دخل دكتورٌ جامعي قاعة التدريس، عن طريق الخطأ، فقال له اَلطُّلَّاب :عَفْوًا يا دكتور، أنت في القاعة الثانية. فقال: أنا آسِف. " إنّ البَقَرَ تشَابَهَ عَليْنا ". غامِزاً بذلك الطلاب.

فَهِمَ الطلبة قصَد تعريضه، فلم يَغفروها له و لم يُمهلوه، فجهّز له أحد فقهائهم على الفور قذيفة ً صوّبَها نحوه قائلا : " كذلك كنتُمْ من قَبْلِ، فَمَنَّ آللَّه عليْكُمْ". فبُهِتَ الذي دَخَل.

هذه المَزْحَة تدخل في باب فنون الردّ العفوي والذكي، وقوة البداهة، لكن الآية قد جاءت على لسان بني اسرائيل مع نبيّ الله موسى عليه السلام وهي تفضح  التفافهم في تنفيذ أمر الله الذي أمرهم بذبح بقرة لكشف القاتل الحقيقي.

وإذا كان بنو اسرائيل قد أرادوا بتَلكُّئهم وجِدَالهِمْ، التَّحَيُّلَ على نبيّهم، للهروب من الاستجابة وتنفيذ الأمر، فَادَّعَوْا بأن البقرَ كلّه مُتشابهٌ، يصعب التمييز بينه، ويستحيل فرز النموذج المطلوب منه حسب المواصفات المقترحة، فنحن في هذا الحيّز الأخضر الصغار من جغرافية الكرة الأرضية، والملقّب بتاج الثورة العربية ومفجّر الربيع العربي، قد تشابه علينا البقَرُ فيه، وهي عُجولٌ "جَسَدًا له خُوَارٌ"، تحمل بَصْمَة "السّامريّ".. فلم نعد نَقْدر على فرْز الأصيل من الدَّعِيّ، ولا الوطني من المرتزقة ولا حتى على تمييز سِمَانها من عِجافها.

ففي "الاِفتاء"، يأتي الخُوارُ (وهو صوت البقر) اِفرازاً لنوع تركيبة العلَف الثقافي المهضوم، وللأمانة، فالعلَف كلّه، ممزوجٌ بسموم الحداثة، ومُسَمَّدٌ بسَمَاد العَلْمَنة، ومَرْكوضٌ بالعقوق العقائدي، حتى لا نقول بالإلحاد.

وفي "الاستراتيجيات" وعلى إثر كل مصيبة وطنية، أو فتنة عالمية، تسمع خُوَاراً عجيبا وبليدا، عندما يُسْتَنْفَرُ "السَّحَرةُ" بأسماء مستعارة: خبراء استراتيجيّين ومُحلّلين سياسيّين، ومثقّفين مُهرّجين، يتزاحمون على مرابض الفضائيات المشبوهة، ويتدافعون أمام "الكاميرات" المحمولة، فتسمع لهم، خُوَارًا متواصلا، فيه بَحّةٌ من نفاق واِدغامٌ للزّور، ومَدٌّ لازم للتوريط وغُنّة في التفسير التآمري.

اِذَنْ، البقر لم يتشابه فقط على بني اسرائيل، بل يبدو أن العدوى قد أصابتنا من حيث لا ندري، إلا أنّ بضاعتنا لا تستجيب لكل شروط "موسى " المطلوبة، فالمواصفات الأخيرة لبقرة موسى هي أن تكون بقرة لم تذللها أعمال الحرث ولم يرهقها الجهد في توفير ماء السقي باستخراج دلاء الماء من الآبار، أي بقرة لها شخصيتها، محافظة على رشاقة جسمها، وقوتها وتتمتع بعافيتها البدنية والعقلية والنفسية. 

 بينما ما تشابَهَ منه عندنا: ذُلُل ينقادون لأي مُساوم، أذلاّء أذلّهُم الطمع والتزلّف، هُزالى، عِجَاف أرهقهم الكذب، وإضمار الشرّ للآخر، لا يرون بأسا في إراقة ماء الوجه من أجل ثمن بخْس، يثيرون الفتن ويغذّونها، وينفخون فيها، يثيرون بِخُوَارِهم وبحِوَاراتهم وتحليلاتهم وتأويلاتهم، غُبارًا اِعلاميّا حادًّا وخانقا، يحجب الرؤية، ويلوّث العقل، يُصَدّع الوطن ويضغط على العباد ويُشوّش على المُتابع.

والكلُّ يَدّعي وَصْلا بالوطن، والثورة لا تقرّ لهم بذلك، وكأني بالشاعر العربي القديم، قد عنَاهُمْ في هجائه لنماذج متشابهة قد خلت من قبل، حين قال :

بُلِينا بِقَوْمٍ مَا لَهُمْ في الصّلاحِ يَدٌ **** وَلا قَدَمٌ تسْعَى لِبَذْل الصّنائِعِ

إذا نَظرَتْ عَيْني إليْهِمْ تَنَجَّسَتْ **** بِرُؤْيَتِهِمْ... طَهَّرْتُهَا بِالمَدامِعِ