قد يتبادر إلى ذهن السامع ب"عمران"، أو الزائر لمنصات "عمران" أن المشروع مشروع أمة، وهو كذلك حقا يقينا. ولكن ما لا يجب أن يفهم هو أن عمران لا تهتم بالأوطان، بدعوى أننا أمة واحدة والحدود الحالية حدود وهمية، وذاك أيضا حق وصدق فنحن أمة واحدة، ولكننا كل يتكون من أجزاء، وكلما قوي الجزء قوي الكل . وهذه ليست دعوة للفرقة، وبيان هذا هو مقصدي في مقالي هذا.

لقد مرت أمتنا من مراحل بلغت فيها وحدتها ذروتها، خاصة أيام الوحدة السياسية التي تمثلت في الخلافة. ثم أعقبت ذلك مراحل وحدة صورية انتهت بتفرق البلاد الإسلامية، رغم أن مقومات الأمة الواحدة لم تزل كما كانت منذ الصدر الأول.

وأحسب أن من أهداف عمران استثمار تلك المقومات الوحدوية، لا لتعيد شكل الوحدة الماضي، وإنما لتجسد وحدة الأمة وفق واقعها الآني. وإلى قريب من هذا أشار محمد المختار الشنقيطي في كتابه الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية بقوله: "إن أي سعي لإخراج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية لن يفلح إلا إذا اتسم بسمتين،... وثانيتهما: أن يكون منسجما مع منطق الدولة المعاصرة لا خارجا عنها أو عليها، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل حلا سلفيا مستأسرا للصورة التاريخية المستمدة من الإمبراطوريات الإسلامية الغابرة."1 (ومن الملاحظ أنه قد يكون لاختيار الكاتب تسمية الامبراطوريات للدولة التي أعقبت الخلافة الراشدة مبرراته، ولكن ولو من باب تمييزها عن غيرها مما عند الأمم الأخرى لا حرج في إطلاق اسم الخلافة عليها. ويبقى ذلك هو الصحيح عربية.) 

فهذا الطموح من عمران لا يناقض عمارة الأوطان، كما أن عمران الأوطان لا يعني الانعزال وعدم الاهتمام بعمران الأمة، بل هو لبنة أساس وخطوة أولى نحو نهضة الأمة. 

ومع الأسف كثيرا ما تأخذ الشباب حديثي العهد بالتدين والالتزام الغيرة على الأمة تجعله يزدري الحديث عن الوطن، بل وقد يجعل ذلك خيانة للأمة وتأثرا بالغرب الذي قسم البلاد ومعها قسم مصالح العباد. وقد أدى ذلك بكثير منهم أن صار  غريبا في وطنه، منكرا عرف بلده وتقاليده -ولا أقصد منها ما خالف الشرع- وجاهلا بأعلامه وأهل الفضل فيه، ثم بخيلا بعطائه عن وطنه. وهذا لا شك سبيل فرقة أكثر منه سبيل اجتماع ووحدة. وقد أحسن القائل حين قال:

من للغريب البعيد النازح الوطن *  من للأسير أسير الهم والحزن

من للغريب الذي لا مستراح له  *   من الهموم ولاحظ من الوسن

خلى العراق وقد كانت له وطنا  *   لا خير في كل مشغول عن الوطن2

وأول قدوة لنا في حب الوطن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. ويحضرنا هنا قولته صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة فنظر إليها قائلا: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"3. وقد ذهب أناس إلى القول بأن هذا الحديث لا يصلح لبيان حب الأوطان، إذ حبه صلى الله عليه وسلم لمكة لمكانتها عند الله تعالى. ونقول وهل يتعارض ذاك مع حبه لها على أنها وطنه ومرتع صباه. وليفتش أحدنا في قلبه وينظر وجود حب فطري للوطن وربنا يقول مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي."4

ثم صحابته المهاجرون الذين ما حازوا هذا اللقب إلا لتركهم أوطانهم تضحية في سبيل الله تعالى. وما تشرف الأنصار بلقبهم القرآني إلا بنصرهم دين الله بإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتحهم وطنهم لحبيبهم صلى الله عليه وسلم.

ولا زال العلماء وخاصة أهل الحديث يفتخرون برحلتهم طلبا للعلم، لما في ذلك من تضحية بفراق الأهل والوطن. ولئن كان الشافعي قد حض على هذه الرحلة بقوله:

تَغَرَّبْ عَنِ الأوْطَانِ فِي طَلَبِ العُلَى ... وَسَافِرْ فَفِي الأسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ

تَفَرُّجِ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ ... وَفَضلٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ ماجْدِ5

فإن القاضي عياض المغربي خالف الإمام الشافعي في قوله، فنَفَّرَ من فراق الأوطان، لشغفه ببلدته سبتة السليبة قائلا:

تَقَّعَدْ عن الأسفار إن كنت طالبا  *    نجاة ففي الأَسفار سبع عوائق

تَشَوُّفُ إخوانٍ وفَقْدُ أَحِبَّةٍ   *   وأعظمها يا صاح سُكْنَى الفنادق6

وأبرز ما يدلك على عناية أهل ملتنا بأوطانهم تلك التصانيف التي خصوا بها بلدانهم. والعجب أن ذلك لم يكن من مؤرخين بل من محدثين أو أدباء وغيرهم. وسأذكر منهم اثنان هما جبلان: الأول أبو بكر أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ) وكتابه "تاريخ بغداد" الذي خص به بلده بالعناية وأكرم بها من فضيلة. فترى حبه لبلده ظاهرا في كتابه هذا حيث كان من أول ما ذكره في فضلها، نقله عن الشافعي وقد سأل يونس بن عبد الأعلى:" يا أبا موسى دخلت بغداد؟ قَالَ: قلت: لا. قَالَ: ما رأيت الدنيا!."7 ثم كأني به ينتشي حين ينقل قول الشافعي: "ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا، إلا بغداد، فإني حين دخلتها عددتها وطنا".8

ثاني هذين الإمامين العالم الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر (المتوفى 571 هـ)  صاحب الكتاب العظيم القدر "تاريخ دمشق".  ويدلك على حبه بلده ما دعا به في مقدمة كتابه قائلا:"... على جمع تاريخ لمدينة دمشق أم الشام، حمى الله ربوعها من الدثور والانفصام وسلم جرعها من كيد قاصد بهم بالاختصام."9

ثم يقول واصفا عمله وما خص به قطره قائلا: "وقدمت قبل جميع ذلك جملة من الأخبار في شرف الشام وفضله، وبعض ما حفظ من مناقب سكانه وأهله، وما خصوا به دون أهل الأقطار، وامتازوا به على سائر سكان الأمصار ما خلا سكان الحرمين وجيران المسجدين المعظمين."10

ومن طريف ما أورد ابن عساكر في تاريخه عن حب الأوطان، ما رواه من تزوج معاوية بن أبي سفيان ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد، والتي حنت إلى وطنها -البادية- بعد أن انتقلت للعيش في دمشق، فقالت:

لَبَيْتٌ تخرق الأرواح فيه  *  أحب إلي من قصر منيف

وكلب ينبح الطراق عني  *  أحب إلي من قط ألوف

وبكر يتبع الأظعان صعب  *  أحب إلي من بغل زفوف

ولبس عباءة وتقر عيني  *  أحب إلي من لبس الشفوف

إلى أن قالت:

فما أبغي سوى وطني بديلا * فحسبي ذاك من وطن شريف11

ومن آخر من حدا حدوهما القاضي المغربي العباس بن إبراهيم السملالي الملقب بالتعارجي حين ألف كتابه "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام".

فتلك عنايتهم بأوطانهم شاهدة على ارتباطهم بها دون نسيان الأمة. وهذا سلفنا قدوة لنا في اهتمامنا بأوطاننا.

ولنتذكر أن عمران الأوطان أول درجات عمران الأمة، ولا تعارض ولا تناقض بين العمرانين. 

فلنبن ولنعمر الأوطانا   ولنتحد إن نرد عمرانا