إن العصبية كانت ولا زالت سببا في الصراعات بين أبناء الملة الواحدة، والتاريخ يعيد نفسه ليشهد على ذلك، وإن دراسة عابرة لوقائع السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي توقفنا على نماذج كثيرة لظاهرة العصبية التي كانت ستزيد من حدة التشتت والفرقة لولا فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي زمن النبوة خرج بعض السفهاء ممن زعموا مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر الجلل(النبوة) منهم مسيلمة الكذاب الذي أرسل له رسالة فحواها:

 "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: إن الله أشركني معك في الأمر ولكن قريشا قوم لا يعدلون" وفي رواية " لنا نصف الأرض ولكم نصف الأرض ولكن قريشا قوم لا يعدلون".

 فرد عليه صلى الله عليه وسلم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده؛ وكان الناس يعلمون أن مسيلمة كاذب، ولكن عصبيتهم جعلتهم يهتفون بأن" كذاب ربيعة خير لنا من صادق مضر"؛ وربيعة ومضر قبيلتان عربيتان، ومسيلمة نفسه كان موقنا أنه كذاب وأن قومه اتبعوه عصبية وحمية، لذلك ازداد يقينا من عدم خذلان أهله له ولو كلفهم ذلك أموالهم وأنفسهم.

وها هي السيرة النبوية تحكي لنا نموذجا آخر من نماذج العصبية بين بعض المهاجرين والأنصار، والحديث رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة".

إن الاستعانة بالتاريخ تفيدنا في فهم الحاضر وتفسير وقائعه واستشراف المستقبل عن طريق مقارنته بماضيه.

ومن أخطر صور العصبية التي تشهدها الأمة الإسلامية اليوم عند المهتمين بالحقل الديني والدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد الشرعية طلبة وأساتذة وإطارات، قضية المشرق والمغرب بين التأثر والتأثير.

ليس الغرض من هذا المقال الانتصار لعلماء المشرق أو المغرب، وإنما تقديم تفسير علمي لظاهرة العصبية بين طلبة المعاهد الشرعية في تلقيهم للعلوم واقتدائهم بالعُلماء والأخذ عنهم، عصبية جعلت جل من يقرأ مؤلفات المشارقة ويستمع لمحاضراتهم متهما بالتطرف والجمود وقد يتحول المتهم إلى متهم (بكسر الهاء) لغيره من المهتمين بالتراث المغاربي بالابتداع والزيغ عن الطريق القويم، علما أن سلفنا لم يكونوا على هذا الحال رغم اختلاف توجهاتهم الفكرية والعقدية في قضايا ومسائل جزئية، فلا تخلوا كتبهم من الثناء وتبادل أشعار المدح والاعتراف بالفضل بعضهم لبعض. ولنا في علاقة القاضي إسماعيل العراقي بمحمد بن سحنون، وعلاقة ابن أبي زيد القيرواني بأبي بكر الأبهري، وعبد الله بن مجاهد الطائي نماذج لعُلماء ربانيين.

وإذا رجعنا إلى تاريخ المذهب المالكي الذي يعتبر ثابتا من ثوابت المغاربة جميعا، ويوحد كلمتهم فقهيا، سنجد حسن العلاقة التي كانت تربط بين فقهاء مدارسه كلها وكيف ساهمت هذه العلاقة في توثيق الصلة بين هذه المدارس المشرقية منها والمغربية، ودور الإجازات والمراسلات والرحلات العلمية التي تدخل في صلب التكوين العلمي للطلبة والشيوخ في عكس نوعا من التثاقف والتأثير البين من خلال تكامل الإنتاج العلمي المغربي المشرقي في التصنيف الفقهي الذي فرضته طبيعة الانتماء الموحد للمذهب، فقد انبرى المغاربة لشرح المصنفات المشرقية والتعليق ووضع الحواشي عليها، الأمر نفسه الذي فعله المشارقة مع المصنفات المغربية. 

ولكن فساد المنطلق يقتضي فساد المصير، وفساد المقدمات يقتضي فساد النتائج في غياب التأصيل العلمي المعياري لمصطلحات التطرف والابتداع والانفتاح.

إن ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو ما عشته ولا أزال أعيشه في الجامعة المغربية، داخل وسط طلابي يدرس علوم الشريعة باعتبارها أشرف العلوم التي من المفترض أن تربي في الباحث وتغرس فيه أخلاقا ومبادئ وقيما أساسها قبول الرأي المخالف، ومحاورة جميع الأطراف، لكن اتساع الهوة بين الواقع والمأمول أصبح تحديا ينبغي العمل على تجاوزه، خصوصا عندما اتسعت دائرة العصبية بين الطلبة أنفسهم، وامتدت إلى الأساتذة فيما بينهم وفي علاقاتهم مع طلابهم، علاقة وصلت إلى الكراهية والبغض فقط لمجرد الجهل بتراثنا وتاريخ علمائنا وسلفنا الذي يعلمنا قيم الحوار والتواصل ونبذ العصبية رغم الاختلاف.