في ظل التشويش الإعلامي وموضة الفتاوى المنوعة، بات مجال الإفتاء مفتوحا للخوض فيه والمتاجرة بشرائه وحدود الله، فنجد من الفتاوى ما يخدم هوى السلاطين ومنها ما يخدم هوى المستغربين ممن نالهم نصيب من التقليد الغربي، الأمر الذي يستلزم مراجعة وضبط مجال الإفتاء، ومحاولة احتوائه وإعادته لأهله من أهل العلم والتخصص والدراية.. وهذا موضوع الحلقة السابعة عشر من برنامج بيان للناس.
كيف نؤصل موضوع الفتوى للمفتين، حتى نضع الضوابط بشكل دقيق؟
د. نور الدين الخادمي: الفتوى هي بيان حكم الشرع في النازلة والواقعة، وهي فتوى في نازلة فرضية وخاصة وعامة وكلية، لذلك تكلم العلماء عن الفتوى بهذا الاعتبار، الفتوى الجزئية الفردية الخاصة، كالفتوى في الصلاة والزكاة والحج بمستوى معين، والفتوى العامة في قضايا الدولة والمجتمع.
وهذا أصله بالدين يتعلق في أنواع الأحكام، هناك أحكام خاصة وأحكام عامة، وهناك نصوص خاصة ونصوص عامة، فالله لما أسند الأمر الاجتهادي إلى العلماء، أسنده إلى جمعٍ من العلماء (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
ومن هنا جاءت الإشارة إلى الاجتهاد الجماعي وإلى الإفتاء الكلي باعتباره ضربًا من ضروب الاجتهاد الجماعي، لأن الاجتهاد المعاصر على وجه التحديد، اجتهاد مركب في قضايا معقدة، يتصل السياسي فيها بالاجتماعي يتصل فيها الوطني المحلي بالدولي والإقليمي والعالمي.
لذلك نتحدث عن اجتهاد جماعي بمؤسسة محررة ومستقلة ومنتخبة، وهذا الذي يجعلنا نتحدث عن الفتوى العامة أيضًا في مقابلِ ما جرت به عادة كثير من أهل الفتوى الذين يميلون إلى الفتوى الفردية، وكذلك المستفتين الذين يسألون فقط عن القضايا الفردية الخاصة، جزءٌ من هذه الفتوى فردية.
وكل إنسان مسلم معلوم له أن يعلم حكم الشرع في فرضه وصومه وزواجه، ولكنه معنيٌ كذلك أن يعرف الفتوى في وطنه واستقلال شعبه وحريته، من هنا نتحدث عن أصالة بنصوصها وعن أصالة بطبيعة الفتوى وطبيعة الإسلام في أحكامه الكلية العامة وأحكامه الخاصة الجزئية، فضلًا عن أن الحديث عن المؤسسة الاجتهادية، ومؤسسة الإفتاء التي تنتخبُ من أهل الشأن، كما تنتخب هيئات أخرى، والفتوى المؤسسية أيضًا موصولة بمؤسسات الدولة، والمصلحة الوطنية وبشركاء هذه المصلحة من القضاة والاجتماعيين والسياسيين والمربين، كل هذا يؤسس للفتوى العامة باستقلالية وموضوعية وبخدمة وطنية ومن دون أن نعزل هذه الفتوى عن سياقها العام.
لدينا اشكالية في تراثنا الإسلامي، كأن المفتي الذي لا يقترب من السلطة هو أفضل، ومن يقف جنب الحاكم ويرشده هذا يسمى بعلماء البلاط، كيف نتحول من المؤسسة الفردية إلى فتوى عامة ولا نكون من علماء البلاط ونفتي بالشكل الصحيح؟
د. علي القره داغي: لا شك أن المفتين على مر التاريخ كانوا يصنفون على صنفين، صنف يسير مع الحاكم أينما يتجه مثل الأغصان تميل يسارًا وشمالًا حسب ما تؤثر فيه الرياح، والقسم الآخر، يقف مع الحق صادمًا وهذا هو المطلوب، لأن العلماء ورثة الأنبياء ولا ينبغي لهم أن يأخذوا بالرخص ما داموا في محل القدوة، والأمر الثالث هناك المنعزلون الذين يريدون السلامة، وقد بين الله سبحانه ذلك، ونحنُ في الاتحاد جعلناه شعارًا (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، مرتين يخشونه ولا يخشون أحدًا.
في وقتنا الحاضر في قضايا الأمة في الشأن العام، يجب أن تكون مرجعية هذه الفتاوى إلى فتاوى جماعية صادرة من علماء ربانيين تتوافر فيهم أهم الشروط، وهو فقه الواقع وفقه المتوقع والمآلات، وهو ما يسمى بالتحليل السياسي والتحليل الاقتصادي.
وهو موجود في فقهنا، وقد ألفت فيه كتابًا (التحليل الاقتصادي والسياسي في منظور إسلامي) بالإضافة إلى رأي الجماعة، والقرآن ذكر هذه المسألة بصورة واضحة فقال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، إن كان هناك سياسيين واقتصاديين يرجع في النهاية الأمر إلى العلماء، وهذا ديدن أبو بكر في حرب الردة، عندما استشار الصحابة وأقنعهم، وكذلك سيدنا عمر في توزيع أراضي العراق، كانت فتوى عامة، حتى أقنع بلال ومن معه.
هناك إشكالية في الفتاوى الفردية، ولهذه الفتوى آثار سلبية وإيجابية، يفتي بشيء لا يعرفه فيسبب مشاكلا في المجتمع، فهل يعاقب هذا المفتي ويتوقف عن فتاويه؟
محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي: الفتوى تطلق على ثلاث أمور، إطلاقها اللغوّي على البيان والتدريس مثل ما جاءت في القرآن، في قصة يوسف، فإن يوسف سُئل عن رؤية السجينين فقال: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، وأجابهما وقال (قضيّ الأمر الذي فيه تستفتيان).
كل العلماء يعلمون شرع الله ويخبرون به، لكن الفتوى بمعناها الاصطلاحي، هو ما بينه الإمام القرافي بأنها الأخبار بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام، المفتي في زماننا ينقسم إلى قسمين، ناقل ويفتي على ما لديه من مذهب معين فينزل ذلك على الجزئيات، والشاطبي قال: أن كل حكم شرعي مُألف من قضيتين، قضية صغرى واقعية وقضية كبرى شرعية، والقضية الكبرى قلما يقع فيها الخطأ.
والقضية الواقعية يختلف فيها الناس، فالمفتي إذا اجتهد وطلب الحق لا يعاقب لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو سبب كل شيء لأنه اجتهد، ولا يعاقب إلا إذا قصر، لأنه هو مثل الأمناء.
وعندنا في الشريعة الضمان ينقسم إلى قسمين: ضمان يد الأمانة، وضمان يد التعدي، والمتعدي هو الذي يعاقب على تعديه، والأمين إذا أخطأ، مثل والد أدب ولده فأخطأ في تأديبه، الطبيب أراد أن يعالج فأخطأ، لا يعاقب، أما إذا قصر يعاقب، وكذلك السلطان أيضًا إذا لم يقصر فلا عقوبة عليه.
لست مقتنعا أن المفتي يفتي بفتاوى ليس لديه فيها وعي تام ودقيق في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو لا يتريث، يفتي وفقط والنتيجة يتم بسبب فتواه خسران الاقتصاد وغيره، فإذا لم يعاقب بهذه الفتوى، فالكل بعده يفتي؟
د. أحمد الريسوني: في الغالب يكون هنا المفتي مقصرا، لأنه إذا أفتى بما لا علم له فيه، فقد اعتدى وتعدى حدوده وأفتى بجهلٍ وقصر في مهمته العلمية، والأسوأ من التقصير هو تعمد التحريف والتلاعب وتأييد الظلم والظلمة، وهذا ربما يدخل في سؤالكم وهو أسوأ.
فالمفتي يجب أن يكون أمينًا في عمله وأن يكون مجتهدًا، حتى وإن كان ناقلًا يجتهد ويتحرى ويدقق في الألفاظ، وأن يكون مخلصًا لله ولا لغيره، فإذن.. المفتي حين يضع نفسه في خدمة ظالمٍ أو مستبدٍ هذا يكون قد باع دينه وعلمه، فبدون شك يحاسب دنيويًا وأخرويًا.
ما تعليقك على ما سمعت من الفتاوى؟
د. عبد المجيد النجار: أكثر ما يصيب الفتوى والمفتي من خطأ، هو عدم العلم بالواقع وحقيقته، فالمفتي المطلوب منه أنه لا يكتفي بمعرفة الحكم الشرعي وإنما ينبغي أن يتقصى تفاصيل ودقائق الواقعة التي يفتي فيها من جوانبها النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وربما يكون عالمًا على قدر ما بعلم النفس الاجتماعي، كي يعرف مآل الحكم الذي سوف يصدره من خلال الفتوى، وهل يكون محققًا المصلحة أو لا يكون، كثير من المفتين لا يتحروا هذا التحري، وهذا تقصير.
ونحنُ عشنا تجرِبة في الغرب حينما كنا نسكن هناك، فكان بعض المسلمين الذين يعيشون في الغرب يستفتون بعض المفتين وخاصة من المشرق، فيفتونهم بفتاوى هي صالحة في بلاد المسلمين ولكن لا يتحرون الواقع الذي يعيشون فيه المسلمون هناك، فتقع مشاكل كبيرة، إذن.. المفتي لا يكفي له أن يكون عالمًا بالشرع وإنما بالأخص في الفتاوى الكبيرة، لا بد أن يكون له حظ من العلم الوفير، والواقع الاجتماعي أو يستعين بمن له علمٍ بهذا.
من لم يتعمق في الفتوى وإدارتها كيف نصنفه مفتيًا في المجتمعات الإسلامية، ما هي تجربتك التاريخية في هذا الشأن؟
د. علي الصلابي: بعض القراء الذين لم يتعمقوا في الفتوى ساهموا في الغلو في الفتاوى ووقعوا في الدماء، ففي قضية الاقتراب من السلطة وعدمها، هناك نموذجان، نموذج رجاء بن حيوة الذي كان مستشار لسليمان بن عبد الملك، فطلب من الدولة الأموية وساهم في إيجاد عمر بن عبد العزيز في المشهد السياسي، فكان رأي رجاء بن حيوة في سكرات الموت مع سليمان بن عبد الملك أن يوصي لهذه الأمة بشخص ليس للشيطان فيه نصيب وأشار عليه بعمر بن عبد العزيز فكان اقتراب هذا العالم والمفتي من الحكم فيه فائدة عظيمة لهذه الأمة، وهو وصول عمر بن عبد العزيز إلى السلطة والحكم.
المشهد والنموذج الآخر: أبو الحسن الزجال، أحد علماء شمال افريقيا من المالكية وكان مستشارًا ومقربًا للباديس الصنهاجي مؤسس الدولة الصنهاجية التابعة للدولة الفاطمية الشيعية الاسماعيلية الباطنية، فتولى تربية الأمير معز بن باديس وعلمه، فلما وصل المعز بن باديس إلى الحكم انقلبت الدولة وأصبحت من أهل السنة وتطبق سنة المصطفى وعهد الخلفاء الراشدين.
ما الفرق بين الفتوى والاجتهاد؟
د. علي القره ياغي: الفتوى هي بيان الحكم الشرعي لنازلة من النوازل عندما يسأل عنها المفتي، فدائمًا الفتوى تأتي بعد السؤال، والفتوى قد تكون نابعة من اجتهاد الشخص، وقد تكون منقولة من أحد المذاهب، أو ترجيحية، بالتالي لا يشترط بالمفتي أن يكون مجتهدًا، قد يكون مقلدًا، تقليدًا كاملًا ويفتي في ضوءِ مذهبه، ويفتي من غير ترجيح فيرجح، وقد يكون من أهل الاجتهاد فيجتهد.
أما الاجتهاد فهو دراسة القضايا والنوازع المعاصرة في ضوء الكتاب والسنة، للوصول إلى الحكم المعين لهذه النازلة وقد يسأل عنها المجتهد وقد لا يسأل عنها، مثل ما ندرس في بحوثنا المعاصرة أو في الندوات والمؤتمرات.
فيجتهد فيها الإنسان اجتهادًا جزئيًا، معظم اجتهاداتنا اليوم اجتهادات جزئية في مسألة معينة أو باب معين أو تخصص معين، إذن الفرق بين الاجتهاد والفتوى، العموم والخصوص من وجه، فكل واحد يلقي في جانب، يلتقيان فيما إذا كان المفتي مجتهدًا، ويختلفان فيما إذا كان المفتي مقلدًا.
ما الفرق بين القضاء والإفتاء؟
القضاء هو إصدار حكم من القاضي أو من المحكمة بعد الشهود والدراسة ويكون هذا الحكم ملزمًا، أما الافتاء فلا يحتاج إلى هذه الدراسة والشهادة لأنه يجيب في ضوء السؤال الذي سئل المفتي عنها، تسألني الآن ولا أقول أين الشهود، ولكن يجب على المفتي أنه اذا كانت القضية نزاعية أن لا يصدر فيها الفتوى إلا بعد أن يسمع الطرف الآخر، فالإفتاء غير ملزم والقضاء ملزم.