المصالحة في الإسلام هي منهج تسوية، وتوثيق لمختلف العلاقات، بين الأفراد والقبائل وحتى بين  أصحاب ديانات مختلفة، فكل خلاف تنضوي تحته احتمالية الصلح، وطالما زكى الإسلام من الصلح على أنه يرتقي لمراتب عليا من الإحسان، فالجماعة لابد لها من حكيم يسوس الخلافات بمواعظه وينشر معاني  الإخاء بين الناس، ويُصالح بين المتخاصمين وأصحاب الخلاف فهي رسالة العقلاء على مر الأزمنة العصور، فيسعون سعيهم الدؤوب للحل، فهم يجيدون فقه إدارة الأزمات والخلافات.

هناك مشاكل اجتماعية بين السلطة والشعب، كيف يكون دور العلماء في المصالحة؟ وهل هناك تجارب تاريخية لديكم في هذا الموضوع؟

 د. علي الصلابي: الصلح بين الناس مقصد من مقاصد القرآن الكريم (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) بين الناس يعني بين اليهود والمشركين والمسلمين، الناس جميعًا، مقصد من المقاصد التي يحبها الله سبحانه.

 وأما فيما يتعلق بالنزاعات بين المسلمين فإن هناك آية لها المقام (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إن الله يحب المقسطين)، واتقوا الله في الأخوة وإقامة العدل لعلكم ترحمون، فالنزاع يولد الهم والضنك والضيق والمشاكل، وانتهاك السيادة وأطماع الخارج في الداخل، فلما نتأمل هذه الآية ونتفكر، نحل الأزمات بين المسلمين.

النموذج التاريخي الذي طبق هذه الآيات، هو مشهد قتل سيدنا عثمان رضي الله عنه، فبعد مقتله دخلت الأمة في موجة من الفتن والصراعات، فبعد ما تولى سيدنا الحسن ببيعة شرعية حقيقية، دخل في حوار مع معاوية وهذا الصلح مر بمراحل وخضع بشروط ودوافع تمثل المصلحة العليا لهذه الأمة، مقصد حقن الدماء ووحدة الأمة وعدم التنازل عن الشرعية، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مصالحة الحسن: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين" ووصف السيادة هنا له معانٍ كثيرة؛ منها حقن الدماء، والذي يسعى لحقن الدماء يمتلك السيادة، وتوحيد كلمة الأمة نوع من السيادة.

 هناك نظرية عند الفقهاء أخذوها من سيدنا الحسن، نظرية إسقاط  الحقوق في الحكم، فهو كان الخليفة الشرعي، من أجل مقاصد كبرى وعظيمة لحقن الدماء ووحدة الأمة، ترك نموذجًا عظيمًا.

والخليفة الحسن الخليفة الراشد (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي)، تكتمل مدة الثلاثين عامًا في الخلافة بـستة أشهر التي حكم بها سيدنا الحسن، وبالتالي هي محل الاقتداء ومحل لأخذ العبر، وأصبح هذا النموذج مهم جدًا في التنازل عن حقوق الرئيس الذي انتخب شرعيا، ويتنازل من أجل مصالح ومقاصد كبرى في كتاب الله.

نعرف أنك لعبت دورًا هامًا في المصالحة بين المسلمين، ما هي أنواع المصالحة؟ وما هي ضوابطها؟

العلامة. محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي: المصالحة هي البديل عن التحارب والتقاتل، فإذا كانت الأطراف لا تجد حلًا إلا السلاح فحين إذنٍ تكون القضية فوضى، فالمصالحة هي الحل الأسمى ولذلك التأصيل الشرعي في سورة الحجرات جاء فيها الأمر بالإصلاح في ثلاثة مواضع، وكذلك قول الله تعالى في قضية الغنائم (يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) وكذلك في قضية الخلافات الزوجية (والصُلح خير)، وكذلك في الخلافات المالية ونحوها، كل ذلك جاء بالصلح، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار بيده أن ضع الشطر وهو لديه حقوق ثابتة بين يدي الرسول، ولكن أشار بيده (أي ضع الشطر) يعني اترك نصف حقك، حتى يقع الصلح.

 فلذلك المصالحات أنواعها كثيرة منها ما يتعلق بالشأن العام، مثل صلح الحديبية ومنه صلح داخلي مثل تنازل الحسن بن علي، ومنه الصلح فيما يتعلق بحقن الدماء وتولي الدولة للديات ونحو ذلك كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية قتل عبد الله بن سهل.

 فما هي المشاكل الأساسية أثناء المصالحة؟

إذا كانت المصالحة من طرف الساعي فيها ثقة بين الطرفين ولم يشأ أن يحسب على أي منهم وأخذ لنفسه حيادًا، فسيكون محل ثقة، ثم بعد ذلك لا بد أن تكون نيته صادقة، ثم بعد ذلك لا بد أن ندرك أن هذا الحوار سيطلب فيه الحكم والمصلح أحد حلين، إما أن يعرف أنه لا خلاف أصلًا وأن هذا خلاف لفظي أو خلاف صوري أو الخلاف في حال -كما يطلق عليه الفقهاء- أو الأمر الثاني، أن يعرف أن هذا الخلاف خلاف واقعي موجود وحينئذٍ يسعى لحزمه وهذا الحسم إما ببيان أن هذا الطرف هو ظالم وتبين له، وإذا رجع إلى الحق فهذا المطلوب وهو الأولى، إذا لم يستطع أن يرجع إلى الحق بسبب بعض الدوافع والنوازع حين إذن لا بد أن يتنازل الطرف الآخر عن شيء من حقه، ولكن يكبر به ذلك ويبين أنه تنازل عن بعض حقه، حتى حقن الدماء وأصلح.

 أما إن كان الطرفان لا يقتنعان بالمصلح، فيبادر بعض العلماء بإصدار الحكم قبل وقته، وهذا يقتضي المصالحة بحق ودين، سليم ابنُ عكرٍ كان قاضي مصر، فجاءه طرفنا فسعى للصلح بينهما حتى اصطلحا، فلما كان من الغدِ جاءه أحد الطرفين ينكر انه صالح وأنه رضي، وسعى لكتابة ذلك وكان أول ديوان في الإسلام يكتب به وسيلة الإثبات بشهود أو بكتابة. 

كيف نؤصل فقه إدارة الأزمات في الفقه الإسلامي؟

 د. عبد المجيد النجار: طبيعة البشر أن يختلفوا وربما من طبيعتهم أن يتنازعوا لكن من واجبهم أن يكون لهم رجوع نحو فض الخلاف والتنازع، والحقيقة أن في القرآن والسنة فقه عظيم يتعلق بإزالة هذا الاختلاف والتنازع يمكن أن نسميه بفقه (الخلاف)، كيف القرآن يروي لنا مشاهد من الخلافات، وكيف يفتح المجال للمخالف ويعطيه المجال، وفي السنة مشاهد كثيرة.

 حريٌ بنا نحن المسلمون أن نجعل هذا فنا من الفنون وعلما من العلوم يدرس في كل مكان، وإن كان علم الخلاف في مجال الفقه بالأخص لكن يمكن أن يوسع ويطور، ولم يعد له ذكر إلا قليلًا.

 فقه الخلاف وفك النزاعات له أصول وقواعد، ولعل من أهم هذه القواعد هو أن المخالف يعترف بمخالفه ولا يلغيه، لأنه إذا ألغاه ولم يعترف به، فقد سد الباب أمام الخلاف ابتداءً.

 كذلك من هذا الفقه أن يتحلى الطرف المخالف بالنسبية، ولعل هذا مدون في الكلمة الشهيرة (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي المخالف خطأ يحتمل الصواب) هذه تلخص النسبية لأن هذه النسبية تفتح باب للتعاطي في محل الخلاف وتفتح باب لمراجعة النفس في مراجعتها إن كانت قد وقعت في خطأ.

 كذلك من هذه القواعد الاستعداد النفسي للأطراف المتخالفة، لحل الخلاف والنزاع عند الحوار، ولعل هذا ما تشير إليه الآية (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)، الاستعداد النفسي لحل النزاع، وكذلك الخضوع للقواعد العقلية وترك العِناد والمكابرة، إذا دخلت المكابرة والعناد في النزاع، فكل شيء يسقط، ينتهي الأمر إلى نتيجة ايجابية، كذلك الاحتكام إلى المصلحة، المصلحة العامة في النزاع، فعندنا أصول لحل النزاعات من الواجب أن نهتم بها.

 لديكم تجربة كبيرة فيما يتعلق بالمصالحة بين الآخرين، هل يمكن أن تذكر لنا ما هي المشاكل الأساسية في المصالحة؟

 د. علي القرة ياغي: المصالحة ليست من فضائل الأخلاق فقط وإنما قد تصل إلى مرحلة الواجبات، عند النزاع أو المشاكل يجب على الأمة أن تتخذ المصالحة.

 أما حقيقة تجربتنا فأذكر لكم أول تجربة عام 2010 حينما كلفوني بالأمانة العام لحل مشكلة في قرغيسيا، بين الأخوة في قرغيس وبين أوزبيك، ورئيسة الدولة كانت حكيمة وتعلم أن الشعب القرغيزي بكل مكوناته يسمعون للعلماء، فوجهوا إلينا دعوة، ذهبنا بوفد، وطلبنا من الحكومة التخويل في مجموعة من الحلول والضوابط، وقالوا لكم صلاحية في حدود ما يلزم ويسمح به الدستور، فذهبنا إلى اخواننا المظلومين أولًا وهم كانوا أوزبيك، وقد قتل منهم وحرق عدد كبير، وقالوا لا بد أن نتصل بالرؤساء جمعنا العشرات في مكان، ثم بعد ذلك عملنا الصلح، وفي الأول ما قبلوا أن يجلسوا في مكان واحد، ولكن عندما تكلمنا خلال أسبوع جمعناهم وتعانقوا وكان صلحًا موفقًا.

عندما نتكلم عن المصالحة كأن الدور للعلماء فقط، فما الذي سيدير المصالحة بين السلطة والشعب؟

د. نور الدين الخادمي: العلماء هم جزء من المصالحة والآخرين مجموعة مكونين من المصالحة، ولا سيما من المصالحة الوطنية من الأحزاب والمنظمات والقبائل وغيرهم، هؤلاء جميعًا هم المعنيون بالمصالحة، فهي شأن داخلي على وجه التحديد، وفي إشارة قرآنية (أليس منكم رجلٌ رشيد)، منكم أي جزء منكم وفرد منكم.

 فالمصالحة فرض من الرشد لا بد أن تكون من الداخل ولكن يلجئون إلى منظمات دولية أو أطراف أخرى خارجية، هذا أيضًا مشار إليه في قوله تعالى(فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها) إشارة إلى الطرف الذي ليس له علاقة بالأسرة علاقة مباشرة، وإنما هم أقارب، لذلك التحكيم الدولي والإقليمي والإسلامي هذا إطار خارجي يتكامل من الإطار الداخلي، الذي يمثل الإطار الحقيقي الأصلي.

المصالحة الوطنية تكون بناءً على الإرادة الوطنية، فالذين يصلحون ولا يفسدون هم الشركاء الوطنيون ممن يمثلون الإطار الداخلي. 

فقه الخلاف، أليس فيه شيء من مقاصد الشريعة؟

 د. أحمد الريسوني: فقه الخلاف هو تلافي الخلاف قبل وقوعه ومعالجته بعد وقوعه معالجة متوازنة، وقد كتب فيه عدد من المعاصرين علمًا بأن فقه الخلاف هو أيضًا من جانب آخر اقرار بأن الخلاف في حد ذاته طبيعة بشرية لا مفر منها، ولكن يجب أن يقف عند حدود معينة، ليكون مثريًا، كي لا يتحول إلى سفك الدماء والاعتداء.

 ما هو الوضع التاريخي للمصالحات الوطنية؟

 د. علي الصلابي: من خلال قراءة التاريخ الإنساني طبيعة الإنسان يميل إلى الصلح والسلام، وإن كان فيه نزعة حرب، وهذا موجود لدى الإنسان، فعادةً المصالحات الوطنية بين الشعوب تحتاج إلى قيادة سياسية متميزة، لو عرجنا على فتح مكة فكان قرار العفو وكسب الناس الذين حاربوا الإسلام والمسلمين صادرا من القيادة السياسية، أصبح جزء من الدولة الاسلامية، في عهد أبو بكر الصديق لما ارتدت بعض القبائل، قام بالعفو عن طليحة الأسدي وغيره، وهو قرار سياسي من أبو بكر في المصالحة.