أنّ القطاع الزراعي مسؤول عن إطلاق نحو %14 من جميع الغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري، وفي نفس الوقت يملك هذا القطاع إمكانيّاتٍ مهمّة لتقليص كميّات عوادم الغازات الكربونيّة وعزل كمّيات متزايدة من الكربون بامتصاصه من الأجواء. لذا لا بدّ أن تتكيّف الأنشطة الزراعية مع تكيفات عوامل المناخ وأن تساعد على تخفيف حدّة آثاره. 


الواقع العالمي الحالي للزراعة الذكيّة:


     لقد اعتمد المجتمع الدولي في عام 2015 خطّة للتنمية المستدامة حتى عام 2030، وهي تشمل اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ، وتوفر إطاراً دوليًا لزيادة فعالية الإجراءات الوطنية والجهود الجماعية الدولية من أجل تحقيق التنمية المستدامة وبغية تنفيذ خطة عام 2030، أقرّت الدول الأعضاء في المنظمة خمسة مبادئ لاستدامة الأغذية والزراعة) وتشمل المحاصيل، وإنتاج الثروة الحيوانية، ومصايد الأسماك، وتربية الأحياء المائية، والغابات، وذلك عبر إقامة التوازن بين الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وتعزيز الزراعة الذكية كنهج قادر على تحويل النظم الزراعية وإعادة توجيهها لدعم التنمية بشكل فعّال وضمان الأمن الغذائي في ظلّ تغير المناخ. وبالتالي تمّ إدماج هدف تعزيز الزراعة المستدامة مع أهداف القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية بحلول عام 2030.


 الزراعة الذكية على مستوى الوطن العربي:


- تاريخيّاً، بالتحديد قبل السبعينات، كان القطاع الزراعي في الوطن العربي قادراً على توفير أغلب احتياجات السكان من الغذاء، لكن بعد هذه الفترة دخل العالم العربي في أزمة غذاء أصبح على أثرها موضوع الزراعة على رأس قائمة الأولويّات التي تعاني منها الدول العربية. فالزيادة المتسارعة في عدد السكان وتحسّن ظروف المعيشة أدّيا إلى زيادة الطلب على المواد الغذائية، ممّا سبّب عجز في تلبية هذا الطلب محلياً، وبهذا اضطرت الحكومات العربية إلى اللجوء للخارج.
- تعتبر المنطقة العربية من المناطق التي تواجه أزمات بيئية كبيرة مثل نقص المياه الصالحة للزراعة، تغير المناخ، الجفاف والتصحر، فبحسب تقارير"الهيئة الحكوميّة الدوليّة المعنيّة بتغّير المناخ"، من المتوقع أن تزداد حالة الجفاف ومعدل التبخّر المرتفع في المنطقة لتصبح إحدى أكثر المناطق عرضةً لتأثير تغير المناخ، ممّا سوف يؤدّي إلى انخفاض الإنتاج الزراعي وانعدام الأمن الغذائي؛ الأمر الذي يؤثر سلباً على توفير الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي.
- يمكن القول إن المنطقة العربية هي من أكثر المناطق حاجة لتطبيق تقنيات الزراعة الذكية، إلا أن هناك صعوبات تتعرض لها أهمها ضعف البنية التحتية للاتصالات والإنترنت في بعض الدول العربية، وحاجة هذه التقنيات إلى مهارات لا يمتلكها الكثير من العاملين فى مجال الزراعة، وكذلك التكلفة العالية. لذلك فإن تبني سياسات الزراعة الذكية يتطلب العمل العربي المشترك وتبادل المعرفة والأفكار حول تكنولوجيا إنترنت الأشياء، وإدراج تكنولوجيا الاتصال والمعلومات كعامل أساسي للتنمية الزراعية المستدامة. وتتضح أهمية الزراعة الذكية في الوطن العربي في النقاط التالية:

  •  توفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة.
  •  تعزيز الزارعة المستدامة.
  • المحافظة على الموارد الطبيعيّة ورفع كفاءة استخدامها.
  • خفض التكاليف والاستخدام الأمثل للموارد الزراعية.

 في هذا الصدد تم عقد المنتدى الإقليمي الأول للزراعة الذكية الذي عقد فى العاصمة السودانية الخرطوم فى العام الماضي تحت شعار "نحو تنمية زراعية مستدامة من خلال إنترنت الأشياء والاتجاهات التكنولوجية الجديدة". يعتبر هذا المنتدى أول محاولة نحو تبني سياسات الزراعة الذكية وتبادل الخبرات على المستويين العربي والإفريقي في هذا المجال، وتوزيع التعاون الإقليمي والدولي في مجال الزراعة الذكية سلتنيق الجهود والتوصل الى حلول مستدامة لمستقبل القطاع الزراعي.

 تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة


     تعدّ الإمارات أول دولة في المنطقة العربية تتجه إلى الزراعة الذكية بهدف تلبية الاحتياجات وتحقيق الاستدامة في الإنتاج الزراعي، حيث قطعت شوطاً كبيراً في تبني الزراعة الذكية مناخياً كجزء من سياسة التنوع الغذائي والاستخدام الأمثل للموارد وبناء القدرة على التكيّف مع الظروف الجوية الصعبة مثل ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة العالية وشح المياه. وقد قطعت شوطاً كبيراً في توفير الغذاء بطرق حديثة ومبتكرة تخطت بها العديد من الدول المتقدمة في هذا المجال، وحرصت على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في مجال الزراعة وإنتاج المحاصيل بطريقة تمكنت فيها من تطويع الطبيعة في التغلب على نوعية التربة عبر تطبيق تكنولوجيا الغذاء.

الأمن الغذائي الإماراتي:
    الأمن الغذائي الإماراتي بات يشكل هدفاً إستراتيجياً تسعى الدولة لتحقيقه خلال السنوات القليلة المقبلة، وقد زاد اهتمام الإمارات خلال السنوات الماضية بالزراعة، حيث تم إنشاء وزارة معنية بالأمن الغذائي، كما ركّزت الدولة على توظيف التكنولوجيا ودعم الأبحاث العلمية في قطاع الزراعة. حيث أعلنت أبوظبي عن استثمار بقيمة 100 مليون دولار في أربع شركات للتكنولوجيا الزراعية، وهي الأولى في برنامج دعم التكنولوجيا الزراعية الأكبر الذي تبلغ قيمته 272 مليون دولار. وتشمل مزارع مدار، وهي شركة محلية مهمتها معالجة تحديات الأمن الغذائي والمائي في المنطقة؛ Aerofarms، شركة الزراعة العمودية مقرها الولايات المتحدة؛ RDI (الري بالتنقيط المستجيب)، وهي شركة ناشئة تعمل على تطوير نظام ري جديد يجعل من الممكن زراعة النباتات في التربة الرملية وRNZ، وهي شركة ناشئة تعمل على تطوير الأسمدة لزراعة المزيد من الغذاء بكفاءة أكبر.

 إمارة أبوظبي:
   تمثل إمارة أبوظبي نموذجاً يحتذى به للمدن الطامحة لتحقيق الاستدامة الزراعية، حيث حققت إنجازات مهمة في تنمية القطاع الزراعي، وتحويل الصحراء إلى ساحات خضراء ومزارع منتجة. فخلال العقود الماضية تضاعفت مساحة الأراضي الزراعية 33 مرة من 22 ألف دونم إلى أكثر من 750 ألف دونم في الفترة نفسها. كما عملت على تجارب زراعية نوعية وتبني تقنيات حديثة ذات كفاءة عالية في الزراعة، مثل تقنيات الزراعة المحمية والزراعة المائية والزراعة في بدائل التربة، واستخدام الأنظمة الذكية والتقنيات الحديثة بالري والتسميد والتحكم بنوعية المياه. وخصصت مؤخراً 30 مليون دولار على شكل حوافز مالية لشركات التقنيات الزراعية التي تتطلع إلى تأسيس أعمالها أو تنميتها في الإمارة بهدف تعزيز إمكانات وابتكارات التقنيات الزراعية المحلية.

الزراعة العمودية:
- لدي الإمارات العربية المتحدة القدرة على أن تلعب دوراً رئيساً فى مجال الزراعة العمودية وذلك بسبب مناخها ودعم الحكومة لمثل هذه الابتكارات فى مجال التكنولوجيا الزراعية وهذا يجعلها أكثر الأماكن مثالية لتطبيق مثل هذه التكنولوجيا واختبارها.
- تسمح تقنية الزراعة العمودية فى الإمارات للمزارعين والشركات بزراعة الخضروات والمنتجات الطازجة وهذا يعنى إنتاج طعام من الصحراء مثل الخس والذي تستعمله العديد من المطاعم والفنادق فى أنحاء الامارات، والآن توجد دراسات وأبحاث حول إنتاج البطاطس بنظام الزراعة العمودية.

تقنية الانبعاث الضوئي:
   من أهم التجارب التى قامت بها الإمارات فى مجال الزراعة الذكية استخدام تقنية "الانبعاث الضوئي" والتي تعتمد على أسلوب الزراعة العمودية بدون تربة أو مبيدات زراعية، كما أنها تختصر الفترة الزمنية لجني المحاصيل بنسبة كبيرة بدون أن تؤثر على خصائصه الغذائية. تتميز هذه التقنية بإعادة تدوير المياه وتوفير الطاقة المستخدمة، مما يجعلها صديقة للبيئة.

وادي تكنولوجيا الغذاء:
  أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي فى مايو 2021 المرحلة الأولى من مشروع «وادي تكنولوجيا الغذاء» وهدفه مضاعفة إنتاج دبي الغذائي ثلاث مرات، إذ يمثل مدينة عصرية متكاملة تدمج مفاهيم الإدارة المتكاملة للغذاء ضمن أنشطتها وتسعى لاستقطاب العقول المبدعة والشابة لرسم مستقبل الغذاء. وتتمثل رؤية المدينة في أن يصبح هذا المشروع الرائد الأول من نوعه في المنطقة ليكون العلامة التجارية والمرجع الأول لاستدامة نظم إدارة الغذاء على المستويين الإقليمي والعالمي. ويهدف المشروع في مرحلته الأولى إلى توفير مقومات التخطيط الحضري والتطوير العمراني المتكامل متنوع الأنشطة لإدارة الغذاء بناء على نهج الابتكار، كما يهدف إلى تنمية الإنتاج المحلي من الأغذية ذات القيمة والتنافسية العالية. ويضم المشروع مزارع عمودية، ومركزاً للأنظمة اللوجستية، وآخر للبحث والتطوير، ومنطقة للتسوق. كما سيشكل مشروع وادي تكنولوجيا الغذاء بدبي المنصة الرئيسية للبحث والتطوير والبحوث التطبيقية لخدمة مزارعي ومنتجي الغذاء في دولة الإمارات. يتكون مشـروع وادي تكنولوجيـا الغـذاء من أربع مناطق أساسية هي: منطقة الهندسة والتكنولوجيا الزراعية، وحاضنات ابتكار الأغذية، ومركز البحث والتطوير، ومنطقة الأنظمة اللوجستية.

 بيوت زجاجية ذاتية:
    تمتلك الإمارات رؤى طموحة، تقوم بتنفيذها فعلياً عبر الاستثمار لإنجاز رؤيتها المستقبلية. تتمتع دولة الإمارات بنظام اقتصادي مستقر، وعملة مستقرة، وقطاع خاص مزدهر، ونظام بيئي لريادة الأعمال سريع التطور، هذا بالإضافة إلى دعم التغيير والنمو والتنويع الاقتصادي القائم على المعرفة، واستثمار رأس المال، باتت جميعها المواد الخام اللازمة لتحقيق النجاح والإنجاز على نطاق واسع. تقوم الشركات العاملة فى مجال الزراعة الذكية في دولة الإمارات بتصميم وبناء وتشغيل أنظمة بيوت زجاجية زراعية عالية التقنية، يتم التحكم بمناخها الداخلي وتحويل أشعة الشمس الطبيعية والوفيرة في المنطقة إلى فواكه وخضراوات طازجة عالية الجودة وخالية من بقايا المبيدات، وبذلك يتم تقديم حل مبتكر لمعالجة الأمن الغذائي.

تجارب زراعة الأرز في الإمارات:
   تم توقيع مذكرة تفاهم فى فبراير 2019 بين وزارة التغير المناخي والبيئة ووزارة الزراعة والأغذية الكورية من أجل التعاون بين البلدين فى عدة مجالات سواء البحثة أو التطبيقية منها توظيف التكنولوجيا الذكية ونظم الزراعة المغلقة والعمودية، وخفض انبعاثات غازات الإحتباس الحراري، رعاية وصحة الحيوان، بالإضافة الى زراعة الأرز، وتم الاتفاق على الإطار العام لبدء العمل على الدراسة التجريبية لاختيار أصناف أرز تتحمل البيئة الصحراوية، وقادرة على التكيف والتعايش مع أجواء الإمارات. في نوفمبر 2019 بدأت تجارب الزراعة الأولية على مساحة 2200 متر مربع وريها بنظام التنقيط تحت السطحي لزيادة كفاءة استخدام المياه. تمت عملية الزراعة بنجاح وتم حصاد المحصول في مايو 2020، وأظهرت نتائج الحصاد الأولية نتائج مميزة من حيث النمو والإنتاج. 
   استعرضت هيئة أبو ظبي للزراعة والسلامة الغذائية عدداً من مشاريعها الذكية المخصصة لخدمة القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني خلال مشاركتها فى معرض " جيتكس جلوبال 2021"، وقال يعقوب العوضي مدير قسم التخطيط فى الهيئة إن " جينتس للتقنية " يعد فرصة مثالية لتسليط الضوء على التطبيقات الذكية والمشاريع التي ابتكرتها الهيئة، والتي تعتمد على أحدث التقنيات بما في ذلك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لرفع كفاءة العمل واستدامة القطاع الزراعي. استعرضت الهيئة مشروعين يمكن تحميلهما من خلال منصة " أبل "، " أندرويد" للهواتف الذكية، الأول تقييم تطبيق نظم المعلومات الجغرافية لإدارة مزارع النخيل، والثاني خاص بتوقعات استيراد الأغذية والأعلاف فى الدولة باستخدام نماذج السلاسل الزمنية.

 بعض التجارب العربية الناجحة في مجال الزراعة الذكية


• في المغرب، تعتبر الزراعة الذكية من أولويات الحكومة. في عام 2020، أطلقت الحكومة استراتيجيتها "الجيل الأخضر 2020-30"، والتي تتضمن من بين أهدافها "إدخال التقنيات الجديدة ورقمنة الخدمات الزراعية". تهدف الاستراتيجية إلى تركيب أكثر من 100000 مضخة شمسية للري من خلال AgriEdge وهي شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا الزراعية حيث تمتلك منصة زراعية دقيقة لتحديد المستوى الأمثل للأسمدة والمياه لكل محصول باستخدام مجموعة واسعة من البيانات بما في ذلك صور الطقس والأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار.
• تمتلك مصر القوة الزراعية في المنطقة، حيث تمثل أكبر منطقة ري بين دول حوض النيل الإحدى عشرة. تستهلك الزراعة أكثر من 85 في المائة من حصة البلاد من نهر النيل، الذي يوفر الجزء الأكبر من إمدادات المياه لمصر. في ديسمبر الماضي، بدأت الحكومة المصرية تجربة نظام ري متنقل جديد كجزء من استراتيجية وطنية لاستخدام طرق الري الحديثة. قامت وزارة الموارد المائية والري بالشراكة مع جامعة MSA بالقاهرة بإنشاء جهاز محمول باليد لقياس درجة رطوبة التربة الزراعية. يرسل الجهاز رسالة إلى الهاتف المحمول للمزارع بخصوص مستويات المياه، لمساعدتهم على اتخاذ القرارات المناسبة بشأن محاصيلهم. في مصر، يلعب القطاع الخاص دورًا رئيسًا في قيادة مبادرات الزراعة الذكية. يساعد تطبيق IrriWatch - الذي تم تطويره في هولندا - المزارعين على تحسين الري باستخدام تقنية "الاستشعار الافتراضي" التي تستخدم قياسات الأقمار الصناعية الحرارية المختلفة لاكتشاف إمكانات مياه التربة وبيانات رطوبة التربة. 
• في تونس أحد الأمثلة البارزة هو شركة Ezzarya، وهي شركة تقوم بتركيب أجهزة استشعار في أنابيب الري وفي التربة. يتيح الصندوق اللاسلكي المتصل بالبرنامج للمزارعين تنظيم ملوحة التربة وحقن الأملاح المعدنية التي قد تكون ضرورية لتحسين غلة المحاصيل. يمكن إدارة عمليات الري والتسميد مركزيًا بفضل النظام، وهو قادر أيضًا على تحديد تسرب بالتنقيط. 
• في لبنان، توفر شركة ناشئة تسمّى الزراعة العمودية الأرضية استخدام المياه بنسبة تصل إلى 90 في المائة في اليوم عن طريق إعادة تدوير المياه، في حين أن شركة روبنسون أغري، الشركة الرائدة في إنتاج البيوت الزجاجية، قد نفذت حلول ري ذكية.