من الأقوال التي ترسخت في الأذهان، وكتب لها القبول وحفرت في الوجدان "الجغرافيا هي أحد الأقدار Geography is Destiny”. وهذا أمر لا شك فيه من حيث العموم. لكن العبارة ظلت تستخدم في سياق محدد، مفاده أن قوانين الجغرافيا هي التي تحدد أقدار التجاور والتعاون والتأثر بين الدول، كما أنها وزعت المتناقضات (الثروات/الإمكانيات والصعوبات/التحديات) بشكل لا يمكن تجاوزه. هذا السياق الخاص للعبارة لم يعد كذلك في عالم اليوم. فقد لعبت ثورة البينة التحتية Infrastructures دورا كبيرا في ربط القارات، والتقريب بين الثقافات وأسهمت في التغلب على التحديات. بل إنني أزعم أن البنية التحتية المهولة التي غطت الكرة الأرضية (من شبكات الطرق والسكك الحديدية وخطوط نقل النفط والغاز وشبكات الكهرباء وخطوط الألياف الضوئية العابرة للقارات وخطوط الطيران والملاحة البحرية والمطارات والموانئ) قد غيرت من ملامح الجغرافيا بأكملها. 

لقد أصبحت الخطوط التي تمثل الحدود الدولية في خرائط اليوم أقل أهمية مقارنة بالخطوط التي تمثل شبكات الكهرباء والإنترنت وال Pipeline، حتى أصبحنا نعيش في عالم السمة المميزة له هي التواصلية (وهي الترجمة التي راقت لي لمصطلح ال Connectivity) وليس الحدود Borders، وهذا ما يدفعني لتعديل العبارة آنفة الذكر إلى "التواصلية هي إحدى الأقدار Connectivity is Destiny".

إذا ما غيرنا نظرتنا التقليدية إلى طبيعة العالم الذي نعيش فيه والبنية التحتية التي تربط أطرافه المترامية لوجدنا أن الجغرافيا ليست سوى جسد مهول تتوزع أطرافه بين قارات العالم؛ وأن البنى التحتية (الشبكات التي وصفناها آنفا) هي النظام العصبي الذي يتحكم في هذه الأطراف. هذا التصور (الأقرب إلى الميتافيزيقي) كفيل بإحداث ثورة مفاهيمية من خلالها يمكن تصور عالم جديد عابر للدول world beyond states ومجتمع ممتد أقوى ارتباطا وأعمق اتصالا بين مكوناته الأحادية (global society).

هذا التطور المفاهيمي سيغير طريقة تفاعلنا مع الخرائط، فبالإضافة إلى الخرائط الطبيعية والخرائط السياسية، سينشأ نوع جديد من الخرائط تركز على توزيع البنى التحتية في الدول والقارات وكيفية ارتباطها واندماجها مع بعضها البعض. هذه الخرائط "خرائط التواصلية connectivity maps” ستمكننا من فهم واستيعاب الجغرافيا السياسية geopolitics الإقليمية والعالمية وكيفية تفاعلها، والديناميكيات التي تتحكم في القوى العظمى والمدن الكبرى والشركات العابرة للقارات. بالإضافة إلى مستقبل التنافس بين هذه المكونات في الموارد والأسواق والعمالة الماهرة.

إننا نعيش بداية عهد جديد تتجاوز فيه المدن الكبرى super cities أهمية الدول، وتتفوق سطوة القوة لسلاسل الإمداد Supply Chain على هيمنة الجيوش. بل وربما تتحول أولويات الجيوش من حماية الدول والمدن إلى توسيع سلاسل الإمداد وتأمينها من الهجمات السيبرانية أو الاضطرابات السياسية والثورات الجماهيرية. 

وهنا لابد من التذكير إلى الأثر الذي تركته الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات على سوق النفط العالمي وحركة الملاحة في الخليج العربي. وكيف أثرت الثورة الليبية في العقد الماضي على سعر النفط، بل وحتى أسهم شركات الطاقة العالمية.

المتأمل في المشهد السياسي الدولي، وتمظهرات الصراع بين الغرب المهيمن (أمريكا وأوروبا) والشرق المتمرد (روسيا والصين)، لابد ان تستوقفه ظاهرة أفول نجم القارة العجوز، ودخول لاعبين جدد على مسرح القرار الدولي. لا غرو، فقد أثبتت الأيام أن قمة الدول السبعة الكبرى G7 (والتي تشترك جميعا في انتمائها الاثني وثقافتها الغربية باستثناء اليابان) لم تعد تمتلك الأدوات اللازمة للتعامل مع القوى الصاعدة. فجاءت المبادرة إلى توسيع مظلة المشاركة عبر تشكيل قمة العشرين G20، والتي مثلت فيها الدول غير الامبريالية ذات الثقافة غير الغربية ١٢ دولة (روسيا، الصين، اليابان، الهند، البرازيل، كوريا الجنوبية، الأرجنتين، تركيا، المكسيك، اندونيسيا، جنوب أفريقيا، السعودية). هذا التوسع الكبير لصالح القوى الصاعدة مثل اعترافا صريحا من القوى التقليدية انه لم يعد بوسعها فرض هيمنتها على العالم الجديد. وعلى الرغم من استمرار هيمنة القوى التقليدية على عدد من الفعاليات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، إلا أن حالة الرفض لهذه المؤسسات والأصوات المتعالية والداعية لضرورة تصحيح التمثيل فيها، ربما قاد إلى إعادة هيكلة هذه المؤسسات ودخول لاعبين جدد مثل الهند وجنوب أفريقيا إلى مجلس الأمن.

إن ما يميز القارة العجوز هو أنها أكثر القارات على الإطلاق من حيث الاندماج في البنى التحتية والتواصل بين أصقاعها المختلفة، الشيء الذي يعطيها ميزة تفضيلية عن بقية القوى الصاعدة. فخطوط السكك الحديدية وشبكات الكهرباء وأنابيب نقل الغاز والطرق البرية المنتشرة في أوروبا جعلت منها دولة واحدة وليس قارة جامعة.

 إن الصراع المستقبلي بين القوى القادمة سيشمل الهيمنة على خطوط الإمداد، الشيء المبشر هو أن هذا الصراع لن يأخذ الطابع الدموي الذي ميز كل الصراعات على مر التاريخ؛ كما أنه لن يكون حكرا على دول الـ G7. 

فدولة مثل تركيا ستكون لها من الأهمية الاستراتيجية ما يفوق اهمية دول عظمى مثل اليابان وبريطانيا. فتركيا التي عرفت تاريخيا بأنها أرض الصراع بين آسيا وأوروبا، أصبحت تمثل اليوم حلقة الوصل بين القارتين ليس عبر البوسفور وخطوط الغاز فقط، ولكن أيضا عبر مطار إسطنبول الجديد والذي يعد من أكبر المعابر في أوروبا. كما ان إسطنبول قد انضمت عن جدارة إلى قائمة المدن الكبرى Supper Cities في عالم اليوم، وباتت مأوى للملايين من البشر من مختلف الجنسيات.

إنه لمن المتوقع أن تغير ثورة التواصلية (connectivity) في شكل النشاطات الاقتصادية وخارطة الثروات. سيكون من السهل نسبيا نقل الموارد من مناطق الوفرة إلى مناطق الندرة، كما أنه سيكون بوسع القوى العاملة التنقل بين مناطق الإنتاج في الأرياف والبوادي ومراكز المدن. على صعيد آخر، سيكون بوسع المجتمعات تنويع مصادر وارداتها وصادراتها، وإيجاد بدائل منطقية في حال حدوث الكوارث البيئية أو النزاعات الإقليمية والدولية. لم يكن عالم الاقتصاد المشهور كينز Keynes ينظر إلى الإنفاق في البنية التحتية على أنه نوع من الترف، بل عده استثمار استراتيجي في المستقبل. وهذا ما دفع بالحكومة الامريكية في فترة الركود الاقتصادي بين الحربين العالميتين إلى التوسع الضخم في مشاريع البنى التحتية. حتى تجاوزت مساهمة البنية التحتية في الناتج القومي الإجمالي (حتى منتصف القرن الماضي) نسبة ال ٢٠٪؜، لكن الانخفاض في الصرف على البنية التحتية جعل بعض القوى الصاعدة تتفوق عليها في الكثير من النواحي. في المقابل وجدت بعض الدراسات أن استهلاك الصين من الإسمنت في الفترة من ٢٠٠٨ إلى ٢٠٢٠ تجاوز استهلاك الولايات المتحدة خلال قرن من الزمان. أما دول الخليج فقد سجلت حضورا مشرفا في هذا السباق، حتى تفوقت جودة البنية التحتية فيها على الكثير من دول العالم. بل إن بعض الحواضر الخليجية مثل دبي والدوحة تماهت مع الأمر أكثر مما يجب، فبالغت في الصرف على الأبراج والفنادق ومراكز التسوق وملاعب كرة القدم. وقد عبرت زميلتي الأمريكية على الأمر بشكل تلقائي بعد مشاركتها في معرض اكسبو دبي، وقد أصابها الأنبهار بما رأت "لقد تبين لي أن هيوستن ليست سوى مدينة من مدن العالم الثالث. كل شيء في تلك البلاد في غاية الروعة والجمال، لقد أسرفوا في الجمال".

قبل أن أختم أريد أن أنوه أن مسيرة التواصلية connectivity غالبا ما تعترضها بعض الصعوبات. فمن المستبعد أن تنظر أمريكا إلى طريق الحرير (مشروع الصين الحيوي) او خط Nord Stream (مشروع روسيا الاستراتيجي، والذي يمكنها من بيع الغاز إلى ألمانيا) بنوع من الرضا، وربما تحاول اعتراض هذه المشاريع بطريقة أو بأخرى. الصين وروسيا بدورهما سيحاولان تعطيل المشاريع الاستراتيجية لأمريكا في أفريقيا وآسيا. وهناك العديد من الشواهد التي يمكن أن نسوقها ونفصل فيها، والتي توضح محاولة مختلف اللاعبين الدوليين و الإقليميين في التأثير على المشاريع الاستراتيجية لغرمائهم من الدول والتحالفات. لكن في نهاية المطاف؛ ستتوصل هذه القوى المتصارعة إلى حقيقة مفادها: أن التعاون والتفاوض خير من التنازع والقطيعة. ودونكم المحاولات الدؤوبة لإعادة إيران إلى طاولة التفاوض حول مشروعها النووي. 

إن التعاون الدولي الكبير الذي شهده قطاع الاتصالات والتكنولوجيا يمثل نموذجا من التعاون الإيجابي والذي استفادت منه البشرية. لقد استخدمت القوى العظمى نوع من البراغماتية، فبينما فضلت امريكا ان تحتكر قطاع البرمجيات والاختراعات software، وجدت الصين فرصتها واحتكرت قطاع الأجهزة hardware والمواصلات semiconductors. هذا التعاون جعل الصين هي المستهلك الأول لمنتجات شركة أبل (أول شركة في التاريخ يتجاوز سعرها السوقي حاجز 3ترليون دولار)، وأمريكا هي المستهلك الأول لمنتجات التكنولوجيا الصينية.