هل سمعت عن فتاة تغار من فتاة أخرى تلبس نفس فستانها؟ أو شاب مهووس بتزيين وطلاء سيارته كي تصبح فريدة ومميزة ومختلفة عن آلاف السيارات من نفس الطراز؟ وشركات تعمل الآن لتطوير طابعات ثلاثية الأبعاد تحتوي على برمجيات متطورة تمكنك من تصميم سيارتك أو ملابسك بنفسك؟
ما هذه إلا واحدة من خمسة ملامح أساسية للمجتمع في المستقبل، مجتمع 5.0 (الشكل الخامس للمجتمعات البشرية) المجتمع الذي ستصنعه الثورة الصناعية الرابعة موشكة الحدوث. 
شهد العالم منذ القدم أشكالاً مختلفة من الحياة بدءا من الشكل البدائي القائم على الصيد وقطف الثمار من الغابات، إلى أن أسهمت أحداث مثل اكتشاف النار وتشكيل الحديد وغيرها من الصناعات الحرفية والتي كانت بمثابة الثورة الصناعية الأولى (الثورة الزراعية)، أدت إلى ظهور المجتمعات الزراعية المستقرة في القرى والمدن الصغيرة التي شكلت فيما بعد مجتمعات سياسية، وهذا هو الشكل الثاني للمجتمعات البشرية الذي استمر إلى أن حدثت الثورة الصناعية الثانية بفضل اكتشاف الكهرباء، واتسمت هذه المرحلة بالاكتشافات العلمية والاختراعات وظهور المحركات البخارية والكهربائية، وهذه أدت إلى التحول من الصناعة الحرفية التقليدية إلى المصانع الكبيرة ذات خطوط الإنتاج، والتي تعتمد على عدد كبير من العمال ما أدى إلى تحول المجتمعات من زراعية إلى مجتمعات صناعية، وبالتالي ظهور المدن الكبيرة والمزدحمة والدول القومية الإمبريالية وظهور طبقات جديدة أبرزها طبقة العمال والطبقة البرجوازية وبروز الأيديولوجيات الاقتصادية في منافسة الأديان...
من التأثيرات في شتى المجالات ومنذ الثورة الصناعية الثانية والتقدم العلمي مستمر لدرجة أن أسلوب الحياة يتغير كل عقد أو بضعة عقود، ولكن السمات الأساسية التي ذكرناها بقيت ثابتة إلى أن حدثت الثورة الرقمية (الثورة الصناعية الثالثة) نتيجة لاختراع الحاسوب الرقمي، والذي من أبرز سماتها ظهور البرمجيات التي كان لها أثر حاسم في تطور معظم العلوم، وكذلك الإنترنت الذي شكل فضاء عابرا للحدود وسمح بتبادل كم كبير من المعلومات والبيانات حول العالم، وهو ما شكل عاملاً رئيسيا للعولمة وتهديدا جديا للدولة القومية، فما الذي ستحدثه الثورة الصناعية الرابعة؟ 

إن تغييرا هائلا وجذريا وشاملا بهذا الحجم سيكون باهظاً، آلاف الوظائف على المحك وقد يحل محلها الروبوت والذكاء الاصطناعي، حيث باتت الروبوتات قادرة -بفضل التطور الكبير في مجال الذكاء الاصطناعي- على القيام بعديد الوظائف والمهام بدءا بالمهام الروتينية التي يقوم بها العمال والفنيون وصولاً إلى وظائف معقدة مثل وظيفة المهندس والطبيب والمعلم…

حيث يتنبأ الخبراء بأن هذه الروبوتات ستكون قادرة في مرحلة ما على اتخاذ قرارات مصيرية كالتي يتخذها الطبيب مثلا بل وأكثر من ذلك، ستكون هناك مصانع تدار وتعمل بالكامل بواسطة الروبوتات وبرمجيات ذكية قادرة على التعامل مع المشاكل المختلفة، وأن عدد الموظفين سيكون محصوراً بخبراء في الذكاء الاصطناعي والروبوتات، كذلك ستحل الطابعات الصناعية بدل المصانع التي تعتمد على خطوط إنتاج كبيرة.
إن تقنيات فائقة التطور ستكون بحوزة الدول والشركات الأكثر تقدما، وقد بدأت المنافسة بالفعل بين كل من الصين وأمريكا للسيطرة على هذا السوق الاقتصادي الواسع، كما أبدى الطرفان استعدادهما لدخول حرب تجارية شديدة، وربما حرب باردة جديدة، وكانت خطوات مثل رفع الضرائب على واردات الصين أو عقوبات على شركة "هواوي" ذات دلالة، حيث لم تقم أمريكا باتخاذ مثل هذه الإجراءات حتى عندما كانت علاقتها بالصين في أسوأ حالاتها.

ذلك بعد أن وجدت أمريكا (المتقدمة) نفسها متأخرة، حيث بدأت الصين مبكراً في استثمار مئات المليارات ضمن رؤية (صنع في الصين 2025)، والتي تعتمد على تقنيات الجيل الخامس وذلك استعداداً لخوض سباق طويل وشرس، وتعتبر تقنيات الجيل الخامس مضمار السباق الأول، حيث أنها تعتبر البنية التحتية للثورة الصناعية الرابعة ومجتمع 5.0.
والسؤال هو لماذا الجيل الخامس تحديداً؟ مرت تقنيات الاتصالات مرورا بالهاتف الذي يعتبر الجيل الأول ثم بإضافة الرسائل النصية وهي الجيل الثاني ثم شبكة الإنترنت وهي تعبير عن الجيل الثالث ثم الجيل الرابع وهي عبارة شبكات إنترنت أكثر سرعة وأوسع نطاقا من الجيل الثالث، ثم جاءت شبكة الجيل الخامس بسرعات أعلى بكثير من الجيل الرابع لكن بنطاق أقل تقنيا، عمليا كلها شكلت ثورة في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات، لكن انتشار شبكة بسرعة الجيل الخامس هو الحد الأدنى من السرعة المطلوبة لتلبية احتياجات مجتمع 5.0 والثورة الصناعية الرابعة. 
بالرغم من أن أمريكا هي أول من توصل لتقنيات الجيل الخامس واستخدمتها في الأقمار الصناعية والصناعات العسكرية، وهناك الآن ما يقارب الثلاثين مدينة أمريكية مزودة بشبكات الجيل الخامس، لكن الموضوع لا يتعلق بمن يمتلك أحدث تقنية إنما من الأكثر استعداداً للتغيرات الجذرية؟
وقد طرحت ست شركات هواتف تدعم الجيل الخامس وكانت شركة "هواوي" الصينية هي أول شركة قامت بذلك، إلى جانب "أوبو" و"زد تي إي" و "ون بلس" و "وفيفو" و "شاومي"، وقد استحوذت هذه الشركات على أسواق الـ 5G لفترة قبل أن تعود الشركات الأربع العالمية، وهي "نوكيا الفنلندية" و"سوني اليابانية" و "سامسونج الكورية" و"موتورولا الأمريكية"، رغم أن الشركات الصينية تستورد شرائح معالجات "سناب دراجون" التي تدعم الجيل الخامس من شركة "كوالكوم الأمريكية"، بالإضافة  إلى عديد القطع الإلكترونية الأخرى.

الموضوع لا يتعلق فقط بسوق الهواتف الذكية وإنما بتزويد البنية التحتية للمدن والدول بمعدات وخدمات الـ 5G، وقد استثمرت "هواوي" بمفردها ما يقارب مليار دولار ونصف في هذا السوق، وأصبحت جاهزة تقريبا من حيث التمويل والتقنية والإنتاج على تلبية احتياجات السوق، حيث تسيطر بمفردها على 30٪ من هذا السوق، وقد سمحت الحكومة البريطانية في يناير للشركات الصينية للمساهمة بـ 35٪ في تزويد بريطانيا بشبكة 5G وسارت على دربها دول الاتحاد الأوروبي متحدية بذلك الضغوط والتحذيرات الأمريكية، مما يجعل أمريكا أكثر عزلة.

وقد اكتسبت الشركات الصينية الميزة التنافسية لسببين؛ أولهما أن استبعاد الشركات الصينية سيؤدي إلى تأخر هذه الدول عامين أو ثلاثة قبل التزود بشبكات الـ 5G، والثاني أن الشركات الصينية تقدم أسعارا رخيصة مغرية مقارنة بالشركات الأخرى، مما دفع ترامب لحشد تحالف مكون من 30 شركة حول العالم في مايو 2020 للسباق مع الزمن.

 بالإضافة إلى اتخاذ عقوبات على شركة  "هواوي" تضمنت عقوبات على شخصيات وكيانات صينية ورفع الرسوم الجمركية ومنع تصدير تكنولوجيا تصميم أشباه الموصلات أو معدات إنتاجها إلى الصين، وقرارا بمنع تعامل الشركات الأمريكية مع شركة "هواوي" إلا بترخيص من وزارة التجارة الأمريكية، وهذا يعني أن الكثير من الصادرات الأمريكية للشركة مثل القطع الإلكترونية عالية التقنية التي تنتجها شركة "كوالكوم" وغيرها وكذلك برنامج التشغيل "أندرويد" التي توفره شركة "قوقل" بالإضافة إلى كثير الخدمات والبرمجيات كلها يجب أن تحظى بموافقة وزارة التجارة الأمريكية في كل مرة.
 بالإضافة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على كندا من أجل القبض على ابنة مؤسس شركة "هواوي" بتهم التحاليل المصرفي والتهرب الضريبي، كما وأثمرت الضغوط الأمريكية على أوروبا أخيراً لوقف التعامل مع شركة "هواوي" الصينية حيث قامت الحكومة البريطانية باتخاذ قرار بحظر منتجات الجيل الخامس من "هواوي"، بالإضافة إلى تفكيك كل معدات "هواوي" في البلاد بحلول 2027، ولم تقف الصين متفرجة ولكن هددت بريطانيا بإجراءات انتقامية، كما أن الصين عملت على تقليل الاعتماد على أمريكا من ناحية عبر إطلاق برنامج تشغيل "هرموني أواس" من قبل "هواوي" والذي بإمكانه أن يكون بديلا كاملا عن برنامج أندرويد في حال امتنعت "جوجل" عن تصديره، بالإضافة إلى البحث عن شركات بديلة للحصول على الرقائق الإلكترونية وتكنولوجيا أشباه المواصلات، ومن ناحية أخرى قامت بالرد بالمثل على العقوبات الأمريكية وفرضت قانون الأمن القومي على إقليم هونغ كونغ الذي كانت بمثابة خط أحمر بالنسبة لكل من بريطانيا وأمريكا، والواقع هو أنه حتى الشركات والمزارع الأمريكية تتضرر جراء العقوبات الأمريكية كون الصين أكبر الأسواق للمنتجات الأمريكية. 

ليس هذا ميدان المنافسة الوحيد ولكنه الصراع المحتدم الآن، وقد بدأت المنافسة في مجالات عدة وستكون ملامح المستقبل مثل برمجيات الذكاء الاصطناعي حيث تصبح الآلة تفهم وتعلم الآلة وتتمكن الآلة من التعلم والنمو والتطور من دون مبرمجين، وتعد جوجل وفيسبوك وعديد الشركات الأخرى رائدة في هذه المجالات، ولا معلومات عن مدى منافسة الشركات الصينية في هذا المجال، وكذلك إنترنت الأشياء، حيث كل شيء يفكر ومتصل بالإنترنت، حيث نسمع عن أمور مثل ساعة ذكية وقلم ذكي وطاولة ذكية إلخ، كلها مرتبطة بالإنترنت.
إن أبرز الصناعات في هذا المجال هي السيارات الكهربائية ذاتية القيادة، حيث استحوذت على اهتمام أغلب شركات صناعة السيارات قد استثمرت المليارات لتضمن لنفسها حصة من السوق في المستقبل، وإلا فمصيرها الإفلاس.