كان الإنسان البدائي يسعى نهاره في تحصيل لقمة العيش والأمن لأسرته، ومع التجربة اكتشف أن إهدار الوقت في جمع كثير من الطعام الزائد عن الحاجة قد يفسد؛ فيفسد معه الجهد المبذول فاكتفى بجمع وتحصيل ما يكفيه وما يُمكّنه من البقاء، كذلك الأمر بخصوص المأوى وغيرها من الحاجيات.

ولكن حين اكتشف الانسان الأول العملة، أصبح في مقدوره تحويل ما أمكن حيازته من طعام إلى شيء لا يبلى، بمعنى آخر أصبح الجهد الذي يبذله في جمع الكثير من الطعام يمكنه تعويضه بعملة تمكنه من تحويلها الى امر آخر.

تبعا لذلك، اكتشف الانسان أنه في إمكانه توسيع ممتلكاته حتى تدر عليه مزيدًا من العملة المدخرة في سبيل تمكينه في المستقبل من الراحة أكثر، وأصبح يوزع وقته كما يشاء هو، حسبما يمتلكه من عملة، بطبيعة الحال إذا كان الجميع يفكر بنفس الطريقة الأمر سيقود بشكل حتمي إلى قانون الندرة الذي ينجم عن الرغبات الجامحة في تملك الموارد الاكثر سهولة والتي كانت سببا طبيعيا في الاحتراب و الصراعات.

تلك الصراعات الناجمة عن التجمع البشري حول الموارد السهلة استنزفت الكثير من طاقات البشر، واكتشفوا أن ما يبذلونه من جهد في حماية ممتلكاتهم أكثر بكثير مما كانوا يعملونه سابقا من أجل تحقيق أمنهم وغذائهم. 

وهو ما جعل الإنسان يفكر من جديد في طريقة اكثر نجاعة وسلمية في توزيع الثروة.

في هذا السياق نشأ مفهوم العمل في الفلسفة الغربية، ففي المنظومة العلمانية القائمة على القوام المادي لمفهوم الانسان وعلاقته بالطبيعة، يعتبر العمل هو الجهد الذي يقوم به الإنسان سواء كان عضليا أم عقليًا ويتقاضى عليه أجرا، ويختلف الأجر الذي يتقاضاه العامل حسب العديد من العوامل. 

فمنها العوائد المادية أو المعنوية التي يحققها ذلك الجهد، بصرف النظر عما إذا كان ذلك العمل خاصًا بصاحبه أم هو جهد مبذول لمستحقه.

بطبيعة الحال تعقدت الحياة بشكل كبير جدًا، ولسنا هنا بصدد تكرار ما تحدثنا عنه في مقالات سابقة عن الرأسمالية والاشتراكية وما حدث نتيجة الثورة الصناعية وكيف دخلت الدولة على الخط ولم تعد العلاقة مرتبطة بصاحب العمل والعامل فحسب، بل أصبحت هناك نقابات وضرائب وبنوك وبنى تحتية وأسواق ومضاربات وتأمينات وغيرها كثير من المصطلحات الاقتصادية التي لها إرتباط وثيق بالاقتصاد الحديث الذي نشأ في بيئة علمانية مرتكزة كلها على مفهوم العمل الذي انطلقنا منه في البداية.

ورغم التطور الكبير جدا في بيئة العمل وظروفه وأساليبه إلا أنه بقي رهين أمرين إثنين، جهد مبذول يقابله عائد مادي.

عدا ذلك لا يسمى في المنظومة العلمانية أي جهد عملا، بصرف النظر تماما عن الغاية من العمل في حد ذاته، فهو سؤال لا تعترف به العلمانية لأنها تفوح منه رائحة الميتافيزيقا التي لا تكترث العلمانية لأي اعتراضات منها.

حين تكون مهندسًا بارعًا وفي نفس الوقت عاملا في مشروع لقنبلة ذرية لدولة ما يمكن أن تلقى على ملايين البشر فتبيدهم، فهذا عمل وقد يدر أرباحًا معتبرة في المنظومة العلمانية وما وراء ذلك كله كلام لا معنى له.

حين تكون طبيبًا بارعًا أو مخبريا محترفًا ويمكنك توليد فيروسات قاتلة تبعا لإرادة سياسي مهووس بالحرب البيولوجية، فأنت أيضًا في عمل وقد يكون عملك مهما جدًا وأرباحك عليه قد تكون كبيرة، ففي نهاية المطاف أنت متناسق تماما مع منظومة العلمنة في مفهومها للعمل.. الخ ولك أن تقيس على ذلك ما لا يحصى من الأمثلة.

طبعًا لست هنا في مقام ذكر ألوف الأعمال الجيدة التي ينتجها الانسان الغربي، فتلك أمور ليست ميزة على الفلسفة الغربية ولا العلمانية، ونحن هنا نركز على ما تفردت به، فالخصائص يذكر منها ما تم التفرد به لا ما إجتمع معه غيره فيه.

ذكرت هذا حتى لا يفتح أحدهم باب الاعتراض أننا نرى بعين عوراء وليس الأمر كذلك، ولقد نبهنا في مقال سابق أننا لا نحاكم الدول العلمانية التي هي ليست وليدة العلمنة الخالصة، بل نحاكم منظومة معرفية علمانية ونتبع نهاية المطاف الى أين تؤدي، حتى يكون القارئ على بينة من المناهج والافكار ومآلاتها، أما الواقع فمدخلاته كثيرة جدا وليست العلمنة الخالصة هي من صنتعته.

لندع هذا جانبا ونلقي نظرة سريعة على مفهوم العمل في الفلسفة الاسلامية.

في الفلسفة الاسلامية الانسان أصلًا وجوده في الأرض بمثابة خليفة《 إني جاعل في الأرض خليفة 》والغاية الكبرى من تواجده هنا هو تحقيق كونه خليفة.

ومفهوم الخلافة هو بالضبط ما يعنينا هنا لأنه من خلاله سنفهم مفهوم العمل في الفلسفة الاسلامية. والخلافة هي عمارة الأرض وفق ما يرضي الله تعالى بغية الفوز بالجنة في الآخرة.

فهي إذن ترتكز على ثلاث ركائز:  

عمارة الأرض، رضا الله تعالى والفوز بالجنة في الحياة الأخرى. فالعمل في منظومة المعرفة الاسلامية ليس مرتبطا فقط بالمدخلات المادية المحضة.

فكل ما يمكن أن تتحدث عنه العلمنة من وسائل وغايات في سبيل تحقيق النفع المادي، يحتويه الشق الأول فقط وهو عمارة الأرض، ومهما حاولت العلمنة التملص من هذا الاحتواء فإنها لن تستطيع ذلك أن عمارة الأرض مفهوم شامل لأي نوع من العمران.

بعد هذا التعميم يأتي التخصيص وهو استثناء ما لا يرضي الله تعالى، فكل ما لا يرضي الله تعالى هو في المنظومة المعرفية الاسلامية خراب وليس عمل مهما كان العمل متقنا من وجهة نظر مادية محضة، ذلك أن الجزئي في المنظومة الإسلامية يأخذ قيمته من علاقته بالكلي، فالعمل في الفلسفة الإسلامية يراعى فيه التناسق بين الجزئي والكلي وما كان في جزئيته ضارا بالكل فهو خراب وليس عمل.

ثم في النهاية تأتي الغاية الحقيقية النهائية التي هي الفوز بالجنة في الآخرة.

فقيمة ما يقوم به الانسان من جهد ليست مقتصرة فقط على عائده المادي رغم أنه مهم جدًا وهناك كثير جدًا من النصوص التي تحث عليه، بل على ما يمكنه تحقيقه وفق المعارف الإسلامية من رقي في درجات الجنة، وبهذا يمكن أن يكون العكس، فدفع المال دون عمل يقدمه لك أحدهم يعتبر عملًا على عكس المنظومة العلمانية، بل عمل كبير  له قيمته الكبرى وهكذا.

في رمضان يتعلم المسلمون المزيد من هذه المعارف بشكل تدريبي فيزداد مفهوم العمل من المنظور الاسلامي تعمقا.

فالمرأة مثلا في المنظومة العلمانية مادامت تقوم بجهد لا يدر مالا على الاسرة فهي لا تعمل ، ومن منظور الدولة هي كارثة لأننا لا نجنى من خلال مكوثها في البيت أية ضرائب فهي فرص ضائعة تماما. 

لكن في المنظومة الاسلامية تقوم بعمل جبار جدًا متعدد الأطراف متعلق بالصيام فهو وحده عمل (يحقق كل غايات العمارة من الاقتصاد في الاستهلاك ويخفض منسوب الجريمة بشكل كبير جدا وغيرها كثير من الفضائل المعروفة)، وخدمة الصائمين هذا عمل ثان وممكن تتصدق ببعض ما تنجزه هذا عمل ثالث ورعاية الأبناء أو كبار السن هذا عمل رابع وغيرها كثير جدًا مما هو من صميم العمل الذي يحقق الخلافة في الأرض على اكمل وجه.

ليس معنى ذلك أن مفهوم العمل في المنظور الاسلامي هو تجاهل الجانب المادي، هذا غير دقيق لا صحيح، بالعكس هكذا يتحول الموضوع الى أفيون ومخذر تماما.

المراد من هذا أن نتذكر أن قيمة العمل ليست ثابتة لكل الناس بنفس القيمة في المنظومة الإسلامية ذلك أنها تعتبر الانسان خليفة وليس مجرد مادة، فالإنسان سواء كان صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى صحيحًا أو سقيمًا.. الخ كله يستطيع العمل من أجل تحقيق الخلافة عبر عمارة الارض بما يرضي الله و يرفع المقام في الآخرة ، و لكل واحد منهم قيمة ترافق عمله و بناء عليها يقاس عمله .. فلا مجال لمقارنة أحد بأحد. 

على العكس من المنظومة العلمانية التي ترى الإنسان مادة سواء كانت ذكرا أو انثى عليها إنتاج مادة عبر جهد تقوم به فإذا لم تعد قادرة على القيام بالجهد اصبحت عبئا حقيقيا لا معنى له في منظومة العمل! 

نأتي الآن الى سؤالنا المعتاد: 

متى يتخلص المسلمون من المفهوم العلماني للعمل، فيدرك عظمة الغاية التي وجد لأجلها يا ترى؟

متى تعي المرأة  المسلمة أن فهمها للعمل في الإطار الحضاري العلماني فحسب هو تقزيم لكونها انسان خليفة له قدرة غير عادية على العمل الحقيقي من المنظور الإسلامي الذي ارتقى بالإنسان إلى مفهوم الخلافة بديلا عن مفهوم الانسان الآلة الذي اختزلتها فيه المنظومة العلمانية؟

متى يدرك المسلمون أن الناس لن يفهموا قيمة دينهم ومفهومه للعمل ماداموا متخلفين ماديا ومنسحقين ثقافيا ومهزومين نفسيا.