أظن أن فلانا ليس لدية إمكانيات، أنا كمدير أحب أن أكون في وسط العمال دائماً، المحاسب الجديد واضح أنه مميز، فلان شكله مندفع وغير مناسب للمؤسسة، الجودة نظام شكلي غير مفيد لنا، الانفتاح لا يتناسب مع قيَمنا وثوابتنا، أنا كمسئول أتابع كل كبيرة وصغيرة. 

هذه كلمات نسمعها دائماً في إدارة المؤسسات والتجمعات والمنظمات، وهي بمثابة قذائف نارية تنطلق من طباع وانطباعات المدير؛ لإعلان الحرب على نظم الإدارة المبنية على قواعد منطقية وموضوعية.

بداية دعني أوضح معنى الطباع والانطباع، فالطِباع هي نموذج سلوكي يميز الفرد عن غيره من الأفراد، أما الانطباع فهي صورة ذهنية عن شخص ما أو موضوع أو موقف معين، مبني على الملاحظة الأولية، وقبل أي شيء نؤكد أننا لسنا ضد الطباع والانطباعات فهي مكونات نفسية خاصة بالإنسان مثبتة بشكل علمي.. 

إلا أننا نرفض توغل تلك الطباع والانطباعات في طريقة إدارة المؤسسات والتجمعات والمنظمات، فتصبح أداة للحُكم على الأشياء ومعيار لاختيار المواقف وطريقة لاتخاذ القرارات، وبالتالي تنحصر المؤسسية وتتوقف التنمية والتطوير على مدى قناعة الإدارة بالموضوع، وتُنفذ الفكرة بمجرد الارتياح لمُقَدمها أو لتوافقها مع طبيعة المدير، ويقترب أفراد من جهة الإدارة ويبتعد آخرون؛ ليس لشيء إلا للارتياح أو للتنافر الشخصي.

كما تنحصر رؤية المؤسسة في ثُقب ضيق مرتبط بالرؤية الشخصية للمدير ومدى ارتياحه لتلك الرؤية، بل وتنحصر غزارة الإبداع والابتكار في شخص الإدارة؛ فيقتصر الإبداع والابتكار على قطرات معدودة لا تَروي أرض المؤسسة فلا تُنبت إلا أشجار النمطية والجمود، ويسود جو الشخصنة بين العاملين ويُصبح إرضاء طباع المدير هو الهدف الأسمى، والتركيز على توصيل الانطباعات الحَسنة هو الإنجاز الأعظم، وتتوقف عجلة التنافسية ويتعطل الانجاز طالما يتعارض مع انطباعات وطباع جهة الإدارة.

العجيب أنك تجد عكس ما يحدث تماماً عندما تتصفح تُراثنا المجيد (نأخذ موقفين فقط من بين المواقف الغزيرة) فهذا أبو بكر الصديق ذا الطابع الحسي والعاطفي صاحب القلب الرقيق، يتعامل مع المرتدين بكل شدة وقوة وعنف فيُجهِز عليهم ويمزقهم كل ممزق.

 وهذا عمر بن الخطاب الذي صرح لقاتل أخيه وقد دخل الإسلام أنه لا يحب أن يراه فسأله "هل ينقص ذلك من حقي يا أمير المؤمنين؟ قال له "لا"، فرد الرجل عليه قائلاً ما لي وحُبك إنما يبكي على الحب النساء"، فالانطباع السيئ لسيدنا عمر عن قاتل أخيه لم يؤثر على معايير وقيم الحكم لدى خليفة رسول الله. 

من المؤكد أن فلسفة علم الإدارة تركز على الموضوعية والمنطقية، والتضييق شيئا فشيئاً على الاعتبارات الشخصية والميولات الفردية فأوجدت التخطيط والهياكل التنظيمية لتحقق المؤسسية والابتعاد عن الفردية، وأوجدت معايير الأداء لتغلق الباب أمام الشخصنة عند الحكم على الأفراد والأعمال، وأوجدت طرق علمية لاتخاذ القرارات لتبتعد عن تأثير الطباع والانطباعات في تقرير مصير الأعمال والأفراد، وأوجدت نظم المعلومات لتضعها أمام متخذي القرار حتى لا يلجأ إلى التنبؤات المبنية على الانطباعات والعشوائيات.

 فقد وصل علم الإدارة بأن حدد لكل عملية من عمليات الإدارة ما تحتاجه من النظم والنماذج والمعايير والمؤشرات التي تقف حاجز منيع أمام توغل الشخصنة والانطباعية في الحكم علي الأشياء وعلي الأفراد والمواقف. 

من هنا نستطيع أن نقدم مؤسسة انتقلت بالفعل من الفردية إلى المؤسسية، ومن الشخصنة إلى النظم الموضوعية، ومن الولاء للأفراد إلى الولاء للرسالة والأهداف، ومن السيطرة الفردية إلى الحوكمة ذات الشمولية، ومن الإدارة بالتنبؤ إلى الإدارة بالمعلومة. 

من هنا نقول سعادة المدير تَخلى عن طباعك وانطباعاتك واسمح لعلم الإدارة أن يأخذ فرصته في مؤسستك..