تتماسك قصص سورة الكهف على فكرة محورية ذات منظومة من بضعة عناصر: الحياة الدنيا، زينتها، الأعمال، اللقاء الآخر.
- أصحاب الكهف: موت طويل مؤقت ثم إحياء ليدل على قدرة الله وإن الحياة الدنيا ليست هي النهاية وأنه قادر على بعثنا مرة أخرى في الآخرة..
- أصحاب الجنتين: قصة رجل اغتر بماله وولده فظن أنه سيخلد ولا لقاء آخر! وإن كان هناك لقاء فله أمل من الله بمنقلب طيب لكنه لم يقدم له رصيدا من عمل في الحياة الدنيا، فأمله هنا ليس خير الآمال! وثوابه ليست خير الثوابات.
- قصص موسى والعبد الصالح: تبين أن ظواهر الأشياء ليست هي الحقيقة الكاملة والغيب فيه الكثير! فكم من شر في حقيقته خير(خرق السفينة) فليس ضياع المال شرا دائما بل لعله لحفظ أهله، وكم من خير أو زينة في حقيقته شر! (قتل الولد العاق مستقبلا والأبوان المؤمنان)، وكم من صالحٍ باقٍ حفظَ زينة (الزينة هنا هي الأولاد وصلاح الأب حفظهم من بعده) ، فلم تكن نجاة الأب ومال أبنائه في زينته/ أبنائه، بل في صلاحه، كما نجى الأبوين المؤمنين إيمانُهم من ولد عاق. فما فائدة زينة الحياة الدنيا هنا؟ فقد يكون الأولاد عاقين وقد يكون المال سبب أذى، وليس المال والأولاد هما الباقي الذي يصلح ويفيد وإنما العمل الصالح قبلهما.
وتأمل في هذه الآيات
- "قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا".
- "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا".
- "كَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا".
- "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا".
- "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا".
- "أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا".
- "كَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا".
- "وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا".
- "وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا، هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا".
- "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا".
ظواهر الحياة: خير ظاهر في بطنه شر، شر ظاهر في جوفه خير
"أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا".
إن كنتم تتفاخرون بالأولاد فاسمعوا هذه: "وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا". وقاهم إيمانهم هذا الشر، ولو لم يكونا كذلك لكان ولدهم (الزينة) شر لهم!.
إن كنتم تتفاخرون بالأموال، فاسمعوا هذه: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا". فصلاح الأب حفظ مال أبنائه الأيتام ولولا صلاحه الذي بقي بعده لضاع المال.
ذو القرنين
"إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا"، قصة إنسان مكنه الله من كل شيء وحتما سيكون من الأشياء التي مكنها الله فيها، العلم والمال والجسم.. لكنه لم يذهل عن لقاء الله أو أشرك به ورأى كل ذلك ابتلاء فاستعمله فيما أمره الله به، ولنر ذلك، مر بثلاثة أقوام:
أولا: لم يذكر القرآن ما شأنهم، إلا أن قسم منهم ظلم وآخر آمن، وراجح الظن أن الظالمين ذوو مال وولد ليسوا مؤمنين فظنوا أن مالهم وأولادهم سينفعهم وينصرهم، فمكّن الله ذا القرنين منهم فعذبهم وفي القيامة لهم عذاب أيضا، أما القسم الذي آمن فهو الذي رعى حق المال والأولاد ولم يفرح بهم بل شفع هذه النعمة بإيمانه بالله. والعين الحمئة تشير أنهم سكان منطقة ساحلية ويبدو أن الله قد أنعم عليهم لكنهم تظالموا..
"قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا".
ثانيا: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا، كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرً"، يبدو أنهم في بيئة صحراوية لا جبال فيها ولا أشجار تقيهم حر الشمس، وليس لديهم موارد أو أموال ليصنعوا لأنفسهم ما يحميهم من حرها.. أي قلة موارد وقلة ذات يد، ربما لم يرزقهم الله المال والقوة البشرية (الأولاد) ليفعلوا ذلك.
ثالثا: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا."
أي لديهم قدرة مالية وموارد ( خرجا، زبر الحديد، قِطر)، وعزة نفر وكثرة أولاد (أعينوني بقوة)، لكنهم في تحدي من جهتين تحدي بشري (يأجوج ومأجوج)، تحدي طبيعي( ثغرة في بيئة جبلية)، لكنهم لا يعرفون كيف يستفيدون من مواردهم أو عقولهم (لا يكادون يفقهون قولا). أي توفرت لهم كل مقومات الزينة من مال وولد لكنهم لم يحسنوا صنعا ليحموا أنفسهم ولم تغن عنهم شيئا لولا رحمة الله المتمثلة في ذي القرنين الذي صنع لهم ما يحميهم ويحمي مالهم وأولادهم: "قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا"، "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا".
وذو القرنين مؤمن ينسب كل شيء إلى ربه أي مؤمن بلقائه غير مشرك به بما وهبه الله من تمكين كما يفعل الآخرون الذين يشركون به بأولادهم وأمولادهم بظنهم أنها ستنصرهم. كما ظن صاحب الجنتين الذي اغتر بعزة نفره وماله.
نرى أن القوم الأول أمن خوفه وأطعم من جوعه لكنه تظالم فكان كل ما فعله ذو القرنين لهم أنه عدل فيهم وعاقب الظالم رحمةً من الله، أما القوم الثاني ربما أمن خوفه لكنه لم يُطعم من جوعه لكن لم يذكر القرآن ماذا كان دوره معهم! ولعل في قوله تعالى مباشرة: "كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا". أن ذا القرنين قد تصدق عليهم بما لديه من مال وطعام رحمة من الله!، أما القوم الثالث فقد أٌطعم من جوعه لكنه لم يأمن من خوفه فكان دور ذي القرنين أن آمنهم من خوفهم رحمةً من الله.
ثم تختم السورة بما بدأت به، عن العناصر ذاتها: الأعمال، الحياة الدنيا، والثواب الخير، والإيمان بلقاء الله وعدم الإشراك به. "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"
أما السؤال ما زينة الفقير العقيم؟ الحق أنه كلمة زينة تكفي لنفهم منها أنها ليست ميزة أو مطلوبة فالله قدم عليها الباقيات الصالحات، وهي متاحة لكل إنسان سواء كان ذا مال وولد أم لم يكن.. أي إن الزينة شيء ظاهر كما أن الولد والمال شيء ظاهر ولا نعلم أفيهم خير لنا أم لا! ( قصص الكهف تجيب على ذلك وتبين أن الإيمان والعمل الصالح ليست نجاة للعقيم الفقير فقط بل للغني الولود). وقصة ذي الجنتين التي تبين كيف تفاخر على صاحبه، بيّن الله فيها ما هو معيار التفاضل هناك كي لا يحزن فقير أو عقيم..