ليس في التاريخ الطبيعي أو الحضاري ما يحدث بالصدفة إلا في رؤية الإنسان الذي يتصور علمه محيطاً وعمله تاماً، فيظن معرفته مطابقة للوجود خلطاً بين المعرفي والوجودي، وعمله مطابقاً للمنشود خلطاً بين العملي والوجداني.
لكن الوجود والوجدان بمطلقهما ليسا في متناول الإنسان: فما نعلمه منهما متناهٍ، وما نجهله لا متناهٍ، وما نعمله فيهما متناهٍ، وما ننشده لا متناهٍ. لذلك فلا وجود لعلم محيط ولعمل تام إنسانياً. وهما ما ننسبه إلى الخالق دون سواه.
فاللامتناهيان هما من اللامعلوم، رغم كونهما من حضور الغيب في عالم الشهادة. وكل ما يبدو لنا من الصدف هو عين ما أسميه مكر الله الخير، الذي هو جوهر حضور الغيب في الشهادة، وهو كذلك ما يجعلنا قد نكره ما هو خير لنا ونحب ما هو شر، لأنهما متلازمان في كل أفعال الإنسان.
ومن الحمق الكلام على شعب أو أمة بوصفها ممثلة للشر المطلق. ففي كل شعب من يمثل الخير، وفي كل شعب من يمثل الشر، ولكن لا واحدة من الأمم شريرة بالمطلق أو خيرة بالمطلق، لأن الوصفين مما ينتسب إلى المسؤولية الفرد مثلها مثل التكليف.
ولهذه العلة غيرت مفهوم المكان شرط وجود الإنسان، والزمان شرط بقائه، لأنقلهما من التثليث إلى التخميس بما أضفت لهما من وصل بين قلبهما: أي الحاضر، وما قبله وما بعده. والهدف هو تيسير فهم هذا التلازم بين الخير والشر في حياة البشر، ممثلين لما يحتويان عليه من مكر الله الخير: ولأبدأ بالزمان: فما قبل الحاضر ليس الماضي، وما بعده ليس المستقبل، بل هما الوصلتان بينهما وبين الحاضر.
فالوصلة بين الحاضر والماضي قبله، هي الوصلة بين حدث مضى وحديث باقٍ يُذكّر به. والوصلة بين الحاضر والمستقبل بعده، هي الوصلة بين حديث يجري وحدث متوقع لم يحدث بعد.
فيكون الحاضر ليس مجرد وسط بينهما، بل هو كذلك أمر من جنس غير محدد الطبيعة، لأنه ذو وجهين مثل جانوس، ملتفت إلى الماضي بقدر تذكره، وإلى المستقبل بعد توقعه. ومن يجهل ذلك لا يمكن أن يتكلم في سياسة المعمورة والعالم أو الجيوبوليتيك، أي تاريخ الإنسانية في تاريخ العالم.
وغالباً ما يكون الخير والشر في الأحاديث، ومنها ينطلق لتحريف الأحداث، فيترتب عليه الفرق بين الأحداث والأحاديث. وهو ما ينتج عن الخير والشر ممثلين لمكر الله بما فيهما من وهم العلم المحيط والعمل التام، وهو ما يسميه ابن خلدون "حب التأله" أو التجبر والتفرعن في سلوك البشر.
وكل ما قلناه على الزمان ينبغي قوله على المكان وتقديمه عليه، لأن الزمان -قصيره ومديده- من حيث هو مجرى الأحداث والأحاديث بمعانيها التي شرحت، له مجال هو فضاء مجراه، وهو جوهر المكان: إذ هو الملاء الذي يحول الخلاء الفضائي إلى حيز مكاني تتحرك فيه أفعال الكائنات الحية.
فيكون هو الأصل ما دام هو شرط الوجود المتعين للحياة، دون أن يكون شرط البقاء المتعين إلا بفعل ما يحدث فيه من تعين طبيعي وحضاري: وهما عين كيان الإنسان عضوياً وروحياً. فالفرد مكاني بكيانه العضوي المادي، وزماني بكيانه الوجداني الروحي.
فيكون مما يناظر الحاضر في الزمان من حيث هو "هنا وآن"، هو عين الذات الفاعلة فيه بما هو حاضر التعين المكاني – أو الجرم العضوي لقيام الحي أو الموجود – شرط وجود، وليس شرط بقاء إلا بمدد المدة في الامتداد، وهو شرط البقاء أو الزمان بأبعاده الخمسة، فيكون لها نظائر هي أبعاد المكان الخمسة.
والذات المتعينة من حيث هي وعي حي، هي "الهُنا والآن" لقيام الحي الواعي، يولد معه ويموت معه، ويقاس مدى مدته بعمره عضوياً، بمدى ما يحصل من الوعي بحضوره في العالم وأحداث التاريخ الطبيعي والحضاري، وهو معنى الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها، فرداً وجماعة، جزئية وكلية.
تلك هي الدروس التي استمددتها من القرآن الكريم، اعتماداً على فهم المدرسة النقدية (الأشعري بنظرية الكسب)، والغزالي (بمفهوم الإرادة)، وابن تيمية (بمفهوم التقدير الذهني)، وابن خلدون (بمفهوم استحالة رد الوجود للإدراك). فهمهم لرؤية القرآن الاستراتيجية، التي هي في آنٍ رؤية تربية الإنسان وتكوينية الإنسانية، وسياسة وجودهما في المكان والزمان، إذ تتقاسمهما الجماعات المؤثرة فيهما والمتأثرة بهما.
فيكون التاريخ وعالم الشهادة في علاقة بما ورائهما، والغيب هما المسلمتان الأساسيتان لفهم مسار سياستهما بجليها وخفيها.
ومعنى ذلك أن كل التاريخ، وكل ما يُعد شاهداً من العالم، هو ما يُقاس به دور الإنسان في الوجود من حيث هو مستعمر في الأرض، وفي البقاء من حيث هو مستخلف فيها، وكلهم من نفس واحدة (النساء 1)، وتنوعهم وتعددهم، تسالمهم وتحاربهم، كله من أجل التعارف والمعروف، وهم متساوون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى (الحجرات 13).
وتلك هي أدلة خاتمية الرسالة المحمدية. ولذلك فهي لا يمكن أن تُهزم، ولا بد أن تكون لها نشأة ثانية، هي التي توحد الإنسانية بوصفها شاهدة لها وعليها.
ولأن الظاهرة واحدة، وهي ما يسميه القرآن "الاستعمار في الأرض" و"الاستخلاف فيها"، فإن قوانين هذين المفهومين وتفاعلهما في الاتجاهين – من الاستعمار في الأرض شرط وجود ضروري غير كاف، والاستخلاف فيها شرط بقاء كاف – بات من الواجب تحليل المديد من التاريخ، وعدم الاقتصار على قصيره، ومن الوسيع من المكان، وعدم الاقتصار على الضيق منه.
لذلك، فما يسمى بالعولمة ليس ظاهرة طرأت بعد أن لم تكن، بل هي ملازمة للإنسانية منذ البداية. فلا بد من وجود التعدد بين الأجوار، بل وحتى في نفس الجماعة، ومن التنافس على الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.
وهو ما يوهم بتكرار التاريخ، لأن قوانين المديد منه ملازمة لاتساع المكان، ولأن قوانين التنافس عليه ملازمة للزمان، فيكون التلازم بين الصغيرين منهما ضمن الكبير، عين منطق سياسة العالم الثابت، الذي تغيره المضموني يخضع لصورته المنطقية.
وهما ما أبني عليه كل تحليلاتي التي تجعلني أفسر ما يبدو متناقضاً بما أسميه "مكر الله الخير"، ويسميه الملحد "حيل التاريخ"، وإن بمعنى دون دلالتها الهيجلية، لأن هيجل يعتبر التاريخ عين حكمة الله وعدله، في تناقض مع رؤيته القائلة بالعلم المطلق النافي لما وراء عالم الشهادة.
وسأطبق اليوم هذه الرؤية التي أتجاوز بها هذا التناقض الهيجلي، لأن العدل الإلهي ليس من جنس الحيل رغم خفائه، لأن له في القرآن وجودان: ما يحصل منه هو التاريخ، وما يبقى وكأنه منافٍ له هو ما بعد التاريخ.
ومن ثم، فلا بد من وجود الغيب لتأجيل الحكم النهائي – الإرجاء – إلى يوم الدين. فالقرآن لو اقتضى غير ذلك لتناقض، فلا يكون للغيب معنى، ولا يكون للتكليف مسؤولية. فعالم الشهادة أو الدنيا امتحان لجهاد الإنسان في الاستعمار، ولاجتهاده في الاستخلاف، فيكون الحكم النهائي مؤجلاً إلى يوم الدين، بسبب الغيب في السرائر، والجهل بالصدق في التواصل، والعدل في التبادل خلال التاريخ الإنساني.
سأطبق ما يجري في الإقليم من صراع بين حضارات ملتقى القارات – في قلبها – أي آسيا وأفريقيا وأوروبا، فيما صار مركز العالم بعد نزول القرآن، وقلب دار الإسلام الروحية – الجزيرة العربية – وما كان منها تابعاً لأكبر إمبراطوريتين قبل نشأته (فارس وبيزنطة سياسياً، واليهودية، المسيحية، المجوسية، الصابئية دينياً)، أي الحضارات الأربع التي هي مضمون الحوار القرآني حول فلسفة الديني وفلسفة التاريخ، وما ينقده منهما بمنهج التصديق والهيمنة في علاقتهما بسياسة العالم، وموقفهما الوجودي من يوم الدين.
والنقد هو الوجه السلبي من البديل الذي تقدمه الرسالة الخاتمة، الساعية لتوحيد الإنسانية، وإخراجها من الحرب الأهلية الكونية بمنطق منافٍ للنساء 1 وللحجرات 13.
وبذلك، يتبين أن ما يحدث منذ سايكس-بيكو، ووعد بلفور، وسقوط الخلافة: تفتيت الجغرافيا الإسلامية وتشتيت التاريخ الإسلامي، أعده مكراً خيراً لإحياء كيان الأمة، لتستعيد شروط الاستئناف. والآن حان أوان بداية الظهور الفعلي في الاستئناف، ورمزه أن أداتي أعدائه كلهم – ظاهرهما وباطنهما – هما عين الأداتين اللتين سعتا للانتقال من الإسلام منذ اغتيال الخليفة الثاني إلى اليوم.
وهما الآن ينتحران لتوهمهما أن الوقت حان للصراع النهائي خلال تقاسم ما يعتبرونه كياناً ميتاً، أي قلب دار الإسلام. ما أعنيه بمنطق التاريخ هو أنهما تسرّعا، وسيكون مآلهما مآل فارس وبيزنطة، كما في قصة الروم ولكن بالعكس: أي إن الأداة التي يستعملها الروح كلهم – البيزنطيون، البروتستانت، الكاثوليك – "إسرائيل"، ستربح الحرب في الظاهر، غير أنها ستهزم في الظاهر كذلك.
لكن ظاهر الانتصار وظاهر الهزيمة، هما ما سيجعل بداية التحقيق الفعلي لِلَمّ شتات ما فُتّت من دار الإسلام، وما شُتّت من تاريخ الإسلام، لتتحقق شروط الاستئناف والنشأة الثانية.
فالأداتان فقدتا كل قدرة لمنازلة حتى الفرق الصغيرة من جنس حماس، لأن ما حققته بين هشاشة إسرائيل العسكرية، وأسقط كل سردياتها المزعومة خلقياً، فأصبحتا لا تخيفان أحداً، ومن ثم، فسقوط التخويفين ينهي من يحكم دار الإسلام بهما أداتين تُقسّم المسلمين.
ولعل خطأ إسرائيل أنها أساءت الاختيار: بدأت بألد أعداء السنة، والغرب كله كان يريد المحافظة عليه، لأنه كان ولا يزال حليفه في كل حربه على الإسلام. فتكون الأمة قد ربحت سقوطه شبه الكامل، وانهيار إسرائيل مادياً وروحياً، وعجز الغرب عن فعل شيء لأن معاركه كثرت وقواه انهارت.
قد يجد القراء العجلون أن كل هذا التعقيد دليل عجز في التبليغ أو تعمّق في التعليل. لكن هذا الموقف من تعميق التحليل، هو آخر أمراض الانحطاط الذي أخّر الاستئناف: سطحية الفكر الذي لا يطلب البدايات، فيعجز عن فهم الغايات والنهايات.
لو لم يكن كلامي ذا علاقة بما سميته "استئناف الإسلام دوره في نشأة ثانية" أهم وأكبر من النشأة الأولى – التي بشّرت بهذا الدور الثاني، الذي هو غاية الأولى، فجعلته شهادة على العالمين، كما كان الرسول شاهداً على المسلمين في النشأتين.
فلنضع إيران محل فارس، والغرب محل بيزنطة، التي هي روما الثانية، واللتان كانتا مسيطرتين على ملتقى القارات الثالث، وكان العرب توابع لهما – المناذرة والغساسنة – وكانوا تابعين لهما وللأديان الأربعة التي ذُكرت.
ولنذكر بأن اليهود كانوا حينها مشتّتين في العالم، بعضهم في فارس، وبعضهم في بيزنطة، وبعضهم في الجزيرة العربية. فهذه الخلفية كانت تعتمد على قوتين سياسيتين – فارس وبيزنطة – ممثلين لقطبين ذكرهما القرآن في سورة الروم، وهما الإمبراطوريتان اللتان أزالهما الإسلام.
لكن الثأر الفارسي والثأر البيزنطي، والتحالف بين اليهودية والمسيحية والمجوسية والصابئية والمشركين – وهم الخمسة المذكورون في الحج 17 – ذكرهم القرآن موضوعاً لنقد التحريف الديني والمعاداة للإسلام، دون أن يجعل التاريخ مقصوراً على مقاتلتهم، بل هو يُرجئ الحكم بينهم إلى يوم الدين في ما يتعلق بالعقائد، حتى يحرر الإمبراطورية الإسلامية من الحرب بدافع ديني، إلا دفاعياً: ولهذه العلة بقيت هذه الأديان في دار الإسلام خاصة.
لم يبق عندي ما أقوله في محاولة التذكير بحديث الماضي حول حدثه، وتوقع حدث المستقبل الناتج عن حديثه. والحديثان هما جوهر الحاضر، لأن حدث الحاضر من دائم الأفول الذي لا قرار له، ومن ثم، فهو يؤوّل في ضوء تذكّر الماضي وتوقّع المستقبل. وهما أعسر فعل عقلي لعُسر تخلّصه من الأهواء.
وما يُيسّر عليّ المهمة هو: أياً كان الغالب، فالفائدة هي لصالح الاستئناف. لأن قسمة العرب الإقليم، التي تنتج عن تخويفهم – بعضهم بإيران للاحتماء بإسرائيل، وبعضهم الثاني بإسرائيل للاحتماء بإيران – ينتهيان في الحالتين إلى خوف العملاء من الشعوب.
ولن يحميهم لا إيران ولا إسرائيل. فتعود إلى الشعوب القدرة على استرداد سيادتها، وهم حينها معرضون لما حصل في الشام من الفتك بنظام النعجة، لأن كل العملاء الحاكمين، وما حولهم من النخب، هذا الدور من جنسه.