في أوائل سبعينات القرن الماضي، ابتكر الأمريكي رالف نادر مصطلح whistle-blower لتجنب الدلالات السلبية الموجودة في كلمات أخرى مثل (informers)، أو (snitches)، وتترجم هذه الكلمة ترجمة حرفية: بنافخ الصفارة، ويترجمها البعض كاشف الفساد أو المخبر أو المبلغ عن الأعمال غير القانونية، وقيل الجراس، وقيل المبلغين الداخليين، وكلها تعريبات لمصطلح يمكننا تعريفه بأنه: "الإفصاح عن معلومات متعلقة بأنشطة فاسدة، أو غير قانونية، أو احتيالية أو منطوية على مخاطر ترتكب في منظمات القطاع العام أو القطاع الخاص وتثير مخاوف أو تمثل تهديدًا للصالح العام، أو الأفراد أو المؤسسات التي لها القدرة على اتخاذ الإجراءات"[1]. 

ويمكننا القول في تعريف هذا المصطلح: عبارة عن فرد أو مجموعة من الأفراد، أو جمعيات أو صحف أو منظمات مجتمع مدني غير منحازة تقوم بوظيفة الضمير المجتمعي حين وقوع الفساد من أي شخص أو مؤسسة بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الطائفي أو نحوها من الانتماءات، أو هو بتعبير آخر: حرص الموظف على المنشأة التي يعمل فيها وسعيه الدؤوب في الحفاظ على مكتسباتها القيمية، وارتباطه العميق بمنظومتها الأخلاقية، وإيمانه العميق بأهدافها السامية، الأمر الذي يدفعه لمناهضة الفساد بدافع الضمير.

وإن كان عصرنا الحالي يشهد تطورات كبيرة في آليات مكافحة الفساد، ووجود الكثير من الأجهزة الإدارية المهتمة بمراقبة الفساد وكشفه، وقد بلغت هذه المؤسسات مستويات متقدمة في أساليب الكشف عن الفساد، إلا أن أغلب قضايا الفساد المبلغ عنها في المجتمعات المتقدمة كانت من قبل أشخاص عاديين يتطوعون ليخبروا عن ذلك سرًا وعلنًا، وقد ابتدعت بعض الأنظمة الغربية وسائل حماية لهؤلاء الأشخاص، ووضعت التشريعات المناسبة المشجعة لهم والتي تحفزهم على المبادرة وتوجب التعامل الجاد معهم.

 نافخ الصفارة أسلوب تطوعي يعتمد على المبادرة في مكافحة الفساد، وقد قدم هؤلاء المبلغين جهودًا جبارةً في كشف الفساد والاحتيال وسوء الإدارة، وغيرها من الاعتداءات التي تهدد الصحة والسلامة العامة، والنزاهة المالية، وحقوق الإنسان، والبيئة والقانون، بالإبلاغ عن مثل هذه المعلومات ساهم المبلغون في إنقاذ أرواح لا حصر لها ومليارات الدولارات من الأموال العامة، مع منع الفضائح والكوارث المنبثقة من التفاقم.[2]

وأول القوانين التي شرعت الحماية لهؤلاء الكاشفين عن الفساد، هو القانون الأمريكي للمزاعم الكاذبة للعام 1863م FCA (والذي روجع في العام 1986م)، من خلال الحماية من الطرد التعسفي أو أي تبعات أو أعمال انتقامية قد تطالهم، بل ويشجعهم من خلال قانونية الحصول على نسبة من الأموال المستردة أو التعويضات التي تكسبها الحكومة، وكذلك قانون لويد -لا فوليت للعام 1912م، وكذلك قانون ساربينز أوكسلي للعام 2002، الذي استهدف حماية كاشفي الاحتيال المؤسسي، والجدير بالذكر أنه يوجد حوالي 20 قانونًا فيدراليًا في إطار اختصاص برنامج حماية كاشفي الفساد (OWPP)، في إدارة السلامة والصحة المهنية (الأوشا) التابعة للإدارة الأمريكية[3]، بل إنه بموجب قانون دود- فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك 2010 تشكل مكتب كاشفي الفساد بلجنة الأوراق المالية والبورصة.[4]

 

منشور الحكومة الفيدرالية الأمريكية لتوعية مكافحي الفساد. (المصدر: ويكبيديا).

وقد تبنت أكثر من اثنتي عشرة دولة الآن قوانين شاملة لحماية كاشفي الفساد؛ حيث تضع آليات للإبلاغ والتحقيق في البلاغات وتوفير أوجه الحماية القانونية للمبلّغين. بينما تبنت أكثر من 50 دولة أوجه حماية محدودة أكثر كجزء من قوانينها لمكافحة الفساد أو حرية المعلومات أو التوظيف[5].

وقد شكلت من أجلهم المنظمات الخاصة لحماية حقوقهم مثال ذلك: المركز الوطني لكاشفي الفساد National Whistle blowers center في الولايات المتحدة الأمريكية، والشأن العام في العمل Public Concern at Work في المملكة المتحدة، ومؤسسة كاشفي الفساد في أستراليا (Whistle blowers Australia)، ومكتب نزاهة القطاع العام الكندي Public Sector Integrity office التابعة للبرلمان الكندي، وقد أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 2008 حكمها بحماية كشف الفساد على اعتبار أنه حرية تعبير.

وهذا العرض المختصر السابق يوضح لنا كيف استطاعت المؤسسات الغربية تحديث آلياتها وابتكار وسيلة مناسبة لمكافحة الفساد مبنية على الوازع الأخلاقي، في حين أن المثل الشائع في مؤسساتنا: ((إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب))، فهذا السكوت الذهبي هو سلوك الغالبية العظمى في المؤسسات العربية، تجنبًا لدواعي الانتقام واتهام الناس لهم بالوشاية مع أن المفهوم الشرعي للوشاية لا ينطبق مع هذا المفهوم الذي يقصد محاربة الفساد العام بدافع الضمير، فقد ارتقت المؤسسات الغربية بفعل وجود أمثال إدوارد سنودن ولم يتحدث الكونجرس الأمريكي عن محاكمة ترامب إلا بفعل نافخ الصفارة، فمن أين لمؤسساتنا بهؤلاء الحكام الجدد، ما دامت ثقافة الفساد في مؤسساتنا ومجتمعاتنا متجذرة؟