قل: صدق الله!

إنهم  يكيدون كيدا، وإذا خَلَوْا عَضُّوا على "الأمة" الأنامل من الغيظ، ولهذا تراهم -رغم أن قلوبهم شتى- جميعا في دأب حثيث وسعي رهيب  وتخطيط متجدد:
يقتلعون من زرع الأمة خير السنابل لحرقها، ويسرقون من كنوز  أرضها  أغلى  مناجمها، حتى تمتدّ فيها وتشتد عليها السبْع العجاف وتلازم صف التسوّل الدولي.
ويختارون من علمائها أشجع  الفرسان،  ليدحرجوه عن صهوة العطاء حتى لا يوقد شمعة ولا يضيء دربا.
ويعتقلون  من دعاتها أروع الأصوات، ليسكتوه  حتى لا يبعث وعيا ولا يشحن قلبا ولا يوقظ همة.
ويحاصرون من كتّابها  أصدق الأقلام، ليكسروه حتى لا يزرع حرفا ولا ينتقد ظالما.
ويشوّهون من رجالها أنبل  الأحرار، ليغتالوه حتى لا يؤم  صفا ولا يقود شعبا ولا يعارض حاكما.
يفعلون ذلك حرصا منهم على أن لا يرونها إلا أرملة بائسة متسكعة، لا وليّ لها ولا عائل.

مشروع كيدي خبيث وخطير  يعمل أساسا على إفراغ الأمة من كل رموز الهمة العلمية والوطنية والسياسية والفكرية حتى تفقد مناعتها وتبقى عرجاء عليلة  مستضعفة لا تجرأ على مقاومة ولا يرجى منها عطاء، أرملة بائسة لا وليّ لها ولا عائل سوى الأمم المتحدة ولا وطن لها إلا خيام اللاجئين وأرصفة الغربة.

اللهمّ سلّم!

في الشهور الماضية ظهر اهتمام لافت وتعاطف واسع  مع  رموز الهمّة ونخبة الدعوة التي تزدحم بهم سجون الظالمين، برز على إثره  انشغال كبير بسوء المصير"إعدامًا" المتربص بباقة  صالحة من رجالات الأمة الواعدين وعلى رأسهم الدكتور "سلمان  العودة " ورفاقه و"الرئيس مرسي" -رحمه الله- وإخوانه، والذي روجت له الماكينة الإعلامية الرسمية كخطوة من خطوات ممنهجة تنفيذا لمشروع كيدي خبيث وخطير  يعمل أساسا على إفراغ الأمة من كل رموز الهمة العلمية والوطنية والسياسية والفكرية حتى تفقد مناعتها وتبقى عرجاء عليلة  مستضعفة  لا تجرأ على مقاومة ولا يرجى منها  عطاء، أرملة بائسة لا وليّ لها ولا عائل سوى الأمم المتحدة  ولا وطن لها إلا خيام اللاجئين وأرصفة الغربة.
فلماذ الحرص اللاهث وراء تغييب الرموز واغتيال القدوات وخاصة في هذه الحقبة بالذات؟

  ظاهرة  التسقيط

يطلق البعض على هذه الظاهرة مفهوم "التسقيط"، التسقيط أو التهديم أو التشهير رذيلة  نفسية ومرض اجتماعي وسلبية أخلاقية  يقابله  في المفهوم القرآني مصطلح البهتان والإيذاء والافتراء والإفك، وبما أنّ للرمز العلمي والديني والفكري قوة معنوية  وجاذبية اجتماعية، يحرص الكائدون على سلب  هذه القوة وتدمير هذه الجاذبية بادعاءات زائفة  ونشر افتراءات باطلة تخدش وضاءة صورة الرمز وتدنس من فخامته الاجتماعية حتى ينفر الناس من التواصل معه.  
من ذلك ما يتعرض له علماء صالحون ودعاة بارزون من كذب وافتراء وتشويه لصورتهم وطعن في انتماءاتهم  من أجل تسقيط رمزيتهم  المجتمعية  وتبهيت صورتهم  قصد  عزلهم اجتماعيا حتى تفرغ الساحة للسفهاء والمارقين فيضلون ويضلون.
هذا الإجرام الاجتماعي تكمن خطورته في وفرة وسائله إذ أنّ له مواقع تواصل اجتماعية سريعة الانتشار رهيبة التأثير وهي لا تعوزها القدرة على التلفيق والكذب"وفوتوشوب " الذي ينطلي للأسف على السذج من الناس مما يسارع بعزل الرموز عن مريديها ويضعف  قوتها التأثيرية في المجتمع.

التحذير القرآني من ممارسة الإيذاء

الإيذاء خلق مذموم، قد يظن البعض أنّ الإيذاء هو لطم خد أو صفع وجه أو كسر عظم للشخص أو شج رأسه وإسالة دمه، ...هذا عدوان، الإيذاء أوسع من ذلك  فهو يشمل كل ما يكرهه الإنسان وكل ما يصل إليه من ضرر ومكروه، نفسيا وجسديا ومعنويا وماديا.
ولأنّ الإيذاء ممهد لهلاك المجتمع، فكلما  كثر المؤذون في المجتمع وسكت الناس عن محاولة ردعهم فسدت أحواله، وقد رهّب القرآن من ممارسته وتوعد أصحابه بالويل والإهانة:
"وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً" (الأحزاب:58)
هذه الآية الكريمة -كما يقول أحد المفسرين- تشهّر بالجانب السلبي الذي يتحرَّك به بعض الذين يعيشون في المجتمعات الإيمانية ويؤذون المؤمنين في أنفسهم وأهليهم وأوضاعهم العامة، بحيث يتحرَّكون بغيبة المؤمنين وبذكر عيوبهم والتّشهير بهم انطلاقاً من عقدة نفسية يعيشونها، ولم يفرّق الله تعالى في مسألة الأذيّة بين المؤمنين والمؤمنات، ولا بين قريب أو بعيد.

المسلم لا يكون مؤذيا ولا ينخرط في التسقيط

فالمسلم يجب أن لا يكون إنساناً مؤذياً للآخرين، فلا تتحرّك يده بما يسيء إلى الآخرين سلبا لأموالهم ولا قذفا لأعراضهم، ولا يتحرّك لسانه بالإساءة إليهم تشهيرا لعيوبهم، أو تجريحا لسيرتهم سواء بدافع عقدة نفسية، أو وضع اجتماعي معين، تحقيقا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:  "المسلم من سَلِم المسلمون من يده ولسانه".

كما  لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً، أي أن يخيفه ويجعله يشعر بالأذى وعدم الأمان، كما جاء في حديث مرفوع  عَنْ عبد الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ نَظْرَةً يُخِيفُهُ بِهَا (باعتبار أنه يملك السلطة) أَخَافَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" . فإذا كان هذا جزاء مجرد نظرة ترويع، فكيف بمن يسجنون أبرياء ويعدمون علماء ويجلدون أتقياء، ويهدمون بيوتا على أصحابها ويهجّرون شعوبا من أوطانها؟

أهمية القدوة.. وضرورة الرمز

في الذاكرة الشعبية  عبارة "كبار الحومة"  لها دلالتها ورمزيتها، تستميت الدول والحضارات في صنع رموزها ونحت أبطالها و تدوين ملاحم جهادها ومقاوماتها وحروب تحريرها، وذلك  لشدة الحاجة إليهم في رفع همم الناشئة وتثوير عزائم الشباب، فالشعوب لا تتوحد إلا حول رموزها الوطنية ولا تخطو الأجيال إلا على درب الأبطال والأحرار.
ولهذا لا تكاد  توجد  أمة من الأمم تعيش بلا رموز  تنير طريقها، ومقدسات تعطيها القوة فالأمم تحرص على صناعة رموزها الوطنية الخاصة بها لكي تكون بمثابة القدوة والنموذج الذي يحتذي به أفراد المجتمع والشباب  منهم بصفة خاصة، سواءً كانت هذه الرموز سياسية أو دينية أو علمية أو اجتماعية.
فالرمز عامل مؤثر في حياة الإنسان واستمرارية المجتمع ولهذا فكلاهما يحتاج إلى رمز يعيش معه ويتعلم منه ويتأثر به وبأفكاره قد تتعدد القدوات في المجتمع الواحد.
والخبراء في الدراسات الاجتماعية ينفون وجود نجاحات  في مجتمع ما دون قيادات رائعة  ورموز صالحة يتبعها الناس.

 الأهمية التربوية للرمز.. خيرا وشرا

النموذج أو حسب التعريف القرآني  "الأسوة" و"القدوة" كما جاء في موضعين من الكتاب:  "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"،  و"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".
دوره خطير جداً في صناعة الحياة خيراً أو شراً، وفي تشكيل العقول سلبا وإيجابا بناء وهدما، فكل ما يحيط بالإنسان من رموز عائلية ومن نماذج  اجتماعية وقيادات وطنية ومن  مشاهير الواقع العالمي  ونجوم الإعلام و الأفلام، كل ذلك يبني عقول الناشئة وينحت سلوكهم، فأسهل طريق للتربية -وفي الوقت نفسه أشدها خطراً- هو القدوة والرمز؛ إذ يجذب الآخرين إليه بالمحاكاة والتأسي والتقليد!

قيمة الرمز أنه تتجسد فيه  القيم والمُثُل العليا، التي لولاه لبقيت مجرد كلمات لا روح فيها، وحقائق لا تأثير لها، فالقدوة  تحولها عبر سيرتها وحركتها الحياتية إلى نموذج عملي في حياة الناس، تملك قوة التأثير وروح الإلهام لنفوس ذوي الهمم العالية، والراغبين في صناعة الأمجاد، ولأهمية الرمز المعنوية نرى  الناس يحرصون على تسمية أبنائهم بأسماء الأنبياء والأخيار والقادة والمصلحين والصالحين ، والعلماء.

خطط دوائر الشرّ العالمي  

ولهذا نرى دوائر الشرّ العالمي تعمل في مشروعين متلازمين متكاملين، فهي تعمل من جهة  على الترويج للنماذج الهابطة وتسويق الرموز الفاسدة  ذكرانا وإناثا  من أجل هدم القيم وتمييع الشباب ونشر الرذيلة  وسيادة المنكر، وتحرص بكل مكر وخبث على تفريغ المجتمعات الإسلامية خاصة، من رموز الهمة والرجولة ونماذج  المقاومة والعطاء  والعلم، اعتقالا وسجنا وإعداما، ترويعا وتخويفا وتشهيرا وتجريحا، ليظل الناس بلا كبير يقتدى به ولا قدوة يتأسى بها ولا دليل خير يرشد  ويقود.  

تحطيم القُدوات وتشويه الرموز ..إعلاميا 

وفي هذا الزمن الرديء  برزت ظاهرة التطاول والتحامل على رموز الأمة وخدش صورتها في أذهان العامة، والطعن في النماذج التاريخية المُلْهِمة، بدعوى إعادة كتابة التاريخ والغربلة والنقد، وباطنها تحطيم قداسة الصورة وتغيير النظرة إلى رموز الأمة وقُدواتها، حتى تخلو الساحة للنماذج الفاسدة والرموز النكدة.  
وكان "ابن سلول " رأس المنافقين في العهد النبوي من المؤسسين للظاهرة، فهو الذي  روج  لفتنة الإفك التي طالت  البيت النبوي وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت غايته تحطيم صورة السيدة عائشة أم المؤمنين وخدش مكانة الصديق  أبيها -رضي الله عنهما- والغاية الكبرى من كيده هي تحطيم صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- كرمز للأمة وأسوة وقدوة للمسلمين، فكانت خطته الإعلامية كلمة خبيثة حرص على دقة بنائها وتركيبها  لمزيد من التأثير حيث علق قائلا عندما رأى صفوان بن المعطل آخذا بزمام ناقة أمنا عائشة: "امرأة نبيكم تبيت مع رجل منكم فلا نجت منه ولا نجا منها".

حذق الغرب  لصناعة رموزه  وتسويقها

سلطان العلماء "العز بن عبد السلام" -رحمه الله- رمز العالم الرباني  ومثال المواطن الصالح  وأنموذج الفقيه المقاوم  والمعارض الصالح، قال في حقه  حكام الغرب في زمانه وهم يرونه مسجونا معتقلا مجردا من وظائفه ومحاصرا في معاشه وذليلا في مقامه  من طرف حاكمه المسلم، قالوا موبخين هذا الحاكم الذي تفاخر بحبسه وترويعه من أجلهم لأنه عارضه في إبرام الصلح معهم: "لو كان هذا قسّيسنا، لغسلنا رجليه وشربنا مرقها ".
ومن الأمانة القول إنّ الغرب يحسن  صنع الرمز ونحت القدوة، ويسعى جاهدا إلى  تسويقه للناس على هيئة شخصية نادرة متميزة مع حملة إعلامية مدروسة، وحديث واسع عن بطولاتها ومواقفها وإنجازاتها، ويضفي عليها من التفخيم والنفخ، ويحيك حولها الأساطير حتى يقدمها للناس في أبهى صورة وأضخم هالة؛ ليلتف حولها الناس، وهمه من ذلك  هو الاستفادة  القصوى من الشخصية التي تصبح رمزا للعالم والتي يمكنها أن تُسمع صوتها ويُستمع لها وتفرض رأيها كما قال "أوباما"مفتخرا بالرمز الإفريقي "منديلا":
"مانديلا رمز التحرر والحرية، إنه من لحم ودم وليس تمثالا رخاميا -كتمثال الحرية– تعلمنا منه الكثير وسنذكره على الدوام، وسيبقى أيقونة في ذاكرتنا".
بينما نحن نتعامل مع كنوزنا من الرموز العلمية والوطنية والدعوية الشاهد منها والغائب، بركلها خارج دائرة الاهتمام والتأثير، وتشويهها وتحطيمها والبخس من قيمتها، ووأد الرائع  منها واعتقال المتحرك منها وإعدام الصالح منها.
فمتى ندرك خطورة مساعدتنا اللاواعية لأعدائنا في مشروعهم الحقود الرامي إلى  "تفريغ الأمة من رموز الهمّة"؟؟ فنسارع إلى تسريح المعتقلين منه ورد الاعتبار إليهم والاعتذار منهم ؟؟.