نظرا لأهمية الفكر السليم والتأمل العميق، وفعاليته في الإجابة عن كثير من التساؤلات، وحل أعقد المشكلات، والتوصل إلى أبدع الأفكار والمبتكرات؛ ولكون الفكرة هي البذرة الأولى لكل المشاريع والإنجازات في هذه الحياة، لهذا كله حثَّ الإسلام على التفكّر وإعمال العقل في أكثر من موضع في القرآن الكريم، بل ورتّبَ على ذلك الأجر بجعله مسلكا تعبديا يسلكه المسلم. 

 

حراء المحضن الأول.. بالتأمل والتفكر تبنى الحضارة 

     

لقد كان غار حراء المحضن الأول للتأمل والتفكر، وكانت الإنطلاقة من هناك، ليعمر به الرسول صلى الله عليه فضاءات الكون، وينتج بذلك الفكر الإسلامي الأصيل أعظم حضارة عرفتها البشرية، إنّها حضارة اقرأ، تلك الحضارة التي انبنت أساساً على إعمال العقل وقراءة الكون وفك أسراره، "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، فالقراءة هنا ليست فك حروف الأبجدية فحسب، بل فك أسرار الكون، وإدراك حقائقه، والغوص في كُنهِه، عن طريق إعمال العقل والتفكّر فيه، للوصول إلى أفكار وأسرار جديدة.

 

حتى نفهم أكثر موضوع الفكر يتحتّم علينا تحرير هذا المصطلح؛ وذلك بتعريفه، فهناك تعريفات شتّى للفكر وكلها تدور حول إعمال العقل وتوظيفه للوصول إلى رأي أو فكرة جديدة، لذلك حرصا منّا على إفادة القارئ واختصارا لوقته وجهده، رأينا أن نورد تعريفاً وافيا ضافيا يلمّ بالفكر لفظا ومعنى، وهو تعريف سهل ممتنع للدكتور طارق السويدان، حيث عرّف الفكر بأنه: "إعمال العقل في أمر ما؛ للوصول إلى رأي جديد". فجعل الوصول إلى فكرة أو رأي جديد، هو معيار الإنجاز لإعمال العقل، وهو معيار مهم، فمهما كان عندك من حفظ وعلم ولم تأتِ بجديد، فأنت مقلّد ولست بمفكر! 

 

الفكر الإسلامي.. بين الماضي، الحاضر والمستقبل.

 

من خلال الفكر الإسلامي الأصيل نستطيع قراءة وتحليل الماضي، ودراسة الحاضر، واستشراف المستقبل، وهو يشمل مجالات الحياة كلها بشقيها الديني والدنيوي؛ إذ أنّ الأمة بحاجة ماسّة لإعمال العقل وتصويب وتجديد كثير من المفاهيم للنهوض بها. 

كما يرى الدكتور السويدان أن الشخص يصنّف بحسب الموضوع الذي أعمل عقله فيه للوصول إلى رأي أو فكرة جديدة، فيسمّى مفكرا سياسياً إذا أعمل عقله في مسألة سياسية وأتى بأفكار وراء جديدة، وكذلك في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية..

التعريف السابق هو تعريف للفكر بشكل عام، أيًّا كان نوع ذلك الفكر، وما دام كذلك، يأتي سؤال: ما هو مفهوم الفكر الإسلامي تحديداً؟ 


 

لقد تميّز الفكر الإسلامي الأصيل عن غيره بجملة من الخصائص، لذلك لا مسلك للنهضة بالأمة إلا عن طريقه، فأمتنا لن تنهض بالأفكار المستوردة الدخيلة، ولا عن طريق الثقافات الغربية المنحرفة.


يشترك مع الفكر في إعمال العقل للوصول إلى رأي جديد، لكن وفق المرجعية الإسلامية بفهم سليم للنصوص وتنزيلها على الواقع بشكل سليم أيضاً بعيدا عن الإفراط والتفريط. 

 

هناك عدة تعريفات للفكر الإسلامي، لكنها تدور في مجملها حول ما أنتجه العقل المسلم، لهذا سنورد منها تعريف الدكتور عبد الكريم بكار لشموله، فقد عرّفه بأنه "عبارة عن مجموعة الرؤى والتحديات والطروحات والاجتهادات التي توصّل إليها العقل المسلم من خلال استيعاب الواقع الموضوعي، والارتقاء به، وحلِّ مشكلاته". فالدكتور بكار هنا، يتحدّث عن نتاج إعمال العقل المسلم وإنجازاته، وتفاعله مع واقعه بشكل إيجابي وعملي. 

لكن يجب أن يكون كل ذلك المنجز كما أسلفنا في إطار المبادئ الإسلامية عقيدة وشريعة وسلوكاً. 

ولهذا فالفكر الإسلامي فكر متميّز، كالشّامة بين مختلف أنواع الفكر، وذلك من خلال مجموعة من الخصائص ميّزته عن غيره، فما هي هذه الخصائص؟ وهل يمكن أن ننهض بأفكار دخيلة على أمّتنا؟ 

 

الفكر الإسلامي.. مسلك النهوض بالأمّة. 

 

لقد تميّز الفكر الإسلامي الأصيل عن غيره بجملة من الخصائص، لذلك لا مسلك للنهضة بالأمة إلا عن طريقه، فأمتنا لن تنهض بالأفكار المستوردة الدخيلة، ولا عن طريق الثقافات الغربية المنحرفة.

 

هناك خمس خصائص رئيسة للفكر الإسلامي، أوردها الدكتور طارق السويدان في كتاب "الحضارة الإسلاميّة القادمة" وقد ذكرها د. يوسف القرضاوي، والمفكر الكبير مالك بن نبي وغيرهم منها:

1 - أنه فكر عالمي، حضاري إنساني، عادل ومتوازن، يصلح للبشرية جمعاء، وله هدف واضح يسعى لتحقيقه. 

2- فكر عملي واقعي طُبِّق، وقابل للتطبيق من جديد، فهو ليس أفكارًا ونظريات مجردة. 

3- فكر عقلاني، يتواءَم مع العقل السليم، ولا يصادم العقل والمنطق، بعكس الاجتهادات، والأديان المحرّفة كالنصرانية التي تصادمت مع العقل والعلم، فنشأ صراع بسبب ذلك بين العلم والكنيسة في أوروبا إبّان عصور الظلام. 

4- فكر متجدد، كالنهر الجاري، بتعبير الدكتور السويدان، فهو متجاوب مع قضايا العصر، ومستجدات الحياة، فلا تجد مسألة جديدة، أو قضية أو موقف إلا وله حضور فيها برأي أو حكم أو موقف. 

5 - فكر مرن وليس جامدا، ووسطي معتدل وليس مغاليا، وله حدود وضوابط تحكمه؛ حتى لا نقع في الإفراط أو التفريط.

وبناءً على الالتزام بهذه الخصائص سيبنى لدينا فكر سليم، لكن ما علاقة سلامة الفكر بالنهضة؟ 

 

مُجددون.. سلامة الفكر أولًا.

 

 

للحفاظ على سلامة الفكر وتجديده وإزالة ما أصابه من غبش، ينشأ سؤال ما إذا وجدت اجتهادات فكرية لبعض المفكرين الإسلاميين تهدف إلى تجديد الفكر الإسلامي وتصفيته؟

 

بالعودة إلى عصرنا وأمّتنا اليوم، ومقارنتها بما كانت عليه حضارتنا في عصور ازدهارها، وبمقارنتها بالتقدّم المذهل لأمم العالم اليوم، وما أصابنا من تخلّف وركود، نجد أن جذر المشكلة وأحد أسبابها يكمن في أن أمّتنا تعاني من أزمة كبيرة على مستوى الفكر، ففي الوقت الذي كان يجدُر بنا الدخول في معترك الأفكار الوجودي، نجد أننا وقعنا بقصد أو بغير قصد في شرك تعطيلها ووضعها في سياقات غير صحيحة، أنتجت لنا عقولا مستسلمة، غير واثقة بفكرها وتراثها، وخلقت أفكاراً دخيلة.

وبالرغم من وجود جملة من الخصائص والمميزات التي تفوّق بها الفكر الإسلامي على غيره، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يصاب بكدر وغبش عكّر صفو ذلك النهر المتجدد، وهو ما نقف عليه الآن، قام ثلّة من المفكرين والمصلحين بجهود جبارة واجتهادات كبيرة لتجديد الفكر الإسلامي الأصيل من تلك الاجتهادات والجهود:
اجتهادات المقريزي الاقتصادية مثلاً، مالك بن نبي ووضعه لشروط النهضة، محمد رشيد رضا، محمد عبده، حسن البنا، محمد الغزالي، محمد إقبال، علي عزت بيغوفيتش، أبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي وغيرهم في الفكر والتربية..

 

من المعاصرين اجتهادات الإمام يوسف القرضاوي، حسن الترابي، حسن حنفي، الأستاذ راشد الغنوشي، الدكتور طارق السويدان، الدكتور عبد الكريم بكار، الدكتور جاسم السلطان، الدكتور محمد الطلابي، والدكتور محمد المختار الشنقيطي، وغيرهم، وذلك من خلال إسهاماتهم الفكرية في التأليف، البرامج التلفزيونية، والمؤتمرات، والندوات، ومختلف مشاريعهم الفكرية التي تنهض بالأمة.