إن مما لا يرقى إليه الشك أن الأعياد الدينية، تحتل مكانة سامية في نفوس المسلمين، وذلك لمقامها التشريعي، فهي من أعظم الشعائر الدينية التي تأتي بعد انتهاء مواسم الطاعات والخيْرَات، فبعد انتهاء شهر الصيام يأتي عيد الفطر، وبعد انتهاء موسم الحج والأيام العشر الفاضلة من شهر ذي الحجة يأتي عيد الأضحى؛ إن العيد إذن زمن مقدس عند المسلمين، إنه انتقال من زمن إلى زمن آخر.
بالرجوع إلى المعنى اللغوي لكلمة "العيد"، نجدها مشتقة من فعل "عاد"، فنقول: عَادَ يَعودُ عِيدًا؛ ومعناه الرجوع والتكرار والعودة؛ على الأقل في كل مرة من السنة، لكن يحق لنا أن نتساءل بأي معنى ينبغي أن يَعُود العيد على المسلمين؟ بعبارة أخرى؛ كيف ينبغي أن يستقبل المسلم العيد؟ بل كيف يستفيد المسلم من زمن العيد أقصى استفادة؟ وما المقاصد الشرعية والقِيَمِية والمعاني التجديدية من استقبال العيد وعَوْدتِه؟ ولا أصدَقَ من قول المتنبي حين عَبَّر عن هذا كله في مطلع  قصيدة له: 
               عيدٌ بأية حال عُدتَ يا عيدُ      بما مَضى أم بأمر فيك تَجْديدُ 

فإذا لم تكن معاني التجديد، والمقاصد السامية للعيد حاضرة، فلا معنى لعودة العيد، وسيبقى يوم عادة اعتيادية في حياة المسلم،لا استفادة ترجى ولا غاية تدرك. 

وفي هذا السياق، نجد من خِيرَةِ الأقلام التي كتبت بغرض التجديد في معاني العيد، الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، الذي خط في كتابه الذائع الصيت "وحي القلم" مقالتين شهيرتين، الأولى وضع لها عنوان: "المعنى السياسي للعيد"، والثانية بعنوان "اجتلاء العيد"،  تحدث فيهما عن القيم السامية التي يحملها العيد في طيّاتِه، والتي تحتاج من المسلمين إلى مزيد من التّحري، ومزيد من التنقيب عنها، مبرزا أن المعنى الحقيقي لزمن العيد؛ يَبْعُد بُعْدا كبيرا عن مجرد الاعتناء بالمظاهر الشكلية والمادية فقط، فليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن فهم معاني التجديد في زمن العيد، وعمل على استثمارها طيلة أيام حياته، خدمة لنفسه ودينه وأمَّتِه، وفي هذا السياق يقول الرافعي: " ما أشد حاجتنا إلى أن نفهم أعيادنا فهما جديدا، نتلقاها به، ونأخذها من ناحيته، فتجيء أياما سعيدة عاملة تُنبّه فينا أوصافها القوية، وتُجَدّد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق ". 
إن مع تبدل الأيام ودوران الزمن، والتغيير الكبير الحاصل في كيان الأمة؛ فَقدَ معها العيد كثيرا من معانيه السامية، ومقاصده العالية، فَقدَ العيد بهجته الحقيقية، وقيمه الروحية ومعانيه التجديدية، ومن تلك المعاني التي ينبغي أن يَستحضِرَها المسلم زمن العيد ويُعَمِّمَها على حياته وفي سائر أيامه، نذكر:

1- استشعار القدرة على التغيير:

ينبغي أن يَشعر المسلم زمن العيد بأنه في يوم مختلف، وليتأمل كيف أنه استطاع أن يُحوِّل هذا اليوم إلى يوم غير عادي، وأنه نجح في تغيير كثير من عاداته السلبية إلى أخرى إيجابية، وأن الدافع والقوة التي جعلت هذا اليوم مغايرا عند المسلم على سائر أيامه؛ هي قوة كامنة ينبغي أن يستشعرها المسلم، وأن تبقى معه هذه القوة على التغيير كل أيامه في سيرورة دائمة.

 يقول الرافعي في "وحي القلم" موضحا هذا المعنى من العيد: " ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير"، إن زمن العيد هو ما ينبغي أن تكون عليه سائر أيام المسلم، إنه نموذج مُصغّر لما ينبغي أن تكون عليه الحياة في الأصل، فلتكن أيام المسلم كلها أعيادا، فالعيد هو اليوم الطبيعي في هذه الحياة التي خرجت عن طبيعتها في ما دون أيام العيد. 

2- صناعة السعادة:

إن أوْلى الناس بالفرح المسلم، وهو الأحق بالسعادة، " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"، في العيد يبدو مُحَيّا الناس عليه السرور والبِشارَة والفرح والسعادة، لكن لماذا لا تستمر هذه السعادة والبِشَارة مع المسلم طيلة أيام السنة؟ لماذا بعد انقضاء العيد يرجع الناس في حالة تَجَهُّمٍ قصوى؟. إن المسلم إذن ينبغي أن يجد في العيد فرصة للوقوف أمام هذه المعاني، وأن يقف مع نفسه وقفة تغيير، فيبدل جهده في المحافظة على مقدار السعادة لديه، وأن يَستزيد من منسوبها في سَانِحَة العيد، تُعينُه على أن يبقى مُستبشرًا طوال السنة.

 يقول الرافعي واصفا معالم السعادة يوم العيد: " ذلك اليوم الذي يَنظُر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجَمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة "، إن العيد انطلاقة حقيقية لسعادة المسلم في سائر أيامه، بعد أن تَزوّد بكل هذه النظرات التي تلمح في العيد الجَمَال والسعادة والبِشَارَة، يُضيف الرافعي ما يعزز كل هذا، وأن المسلم يجب عليه أن ينقل كل هذه المعاني معه خارج زمن العيد، فيقول: " ومن كل هذه النظرات، تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم، فَتَبْهج نفسه بالعالم والحياة... وما أسْمَاها نظرة تكشف للإنسان أنّ الكلّ جَمَاله في الكلّ ".

3- الشحنة الإيمانية القوية:


إن مجيء العيد بعد انتهاء مواسم الطاعات، فرصة عظيمة لشكر الله تعالى على أن هَدَى المسلم للقيام بالشعائر الدينية أولا، والشكر له ثانيا لأنه منح له القدرة على إتمام الطاعات والإتيان بها، إنه شكر ممزوج بالفرح، وهذا الفرح هو الذي يَخرُجُ من المسلم مَخْرَجَ التكبيرات زمن العيد، "ولتُكبِّرُوا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون"، فيجتمع الفرح والشكر في قلب المسلم زَمَنَ العيد إيمانا وتقوى، إنه يوم الاستزادة من الإيمان، وإضافة شحنة قوية من الإيمان واليقين، تُعِينُ المسلم على الصبر في مختلف ما يُكابدُه في هذه الحياة طيلة أيام السنة. 


4- تقوية الروابط الاجتماعية:


يجد المسلم في العيد حُجّة قوية لصلة الأرحام، وزيارة الأقارب، وإخراج زكاة الفطر والصدقة، وبذل الهدايا على الكبار والصغار؛ وهذا شيء يُوَطد العلاقات الاجتماعية، ويَشدّ عَضُد أواصر المحبة بين الناس. لكن الأروع من ذلك أن يكون العيد انطلاقة التلاحم العائلي، وبداية حقيقية وفعالة للتماسك الاجتماعي على مدار الأيام العادية، فيخلق المسلم في داخل نفسه طوال السنة أشبه ما يكون بأعياد افتراضية، يتحلى فيها بكل هذه القيم الاجتماعية التي تَكُونُ المجتمعات في أشد الاحتياج لها.


5- العيد مدرسة للقيم: 


يزخر العيد في الثقافة الإسلامية بمنظومة رائعة من القيم؛ فهو مناسبة لصلة الأرحام، وسَانِحَة لنشر السعادة، والعطف على الأطفال وإسعادهم، وتمتين التماسك الأسَرِيّ والعائلي، وتوطيد أواصر المحبة والأخوة، ونشر قيم التضامن والتآزر بين مختلف شرائح المجتمع؛ إنها قيم سامية، ومقاصد جليلة تُسْتنْبَط من زمن العيد.

 يُحدِّثنا الرافعي في هذا السياق عن القيم التي يتضمنها يوم العيد، فيقول عنه: " يوم السّلام، والبِشْر، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقَوْل الإنسان للإنسان: وأنتم بخير "؛ ينبغي الحفاظ إذن على هذه القيم، والعمل على استثمارها وتنميتها، وتعميمها ونشرها انطلاقا من زمن العيد إلى باقي الأيام.

 
ما أشد حاجتنا اليوم إلى أن نفهم أعيادنا الدينية فهما حقيقيا؛ فهما جديدا، تنجلي به كل مشكلات الحياة وتعقيداتها. إن العيد إذن وقفة زمنية تأملية، تستدعي من المسلم أن يُرمِّم خلالها شعث أفكاره، وأن يعيد نسمة الحياة السعيدة لأيامه، وأن يقوم بالتجديد في نظرته وفهمه للعيد، وأن يستفيد منه ويُفيد، وأن يُؤمِن المسلم مع كل هذا بقدرته على التغيير في سائر أيامه العادية، كما كانت له القدرة على التغيير زمن العيد، وقُصَارى القول؛ أيتها الأمة عاودتك السُّعُود، ما عاد عيد، واخضرّ عود.