الحرب، كما يقول ابن خلدون، لم تزل واقعة في الخليقة منذ بدأها الله، وستبقى الحرب ملازمة للمجتمعات البشرية لأن الاعتداء ورفض الحق من الغرائز في البشر كما أن رد العدوان وإلزام الغير بالحق ولو بالقوة والقتال مما فطر الله تعالى الإنسان.
إن حسن الخلق ولين الجانب والرحمة بالضعفاء والتسامح مع الأعداء تفعله كل أمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية. ولكن حسن المعاملة في الحرب ولين الجانب مع الأعداء والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ والتسامح مع المغلوبين لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به.
إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها.
إن الاشتباكات المسلحة بين الدول والحروب الأهلية والحركات التحررية فضلا عن آخر حروب القرن وهي الحرب ضد الإرهاب والتي أعلنتها الولايات المتحدة كلها تترك آثارا سيئة في العلاقات الدولية ودمارا في الاقتصاد والموارد وهلاكا للبشر من قتلى وجرحى ومفقودين ووقوع الآلاف من الأفراد في الأسر في يد الطرف الآخر.
الحرب آفة مهلكة للحرث والنسل ولا يحصل منها إلا الشر والخراب وتقضى على الأخضر واليابس، فالحكمة تقتضي تجنب أسباب الفتن والحروب وتوجب على ولاة الأمور في العالم كل العالم التحلي بالحلم والحكمة إذا آثار الأشرار أسباب إشعال الحروب.
وعلى الحكومات والمنظمات والهيئات الدولية الإنسانية بذل الجهود اللازمة في علاقاتها الدولية وغير الدولية لإشاعة الأمن والسلم الدوليين في العالم وتوطيد أركانه وإطفاء نار الحروب والفتن.
فالعالم اليوم يسير على سنة الغاب، القوي يقتل الضعيف والمسلح يسترق الأعزل والأسير معرض للتعذيب والقتل في كافة أنحاء العالم على اختلاف مللهم واتجاهاتهم العقائدية والسياسية.
ومن أجل ذلك بات من الضروري التصدي لهذا الموضوع والكتابة فيه لإبراز النواحي الإنسانية التي قررتها الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام والمواثيق والاتفاقيات الدولية والعلاقات الدولية في شأن الحروب.
إن من المسلم به أن قواعد ومبادئ الشرع الإسلامي الدولي تسبق قواعد القانون الدولي العام ويكاد يجمع عليه كتاب الغرب في أوربا وأمريكا. لأن المبادئ الأساسية لقواعد القانون الدولي حديثة العهد لا ترجع إلا إلى ما قبل القرون الأربعة الأخيرة حيث بدأ اهتمام الدول الأوروبية بتنظيم علاقتها على أساس من القواعد القانونية الثابتة استنادا إلى القانون الروماني القديم.
والصحيح أن جل هذه المبادئ وغيرها مما يتعرض له القانون الدولي الحديث واردة في أحكام الشريعة الإسلامية نزل بها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا.
وصلات المسلمين بغيرهم من الشعوب والدول في حالتي السلم والحرب كانت تخضع لقواعد مفصلة مستمدة من القرآن والسنة النبوية واستمر تطبيقها في جميع العصور الإسلامية وبهذا سبقت مبادئ الإسلام الإنسانية مبادئ القانون الدولي في السلم والحرب.
أما بشأن الحرب وآثارها وضحاياها فقد كانت للحرب قواعد وآداب ارتبط بها المسلمين قادة وجنود ورعاة ورعية في حروبهم وكان الواحد منهم لا يحيد عما أمر الله تعالى به وما نهى عنه لأنها جزء من عقيدته كما التزموا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
أما بالنسبة للقوانين الوضعية فإن الالتزام بها صعب جدا لأنها ليست من العقيدة في شئ ومن السهولة بمكان تجاوزها ومخالفتها على نطاق الأفراد والأمم وعلى النطاق الدولي في كافة الهيئات، فكل المبادئ والقوانين والاتفاقات الدولية يصعب الالتزام بها لأن العبرة في صلاح النفوس لا بصلاح النصوص.
وحيث أن الحرب لها آثار ونتائج فلابد من تناول مفهوم الحرب في الإسلام والقانون الدولي العام والعلاقات الدولية في العصور القديمة
والحديث توطئة لما نريد بحثه من أحكام ونتائج في الفقه الإسلامي والقانون الدولي لنوضح ما أحكام هؤلاء وأولئك في الفقه الإسلامي؟
أهمية البحث
إن موضوع البحث الذي هو عن مفهوم الحرب والجهاد في الحكم الراشد، وما يتعلق بهم من أحكام، والناس بحاجة إلى معرفة هذه الأحكام في شريعة الإسلام والقانون الدولي لأن الحرب غير منقطعة ولا منتهية في العالم، بل أن كثير من الحكام والحكومات يخالفون هذه الأحكام. وكثيرا ما تنقل إلينا الأخبار العالمية وتؤيده الهيئات الدولية مثل هيئة الصليب الأحمر الدولي ومنظمات حقوق الإنسان من قتل لبعض الأسرى وهذا فعل يناقض ما أوجبه الإسلام من حسن معاملة غير المسلم فكيف إذا كان المقتول مسلمًا؟ علما أن للمسلم على المسلم حقوق مقررة أبسطها المحافظة على دمه، ثم إن الاعتداء على المقهورين والمأسورين حتى ولو كانوا غير مسلمين ظلم طبقا للشريعة الإسلامية، وحيث إن الظلم محرم على المسلم تجاه أي إنسان حتى ولو كان غير مسلما أو ظالما كما قرره فقهاء الإسلام.
ولا يخفى علينا أن الاشتباكات المسلحة في العالم وخاصة الحروب ومنها الحرب العالمية الأولى والثانية قد أهلكت الملايين من الناس بين قتيل وجريح ومعوق ومفقود وأسير. ولقد جاء الإسلام في عصر لم يكن فيه للرفق بالأسرى وجود حتى استنبط فقهاء المسلمون من الشريعة الإسلامية ومصادرها وخاصة كتاب الله وسنة نبيه الشيء الكثير من أحكام الحرب وما تضمنته من لزوم المعاملة الحسنة لهم تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيرا).
أهــداف البحث
إذا كان الهدف العام والمجمل للدراسة هو تسليط الضوء والوصول إلى جذور المشكلة في التعامل مع الإشكال الذي يثيره الحرب، فإن الدراسة تهدف إلى تسليط الضوء على الأخلاق في السلم والحرب واتباع القواعد الأساسية لقانون الحرب وقواعد السلوك أثناء القتال.
إن البحث يهدف إلى تسليط الضوء على إعلان الحرب والجهاد وكيف يمكن للحكم الراشد أن يتفادى الوقوع في أتون الحرب.
مشـكلة البحث
أصبحت أينما تندلع حرب بين طائفتين أو دولتين أو حضارتين ومع التسليم بالخسائر المادية والمعنوية والقتل والتقتيل، تندلع مشكلة تظل ملازمة للحرب، إن مشكلة البحث تتلخص في سؤال رئيسي إضافة لعدة أسئلة أخرى فرعية على النحو الآتي:
- ما هي أسباب الحروب ومتى تكون الحرب مشروعة ومتى تكون غير عادلة؟
- متى يعلن الجهاد ومتى يكون الحرب جهادا؟
- ما هي آثار الحرب وإعلان الجهاد؟
- ما هو الحكم الراشد من المنظور الإسلامي للتعامل مع الجهاد والحرب والقتال؟
فرضية البحث
تفترض الدراسة أن عالما بلا حروب غير متصور ويبدو ذلك أمرا بعيد المنال بل وحلم من أحلام الخيال، والدراسة تفترض أن الحرب فيها من القسوة والضراوة والتعسف والخروج عن المبادئ الإنسانية من عدم رفق ورحمه.
وفي المقابل تفترض الدراسة أن حروب بلا خسائر في الأنفس والممتلكات غير متصور على الإطلاق، لذا على الدول أن تكون جاهزة لدرء آثار الحروب ومنها مشكلة أسرى الحروب وكفالة أسر الشهداء وخلافه.
منهج البحث
إن المنهج المتبع لدراسة مفهوم الحرب في الحكم الراشد هو المنهج التحليلي الوصفي والمنهج التاريخي والذي يوضح نهج التشريع الإسلامي والقانون الدولي العام في معالجته لمشكلة الحروب عن طريق اتباع حكم راشد.
تصميم البحث
لما برزت حالة الجهاد والحرب كمشكلة في الماضي والحاضر والمستقبل فإن هذا البحث يقع في إطار بحوث دراسة الحالة كونها حالة تحدثها الحروب وتستمر الحالة لما بعد الحرب.
ويتكون هذا البحث من موضوع يتناول إدارة الجهاد والقتال والحرب في الحكم الراشد في القانون الدولي والتشريع الإسلامي، موضوع تعريف الحرب المشروعة وحروب الطغيان لغة وفقها وقانونا، ودليل مشروعية الحرب والجهاد وبيان حكمه وحكمته، ثم تناولت عن الحرب في القانون الدولي والحرب في التشريع الإسلامي والأحكام المقارنة، وتشتمل الخاتمة على التوصيات من واقع البحث ونتائج.