التغيير سّنة من سننن الله في الكون، وكل أمة مرت في التاريخ كان لا بد لها أن تمر بمراحل محددة منذ نشأتها حتى قيامها وإرساء قواعدها وقيام نهضتها وتعدد إنجازاتها على مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها، فتبني لنفسها إرثًا بحسب قوة وعمق تلك الإنجازات، إلى أن تصل إلى مرحلة الضعف وأحيانا الانهيار.

 رأينا في تاريخ الأمم السابقة كيف قامت وكانت لها حضارات عظيمة لا زالت تدرَس إلى الآن وقد استقت الحضارات التالية لها من علومها وتقدَمها، ومع هذا فقد اندثرت تلك الأمم وغابت حضارتها عبر العصور، إلا أن الأمة الإسلامية هي أمة متجددة، تمرَ بفترات الضعف لكنها تبقى حية ولا تندثر وتلك مشيئة الله لها، وبما أنها تمرَ الآن بأشد فترات ضعفها، فهي بحاجة إلى باعث نفسي يجعل أفرادها ينهضون معا لاستعادة قوتها ومركزيتها في قيادة البشرية من جديد.

كيف تجدّ الأمّة الباعث النفسي لتحقيق التغيير؟

كي تنهض الأمة من بعد سقطتها، وكي تقوى من بعد ضعفها، لا بد أن تكون على علم بقوانين النهضة لتسير وفق خطوات صحيحة نحو التقدم، وإلا خبت مرة أخرى وتعثرت في طريقها نحو النهوض. 

قد جعل الدكتور جاسم سلطان في كتابه "قوانين النهضة.. القواعد الإستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري"أول تلك القوانين وجود فكرة مركزية تمثل قيم المجتمع والتي عرفها الدكتور جاسم سلطان: "مجموعة المبادئ العامة التي تعتمدها أي دعوة أو حركة أو تجمع، أو المبدأ الذي تعتنقه الدولة وتنظم حياتها تبعاً لتعليماته" [1] ثم أفكار محفزة تمثل قضية محورية تمس حياة الأفراد وتؤثر على مشاعرهم وتخاطب البواعث الداخلية النفسية فيهم فتعمل على استقطابهم حول الفكرة المركزية كالدين أو القومية أو حقوق الأفراد في المجتمع أو نصرة الفقراء، تُعين هذه الفكرة المحفزة على إيجاد البعث النفسي الذي يدفع الأفراد الى الالتفاف حول الفكرة المركزية لتحقيق التغيير المنشود، فالأمة المنكسرة المغلوبة السلبية لا يمكنها أن تحرز تقدمًا ما لم تحقق هذا الحافز. 

الفكرة المركزيّة.. من الإيمان إلى العمل. 

حدد د. جاسم سلطان ثلاثة شروط لتحقيق الفكرة المركزية على الواقع وإحداث التغيير:

  1. الإيمان بالفكرة أو مشروع التغيير، ويقصد به القناعة القلبية والعقلية واليقين في الفكرة وصوابها دون تشكيك، ما يُعزّز الاستقامة في سبيلها ويُجنب الانحراف عنها.
  2. العزة بالمبدأ، فالعزة بالإسلام ومبادئه ومفاهيمه وتطبيقها والالتزام، كلّ ذلك يُشكل باعثا نفسيا إيجابيا وصلبا في نفوس الأمّة بما يجعلها ثابتة على مبادئها وقادرة على النجاح في تحقيق التغيير والنهضة بين الأمم، فنجد القرآن الكريم يعمل على تثبيت هذه العزة فيخاطب المؤمنين بقوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه".[2] 
  3. الأمل والذي يبعث الحماس في نفوس الناس للعمل والتقدم مع الثقة بالنجاح في تحقيق التغيير، ونجد في آيات القرآن الكريم ما يحقق هذا البعث بالوعود الربانية لغلبة هذا الدين، يقول الله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [3]

ما تأثير البعث النفسي على الأفراد؟ 

التاريخ عبر صفحاته المتقلبة يشهد بأثر وتأثير الباعث النفسي مع الأمم المختلفة، سنتناول بعضا منها على سبيل المثال استخدام موسى عليه السلام إرادة التحرر والتخلص من براثن العبودية كمحفز لأتباعه للخروج معه من مصر، فاتبعوه سعيًا للتحرر والإقامة في أرض يجدون فيها أمانهم وحريتهم. 

ولو نتدارس انتشار بعض الايديولوجيّات نجدّ أن قيام الشيوعية على فكرة رعاية مصالح العمَال وحمايتهم من ظلم الإقطاعيين واستبدادهم، قد أثرت على مشاعر العمال وقد كانوا الفئة الأكبر في المجتمع الذي كانت تسيطر عليه الأقلية البرجوازية، فاستنهضت الشعب نحو تحقيق أهدافها.

كذلك قيام الفكرة الليبرالية على مبدأ الحرية للأفراد، بعد معاناتهم من تسلط الدولة على حقوقهم فأعطت الحرية الكاملة للأفراد مما أثر على مشاعرهم وأدى إلى استقطابهم حول الفكرة.

وقيام الاحتلال الصهيوني على فكرة أرض الميعاد (رغم علمانية أصحاب الفكرة) وذلك للتأثير على مشاعر اليهود في سبيل استقطابهم لإقامة دولة "إسرائيلية" تم اختيار اسمها من "إسرائيل" وهو النبي يعقوب للتأثير على عواطفهم وإيمانهم بالدولة.

كما يحرص الغرب على إعادة قراءة التاريخ وتشويهه أمام أفراده بحيث يقوم بتقزيم دور الحضارات المشرقية وتضخيم التاريخ الأوروبي والتغطية على عصور التخلف التي سيطرت على الغرب، فقام بتصوير نفسه بأنه منبع الحضارات على مر العصور، إلى جانب ذلك استعرض الغرب ما يعتبره إنجازات ونجاحات في طرد المسلمين من الأندلس واكتشاف القارة الأمريكية ورأس الرجاء الصالح، إضافة إلى إهماله ترجمة علوم المسلمين والاكتفاء بالحديث عن التقدم العلمي والاختراعات التي تلت ذلك.

نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في بعث نفوس المؤمنين، فأصبحت الأمة فيما بعد تحكم ثلاثة أرباع الأرض بتحقيقها الإيمان والعزة بالإسلام والأمل في تأييد الله ونصره وتحقيق وعده بالاستخلاف في الأرض.

هكذا استنهض الرسول صلى الله عليه وسلم همم المؤمنين! 

بدايةً، نجد القرآن الكريم يستنهض الأمة في كثير من المواضع ويحثها على العمل، فكما أشرنا سابقا عزز القرآن ارتباط المسلمين بدينهم وشعورهم بالعزة في قوله تعالى: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه"، ويخاطب المؤمنين وهم في شدَة الكرب فيبعث فيهم الطمأنينة ويدب فيهم الحماس للاستمرار في جهادهم حتى تحقيق النصر الموعود، يقول الله تعالى :"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"[4]. وفي سورة الأنفال يستحث النبي المؤمنين معه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ"[5] 

وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بالبعث النفسي في المسلمين من خلال: 

  1. إعادة عرض التاريخ من خلال عرض مسار الأنبياء السابقين وانتصاراتهم والربط بينها وبين رسالته المجيدة، وبأن المؤمنين سينتصرون ويغلبون كما انتصر أتباع الرسل.
  2. سحب الشرعية من أهل الكتاب بعد انحرافهم عن كتبهم ورسالات أنبيائهم ومن المشركين لعدم أهليتهم لقيادة الأمة، بسبب انحراف عقائدهم وعدم اتباعهم لطريق الله القويم الذي يقود إلى البناء الصحيح للأمة وسؤددها.
  3. إعادة قراءة الأحداث السابقة كقصة أصحاب الأخدود التي تبدو في ظاهرها هزيمة للمؤمنين، في حين أنها نصر لهم بتحقيق الثبات على إيمانهم وعدم الاستسلام والانتصار بنيل الشهادة، وبالتالي التنعم في الجنان.
  4. عمل تراكم في الإنجازات العملية بالانتقال بالدعوة من مرحلة إلى أخرى، فمن السرية إلى العملية، ثم تجميع الحلفاء من حيث مخاطبة القبائل الأخرى والهجرة إلى الحبشة وكسب دعم ملكها النجاشي، وبعدها الهجرة إلى يثرب حتى وصل إلى إقامة الدولة في المدينة المنورة ثم الوصول إلى مخاطبة الدول العظمى في ذلك الوقت الفرس والروم.

وهكذا نجح الرسول صلى الله عليه وسلم في البعث النفسي للأمة، والتي أصبحت فيما بعد تحكم ثلاثة أرباع الأرض بتحقيقها الإيمان والعزة بالإسلام والأمل في تأييد الله ونصره وتحقيق وعده بالاستخلاف في الأرض.

 

  •