السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

      إخواني أخواتي نتناول في هذه الحلقة الرابعة والأخيرة من سلسلة في "ضيافة النبي" جانباً عظيماً وجميلاً من حياة النبي القائد والنبي الإنسان، لم أجد مبرراً للفصل بين هذين الجانبين في حياة النبي، كالقول على سبيل المثال بأن النبي القائد صلى الله عليه وسلم يختلفُ منهجيا عن النبي الإنسان في بيته وبين أهله، ذلك أننا اعتدنا في عالم البراغماتية السياسة أن نقول بضرورة الفصل بين الحياة الشخصية والحياة العامة للساسة والقادة، والقول في ذلك هو أن الإنسان في حياته الخاصة ذو طبيعةٍ يحتاج فيها إلى قدرٍ عال من الحرية الشخصية في بيته وبين أهله، وبالتالي ليس لأحد الحق في الاطلاع عليها، أما السياسي في ممارساته العامة فيلتزم بمجموعةٌ من النظم والقواعد، وهي مفتوحة للعامة، تقتضي الشفافية لكي تنتج عنها القدرة على المحاسبة.

«سُنة التوفيق».. في تجاوز الإنفصام

       في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الأمر مختلف لسببٍ جوهري، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أُسوَّة لنا جميعاً في كل شيء، فهو أُسوة لنا فيما يتعلق بالجوانب الخاصة والعامة، في المناحي الإنسانية والقيادية أيضاً، ولكن على إختلاف، بمعنى أنه في الجوانب القيادية هناك أوامر ينبغي الإلتزام بها، يشاور فيها أصحابه ثم يعزم الأمر فيصبح قرارا ملزما على الناس السمع والطاعة فيه، وفي الجوانب ذات الطبيعة الشخصية، كسيرته في أهله وسماته الخلُلُقية فهذه يتقصاها المسلمون عادة للتأسي والاقتداء، حبا بالنبي وطلبا لكمال اتباع سنته.

فيما يتعلق بالمناحي ذات الطبيعة القيادية، كمنهجه في التعامل مع أصحابه في الشأن العام، والمناحي الإستراتيجية من غزوات وسرايا وتحالفات ومعاهدات، فهذه وافرة غزيرة في كتب السيرة، وفي الجوانب الشخصية من حياته صلى الله عليه وسلم وصلنا الكثير أيضا، والفضل في ذلك يعود لكبار صحابته ونسائه اللواتي نقلن لنا كل شيء عن تفاصيل حياته في بيته ومنزله، وبعض هذه التفاصيل جاءت ردا على أسئلة وجهها لنسائه المسلمون، لأنه ينبني عليها أحكام شرعية، وبعضها جاءت لتعكس جوانب من خُلُقه وأسلوبه.

من أصعب الأشياء لدى القادة كيفية التوفيق بين الحياة الشخصية والحياة العامة، ذلك أنهم قد يخرجون للملأ ويكون لهم شأن رفيع في عالم السياسة، لكنهم عندما يتعلق الأمر بخصوصية بيوتهم يواجهون عقبات وإخفاقات كبيرة ، ولذلك يكون لديهم صعوبة في التوفيق بين الداخل والخارج. 

في حال النبي صلى الله عليه وسلم نلحظ أن هناك تداخلًا وانسجاما تاما بين هذين البعدين، والتداخل سببه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصًا على أن يسُنَ لنا في حياته وللأجيال التي ستأتي من بعده سُنّة حسنة في التوفيق بين كل أنواع وجوانب الحياة المختلفة، ولذلك حالة الإنفصام أو التفريق التي تؤول إلى فصلٍ النظم الخاصة في حياة الإنسان عن العامة لم نلحظها في حياته صلى الله عليه وسلم، بل كانت جميعاً تخرج من روحٍ واحدة، لذلك أمنا عائشة رضي الله عنها عندما تحدثت عن النبي قالت "كان خُلُقُهُ القُرآن " وهذا منبع واحد لكل شيء، ليس خلقه الشخصي الخاص، بل كل خُلُق عام أو خاص كان نابعا من القرآن.

الرحمةُ أساسُ الرسالة

إذا عدنا للقرآن نجد أن التكليف الأول للرسول صلى الله عليه وسلم كان "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمين" [سورة الأنبياء، الآية: 107]. فخُلُق النبي في كل تعامل نابعٌ من أنه رحمة للعالمين وعندما نقول العالمين لا نقصد المسلمين أو المؤمنين فقط، وإنما العالمين هي كل أبعاد الخلق سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، سواء كانوا إنساً أو جناً، كائناتٍ حيّة أو تلك التي نجدها في الطبيعة من خلق الله.

 من هذه القاعدة الأساسية، نبع كل خُلُقٍ للرسول صلى الله عليه وسلم، إنه رحمةٌ للعالمين، ومن لطائف النص القرآني قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [سورة الفتح: الآية 29] . 

لم يقل أن النبي والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم بل قال "محمدٌ رسول الله" اكتملت الجملة هنا، لكن الذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، لقد اكتفى بوصف النبي بأنه رسول الله، ولم يجمعه مع أصحابه في مسألة الشدة على الكفار، لماذا؟ لأن النبي رحيمٌ بالجميع وفقا للتكليف الإلهي الرئيس له، بأنه رحمة للعالمين، وليس للمؤمنين فقط، ولذلك مُيِّزَ عن بقية أصحابه بإسناد وصف الرسالة له وما تقتضيه من خُلُق رحيم شامل. 

 أما لماذا ينبغي أن يكون المؤمنون أشداء على الكفار، فهذا من ضرورات التدافع بين الحق والباطل، ومن الضروري أن يكون أصحاب النبي الذين هم حوله أشداء على الكفار، يبادلون شدة الكفار عليهم بالمثل، بينما يتصفون فيما بينهم بالرحمة، أما النبي فقد كان بالطبع رحيما بالمؤمنين، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: الآية 159]، وهذه رحمة ذات طبيعة خاصة، ثم هناك الرحمة العامة التي تقتضيها الرسالة، وهي رحمة تشمل جميع المخلوقات من كل جنس ونوع، لذلك عندما ناقش المفسرون آية سورة الفتح إنحاز الطبري إلى كلام ابن عباس فيها، وأعجبني ما قاله هذا الأخير: 

"النبي صلى الله عليه وسلم رحمةٌ للمؤمن وللكافر لأنه رحمةٌ بالمؤمن بأن هداهُ به الله سبحانه وتعالى وأدخله في الإيمان، ورحمةٌ للكافر لأنه دفع عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة من قبلهم".

فالفكرة الرئيسية أن النبي صلى الله عليه وسلم هو رحمةٌ للجميع، وأما صحابته رضوان الله عليهم فكانوا رحماء بينهم أشداء على الكافرين.

       سأذكر قصتين في كل من الجانب القيادي والجانب الشخصي للنبي صلى الله عليه وسلم لكي نستشفّ مجموعة من المفاهيم، وأيضا حتى ننظر في الحالتين ونكتشف التداخل الذي أتكلم عنه، وكيف أن كل شئٍ ينبع من أساسٍ رئيس وهو الرحمة. 

ماذا إن لم تأتِ «الشورى» بأفضل الخيارات المُمكنة؟ 

إبتداءً، الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لديه قاعدة في القيادة وهي الشورى، ولأهميتها كان النبي يشاور أصحابه في كل شأنٍ عام ذو بال كالحرب والتحالفات، في البداية كان الصحابة يسألونه قائلين: "يا رسول الله أهو أمرٌ أمرك به الله أم هو الحرب والرأي والمشورة؟" فيقول هو الحرب والرأي والمشورة.

 في ثلاث وقائع على الأقل سُئل النبي صلى الله عليه وسلم نفس السؤال وكانت نفس الاجابة بأنها الحرب والرأي والشورى، ولم يُسأل بعدها فقد أضحت قاعدة في حياة الصحابة أن كل أمرٍ عام يتعلق بالسياسة، والحرب، والتحالفات، هو من شأن الرأي والمشورة وليس وحياً، ولهم كامل الحرية أن يقترحوا ويتفقوا ويختلفوا وينصحوا فيه.

  ولذلك كانوا يبدون آرائهم بحريةٍ تامة على إعتبار أنه قد وقر في أنفسهم مع الزمن أن هذا الشأن –الحرب والإستراتيجيات والتحالفات- هو من شؤون الرأي والشورى، ثم ترسخت الشورى بعدما أمرَ الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر، ونزلت هذه الآية في أعقاب أُحد.

وأحب أن أشير إلى نقطة مهمة وهي أن مشاورة النبي لأصحابه في أحد أنتجت قراراً بالخروج من المدينة، ولم يكن القرار حينها صائباً، ولم يكن النبي مع الخروج، لكنه أخذ برأي الغالبية، وبما أن قرار الخروج الناتج عن الشورى كان خاطئا، فمن الطبيعي أن يشكك الناس بجدوى الشورى بعد هذه الواقعة، فيوكلوا الأمر كله بعد ذلك لرأي النبي من دون حوار ولا نقاش، لماذا لا وقد كان رأي النبي هو الأصوب، ولو أنهم سمعوا له لما تكبدوا الخسائر التي تكبدوها عندما خرجوا من المدينة لقتال العدو، لقد كانت نتيجة الشورى خاطئة، وكان من الطبيعي أن ينقاد الناس من دون رأي ولا تفكر في المواجهات القادمة لرأي النبي، فتنهدم الشورى، لذلك جاءه القرآن بعد معركة أُحد ليجعل الشورى ركنا رئيسا من أركان القيادة النبوية، مكملا للأسباب التي جعلت الصحابة يتبعون النبي، وجعلها على النحو التالي: الرحمة، اللين، العفو، طلب المغفرة لهم والشورى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [سورة آل عمران: الآية 159]. وترتيبها بديع، لأنها قدمت المعاني الخُلُقية من رحمة وعفو ومغفرة لتصل إلى الشورى، ذلك أن الشورى تحتاج كل هذه الأخلاق لكي تتم وتستمر على الوجه الأكمل، فالشورى تؤدي أحيانا إلى أخطاء تستوجب العفو والمغفرة، وتخرج أحيانا عن مقتضيات الرقة واللين لا سيما عندما ترتفع لأصوات ويحتدم النقاش وتتباين الآراء، وذلك يستلزم الرحمة واللين.

إذن أمر النبي صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل أن يشاور الناس بعد أحد. مع أن نتيجة الشورى في أحد تحديداً لم تكن أفضل الخيارات الممكنة، ولكنها كمنهج في القيادة عموما هي أفضل المناهج وأكثرها نفعا وفائدة.

القائد يُربي «جيلًا من القادة» لا الأتباع!

 ويسأل سائل : النبي صلى الله عليه وسلم أذكى الخلق ولديه الوحي فلماذا يستشير؟

 والحقيقة أن الشورى دائماً في المسائل التي تهم المجتمع لها مجموعة من الأهداف أحدها أنك تصل للقرار السليم بأخذك لكل وجهات النظر. 

عندما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق جاءت فكرة سلمان رضي الله عنه في أن يحفر خندقاً، ولم تكن الفكرة موجودة عند العرب سابقاً، فلم يقل قائل هذا شيء لم نعهده ولا نعرفه، وفيه مخاطرة كبيرة، ثم إن سلمان لم يكن من علية القوم، ولا من زعماء البطون والقبائل، بل كان عبدا حرره المسلمون، فلم يقل قائل : من هذا المولى الضعيف ليتقدم في الرأي على أهل النسب والسيادة والتجربة؟ لقد تقدم سلمان بالفكرة الجديدة لينقذ بذلك المدينة من هزيمة محققة، فتلقف المسلمون فكرته هذه من دون حرج، ونفذوها بالفعل، وهذه نتيجة للشورى في أجمل وأبدع تجلياتها، فإن كانت أحد قد جاءت بقرار شوري خاطيء، فإن الشورى في الخندق أنقذت المسلمين من خطر أكبر.

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي جيلاً من القادة المبادرين والمبدعين، وليس الأتباع، لم يكن يريد رعيّةً تنظر إليه بأنه مصدر كل شيء وهم لا رأي لهم إلا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، بل كان يحرص على أن يشاركهم الرأي ويستمع لهم حقا وفعلا، لكي يصلوا إلى أفضل ما يمكن أن يصل إليه المجتمع المسلم في مثل هذه الحالات، لذلك تمرس الصحابة على المسؤولية والقيادة منذ بداية الكيان الإسلامي في المدينة، ورسخ في وجدان كل واحد منهم أن رأيه مهم، وأن دوره محفوظ، فهو شريك فعلي في الشأن العام، وليس مجرد تابع يؤمر فيطيع من دون وعي ولا سديد نظر. 

 ثم أن هناك معنى آخر زرعته الشورى في النفوس، وهو الحرية، إذ لم يجد الصحابة حرجا في أنفسهم أن يعبروا عما يجول في خاطرهم، بل رأوا ذلك واجبا يقتضيه انتماؤهم للأمة المسلمة، فأزالت الشورى عنهم السلبية والانزواء وأذهبت عنهم الخوف والانكفاء، فها هم يبادرون بالتعبير عن آرائهم، وكانت في كثير من الأحيان ذات طبيعةٍ إستراتيجيةٍ مهمة، مثل إختيار موقع معسكر بدر، وموقع إقامة الجيوش المسلمة في خيبر، وغيرها من الأشياء التي بادر المسلمون الشباب مثل "حُباب بن المنذر" وغيره في إبداء الرأي تطوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون يا رسول الله هذا ليس بالمقام الذي ينبغي أن نُقيمَ فيه عسكرياً، والأفضل أن نتأخر نحو الخلف أو نذهب للمكان الفلاني. إذاً فقد دربهم على المبادرة وحرية المنطق. 

هل شاور الرسول أصحابه في «الحديبية»؟  

        يحتج كثير من الناس بقصة الحديبية فيقولون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاور أصحابه فيها، ورأينا كيف أن عمر رضي الله عنه غضب غضباً شديداً ولم يكن يريد أن تتم هذه الاتفاقية ، والحادثة التي نعرفها جميعاً في الحديبية، وأنا أقول أن هذا ليس صحيحاً.

  استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في كل المواقع، وهذا موجود في كتب السيرة ولا شك فيه، لكن كيف تمت الشورى في الحديبية؟  

النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير بأصحابه متجهين إلى مكة، خرج إليهم خالد بن الوليد في منطقة عُسفان فاجتمع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه واستشارهم، وقال لهم أن هؤلاء قد خرجوا لقتالهم ونحن كُنا ذاهبين للحرم فماذا تقولون؟ فوقف أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله نحن الآن ذاهبين إلى الحرم، لا نريد أن نقاتل ولكن إن هم بادروا بالقتال ندافع عن أنفسنا. 

فأقرّ الصحابة ذلك، إذاً التفويض للنبي صلى الله عليه وسلم من مجموع أصحابه في الحديبية كان أننا لا نبادر القوم بقتال لكن في حال الدفاع عن النفس نفعل. ولذلك تفادى الرسول صلى الله عليه وسلم من عُسفان أن يلتقي بخالد والذي كان وقتها زعيماً لسرية أرسلتها قريش لمواجهة النبي صلى الله عليه وسلم، واختار طريقاً آخر خارج إطار المواجهة المباشرة مع خالد حتى وصل إلى الحديبية.

 إذاً كان واضحاً عند الصحابة أن هذه الرحلة لم تكن رحلة قتال، وهذا متفق ومتشاور عليه، فالذين يقولون أن النبي لم يشاور في الحديبية، فهو شاور فيها مسبقا قبل الوصول إلى الحديبية، وفي هذه الشورى صدر القرار أن هذه الرحلة ليست للقتال، وأنها ليست غزوة تقليدية كبدر وأحد والخندق وهو تفويض منح للنبي صلى الله عليه وسلم.

 إذاً بعد أن قرروا عدم القتال ومنعتهم قريش فما الحل؟

 النبي صلى الله عليه وسلم أول من اقترح الهدنة على قريش، وقال لبديل بن ورقاء الخزاعي: لو أنهم مدوا بيننا وبينهم مُدّة! (أي هدنة)، ويأتي من يقول: حسناً لماذا لم يشاورهم النبي في الهدنة؟

كان معلوما لدى عموم المسلمين أن الهدنة هي التي سوف يسعون لتحقيقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم طوال الطريق يتكلم عن أنهم-أي قريش- إن دعوه إلى أمر رشد فإنه سوف يوافق، وكان هذا رأي المسلمين الغالب، وعندما وصل الحديبية وعسكر فيها إلتقى بُديل بن ورقاء وقال هذا الكلام على مسمع من المسلمين، ثم أعاده على عروة بن مسعود الثقفي، ولم نسمع أن أحدا من الصحابة اعترض أو احتج على مبدأ الهدنة بتاتا.  

ثانيا: انتبه أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان عندما إلتقى ألف وأربعمائة من أصحابه وبايعوه تحت الشجرة، ما البيعة التي تمت؟ قال بعض رواة السير أنها كانت بيعة حرب، بأنه إن حارب فسيحاربون معه، لكن إن دققت في النصوص تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بويِع، بويعَ على بيعة الحرب ولكن قال لهم "وعلى ما في نفسي" قالوا له "ونبايعك على ما في نفسك" وتمت البيعة على هذا النص، إذن أعطي تفويضا عاما: إن كانت هناك حرب فسوف يقاتلون معه، ولكن إن مضى اقتراح الهدنة وقبلت به قريش فهم أيضا يفوضونه بإتمام الأمر وإبرامه، إذن المقصود بقوله "بايعوني على ما في نفسي" أي أعطوني تفويضاً تاماً إن حورِبنا نحارب، وإلا فالذي أراه مناسباً سوف أقوم به، فالتفويض الثاني تحت الشجرة في بيعة الرضوان هو إطلاقٌ تام للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يتصرف بالشأن الذي يراه مناسباً نيابةً عن المسلمين جميعاً، وقد حدث ذلك.

ثالثًا، عندما إلتقى النبي والصحابة مع "سهيل بن عَمر" و"مكرز بن حفص" و"حويط بن عبد العزى" – وثلاثتهم جاءوا من قريش لمفاوضة النبي- وبدأ النقاش، لم يكن الإختلاف على مبدأ لقاء قريش للوصول إلى هدنة، ولم نجد من أصحاب رسول الله بما فيهم عمر رضي الله عنه من إحتجَ على مبدأ اللقاء، أو التفاوض في الخيمة مع العدو، ولكن الخلاف حدث على شكل ومناخ اللقاء وتفاصيله.

 بمعنى أنهم عندما أرادوا الكتابة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" قال سهيل ما ندري من هو الرحمن الرحيم فنحن نكتب "باسمك اللهم" فقال النبي لعلي أن يكتب "باسمك اللهم" والصحابة لم يعتادوا على فظاظة "سهيل بن عمر" و "حويطب" و"مكرز بن حفص"، فغضبوا لأسلوبهم البذيء، لا سيما وأن الصحابة لم يعرفوا في السنوات الست الماضية أسلوبا آخر في التعامل مع هؤلاء إلا في ساحات القتال، فقد التقوا بهم في ميدان المعركة وقاتلوهم، وقد فعلوا ذلك قبلاً في ثلاث معارك رئيسية، والآن وقد ضعف شأن قريش وانكسرت شوكتها، يريدون أن يفرضوا صياغات تعتبر بالنسبة للمسلمين مُسَلّمٌ بها، إنه حقا شيء يدعو للغضب.   

لكن النبي القائد بحنكته وسعة أفقه، لم ينسق وراء العواطف، بل كان تركيزه على الهدف الإستراتيجي الجوهري، فلم يرّ الرسول صلى الله عليه أن هذه الإشكالية الشكلية يمكن أن تطعن في جوهر ما يريد تحقيقه، وهو الوصول إلى هدنة تفتح الآفاق للإسلام في جزيرة العرب، وبسب ذلك قال لعلي اكتب فاحتج بعضهم . 

 وفي مرحلة لاحقة ، عندما قال "هذا ما عاهد عليه محمدٌ رسول الله" فرفض سهيل قائلاً: لو كنا نقول أنك رسول الله ما جئنا لنناقشك" فتكتب "هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله" فالنبي قال اكتب يا علي، فغضب الصحابة بمن فيهم عمر رضي الله عنه وقالوا كيف؟ ألست برسول الله! 

لكن القضية هي أنه محمد رسول الله وأيضاً هو محمد بن عبد الله، وهذه إشكالية شكلية أخرى ليست جوهرية، ولم ير النبي خلافاً في الخيمة على بنود الهدنة من حيث جوهرها، وإنما من حيث أشكالها والنصوص التي وضعت عليها. 

أبو جندل وانفجار المشاعر

لكن على سبيل المثال لم يحتجّ أحدٌ على بقية بنود الهدنة، مثل وقف القتال عشر سنين، وما احتج أحدٌ على أن من دخل في حلف محمد وعهده فله ذلك، ومن دخل في قريش وعهدها فله ذلك، ما احتج أحدٌ على أنه من جاءكم منّا رددتموه ومن جاءنا منكم رددناه! فالقضية أن الخلاف احتدم عاطفياً وإنفعالياً عند حادثة "أبوجندل".

 وانظر إليها من هذا الباب: أنت تجلس في خيمة تفاوض هؤلاء المشركين الأفظاظ على الوصول إلى هدنة، ثم يأتي رجل مسلم مظلوم هاربا من بطش قريش ، هو "أبو جندل بن سهيل بن عمر" ابن سهيل بن عمرو، رئيس وفد التفاوض القرشي، ويقول أبو جندل الذي يرفس بقيوده أنه كان في السجن منذ سنوات، وها قد أنجاه الله من المشركين، وجاء إلى إخوانه المسلمين.

لكن سهيل بن عمرو يحتج مطالبا بإعادة ابنه إلى مكة، ذلك أن الاتفاق قد وقع مع المسلمين على عودة من جاء من مكة إلى المسلمين، وها قد جاءت اللحظة التي يُختبر فيها الاتفاق، وإن لم ينفذ هذا البند الآن فإن الاتفاق لاغ.

 ويقول النبي صلى الله عليه وسلم صحيح أننا اتفقنا لكن الكتاب لم يكتب بعد، فيصر سهيل بأن الاتفاق وقع، والكتاب أمر شكلي… ويحتدم الجدل.  

              تم تعليق التفاوض بالفعل، وخرج الناس من الخيمة، وبدأ نقاش وجدل واسع بين المسلمين في أمر أبي جندل، وهو أمر ذو طبيعة عاطفية عالية المستوى، فكيف تتم إعادة رجل يشهد أن لا إله إلا الله قد فرّ من السجن بسبب إيمانه !  

كان النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً، وراجع "سهيل بن عمر" مرات كثيرة في أمر أبي جندل، لكن سهيلا أصر على موقفه، ولوهلة كان اتفاق الحديبية على وشك أن ينهار تماما، إلا أن حلا توفيقيا قد جاء من جانب وفد قريش، والحل الذي قدمه "مكرز" و "حويطب" يقضي بأن يجيرا "أبا جندل" ، فيدخل مكة في جوارهما وتحت حمايتهما، فلا يدخل السجن، وكان في ذلك ما يمكن أن ينقذ الاتفاق ويحقق شيئا من الانتصار الرمزي للمسلمين، صحيح أنه ليس انتصارا كاملا، لكنه أفضل من عودة أبي جندل سجينا، عندها تم الإتفاق، وعاد "أبوجندل" بشروط إقامة مخففة.

 وقبل أن يعود أبو جندل، تحدث إليه النبي وأوعز إليه بفكرة ضمنية ستكون سببا في تحريره وتحرير كل المسلمين في مكة، فقال : يا "أبا جندل" إن الله سيجعل لك ولإخوانك مخرجاً! فهنا أشار إليه بأنه يمكنه هو وغيره من المسلمين المضطهدين في مكة بخطوة ومبادرة تكسر الحصار المكي، وهو الذي حدث عندما التقط "أبو جندل" الفكرة فهرب إلى ساحل البحر الأحمر، وانضم إليه عدد من الشباب الهاربين من قريش، وبدأوا يعترضون قوافل قريش، ولجأت قريش إلى النبي تشتكي ذلك، وتطلب هي بنفسها إسقاط هذا البند، فيعود "أبو جندل" وأصحابه إلى المدينة. 

فالقائد محمد عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه في القضايا ذات الطبيعة الإستراتيجية، ثم يتصرف هو بالقضايا ذات الطبيعة التنفيذية التي لا ينبغي أن يرجع في تفاصيلها للناس جميعاً، وأيضاً هناك جوانب ذات طبيعة سريّة في بعض الأحيان لا ينبغي إلا أن يستشير فيها أشخاصا محددين حتى لا تتسع الدائرة.

«العدل والحرية».. روحٌ جديدة لجيل ينتصر!  

      المسألة الثانية في موضوع القيادة هي حادثة جميلة ذكرتها مرات، وأريد أن أُذَكِر بها مرة أخرى، استخدم النبي صلى الله عليه وسلم في بدر أسلوباً تراه قريش أول مرة في القتال، وهو أسلوب الصفوف، فقتال العرب كان أن الأبطال يتبارزون أولاً، ثم تشتبك المجموعتان، والذي يهرب أولاً هو الذي يخسر المعركة، وفي أغلب الأحيان لم يكن الشخص الهارب يُتبَع، فحروب العرب لم تكن حروب إستئصال، فمثلاً عندما تنظر لحروب الروم والفرس فقد كانت بشعة تعج بآلاف القتلى، لكن حروب العرب كانت مناوشات تستمر فترة قصيرة وبهروب طرف معين تنتهي المعركة ويُعلن الانتصار، بينما ينسحب المهزوم. 

 فمثلاً حرب الفجار قبل الإسلام استمرت عشر سنين بين القبائل فكم قُتل فيها؟ مجموعة بسيطة جداً بين اثنين وأربعة ، وذلك لأن القتل عند العرب مشكلة كبرى، فهو يستدعي الثأر والدماء وليس من نفسية العربي أن يُسرف في الدماء، وإنما كان المطلوب أن تقيم لنفسك مكانةً بين القبائل والناس من خلال تسوية حساباتك مع الآخرين، ولم يكن الأصل في القتال الإستئصال، فهذا لم نعرفه في ثقافتنا العربية حتى في قديم الزمان، لم يكن الإستئصال هو الأساس وحرب داحس والغبراء كان فيها استثناءات مذمومة بأعراف ذلك الزمن نفسه. 

 العرب لم يكونوا يميلون لسفك الدماء حتى لا يحدث إضطراب في السلم القبلي، لأن العربي لا ينسى دم ابن قبيلته إن قُتِل، ولابد له أن يثأر حتى ولو بعد أجيالٍ من الزمان. 

في حادثة بدر صفّ صلى الله عليه وسلم الصفوف وبدأ يصحح بها وكان معه عصا -والعصا إن كانت قصيرة تسمى القدح وإن كانت طويلة تسمى المخصرة- فكان عنده مخصرة يتكئ عليها وعنده أيضاً قدح يحملها معه ويسوي الصفوف -مثل التي يحملها القادة العسكريون الآن - وكان هناك صحابي اسمه "سواد بن غزية، وهو أنصاري من الخزرج- من أخوال جد النبي صلى الله عليه وسلم- ولم يكن من سادة الأنصار بل من عامتهم.

  فوقف سواد أمام الصف غير ملتزم به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقدح وردّه به من بطنه آمراً اياه بالإستواء في الصف، فقال "سواد" يا رسول الله لقد أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل فأريد أن أقتصّ منك!" 

 تخيل المشهد!

الآن نحن على وشك المواجهة العسكرية، والنبي يريد أن يصف الصفوف في اللحظات الآخيرة، والناس ينظرون للعدو من أمامهم ويستعدون للقتال، هذه معركة وحالة جديّة، وهذا قائد يتعامل مع الجند بتطبيق النظام، والجندي "سواد" يقول للقائد: أريد القصاص منك! فماذا يقول القائد؟

 لو حدث هذا في جيوشنا اليوم لأُخذ الجندي وحبس، لأن دور القائد هو تقويم الصف، ولأن الجندية تقوم على الانضباط الكامل.

ثم أنظر أيضاً إلى موقف بقية أصحاب النبي ممن يسمعون ويرون الحادثة، لم يهبوا للاعتداء على سواد أو قمعه وإسكاته، ولم يتدخلوا في الأمر، الجميع سكت، والنبي عليه الصلاة والسلام يرد بالموافقة، لأن مقتضيات العدل ينبغي أن تتحقق في كل زمن، ويكشف عن بطنه ويقول له اقتد مني!، فيكب سواد على النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بطنه، فيقول له النبي يا سواد ما دعاك لهذا؟ قال: "يا رسول الله قد حضر ما ترى من أمر المعركة، وأخشى أن ألقى ربي فيها فأردت أن يكون آخر العهد بالدنيا أن يمسّ جلدي جلدك!" 

نحن نروي هذه القصة عادة في سياق حب أصحاب النبي له، وحسن خلق النبي ، لكن انتبه، هذه الحادثة لا تدل فقط على حب الصحابة لرسول الله، ولكن تدل على طبيعة التربية التي تربى عليها أصحاب رسول الله، فقد تربوا على مبدأين هما (العدل والحرية ) حتى مع القائد النبي، والدليل على ذلك أنهم لم يستهجنوا طلب سواد، ولم ينهروه، ويقولوا له لا يحق لك أن تقول ما تقول لرسول الله، بل الجميع سكت لأن الذي طلبه "سواد" هو ممارسة عملية للتعليمات النبوية التي زرعت فيهم العدل. 

ثانياً، تدل أيضاً على الحرية، فكيف لرجلٍ أن يقول لقائده هذا؟ لأن المشهد لو انتهى قبل تقبيله لرسول الله لقلت أن هناك شيئين قد حصلا هما أنه طالب بالعدل وقد حصل عليه، وثانياً أنه كان حراً ورأى الناس ذلك شيئاً طبيعياً. 

لذلك أريد أن أقول أن نجاح الفريق المؤسس الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم كان في إيمانه العميق بالعدل و الحرية، وهذان العنصران بالإضافة إلى الشورى التي علم أصحابه أن يكونوا شركاء في الأمر، جعلت منهم أُناساً يتغلبون على قبائل أكبر عدداً، وأكثر نفوذاً وتأثيراً.

   هناك روحًا جديدة اندفعت في دواخلهم ثم تشكلت على شكل عزيمة لا يستطيعُ أحدٌ من المشركين الذين لا يزالون يعيشون في عالم التقليد والطبقية والسؤدد والتفاخر بالأحساب والأنساب أن يفهموها فانهزموا أمام جيل شاب يحمل معاني الحرية والعدل والمسؤولية.

النبي وجهاً لوجه مع «عِقْد خديجة»  

تتعلق القصتان التاليتان بالحياة الشخصية للنبي -النبي الإنسان-.

 كان في حياته الشخصية انسانا طبيعيا؛ يغضب من أزواجه أحياناً، ويرضى عليهنّ أحياناً أخرى، يحبُ أنواعاً من الطعام واللباس ولا يحب أنواعاً أخرى، وهذا شئ طبيعي عند النبي صلى الله عليه وسلم، وضرورة ذلك أنه بالنسبة لنا قدوة وأُسوة، فكيف نقتدي بشخص إن لم يشترك معنا في النوازع السيكولوجية للإنسان الطبيعي؟!  

لو كانت كل شؤون النبي الشخصية بتسيير من الوحي فلن يستطيع الواحد منا أن يتخذه أُسوة، لأننا سنقول: رجل سدده الوحي، ولكننا نتخذه أُسوة عندما نعلم أنه بشر مثلنا، كان يصيبه الفرح أحيانا و الحزن أحياناً، يرضى ويغضب، يحب ويكره، وكل ذلك تأكيدٌ على بشريته، وأنه إنسانٌ عادي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتعامل مع الناس.

قصة حب في بيت النبوة

حادثة مؤثرة ، هي قصةُ حب بين ابنته زينب وزوجها "أبي العاص بن الربيع" وهي قصة غريبة وجميلة وبديعة وتنُم عن شخصية إنسانية راقية للنبي صلى الله عليه وسلم ، كانت قد سبقت الثقافة القُرَشية والعربية التقليدية في جزيرة العرب .

 إبنة النبي الكُبرى زينب - من خديجة رضي الله عنها التي ولدت له جميع أبنائه إلا إبراهيم الذي ولد من ماريا- وزينب أكبر بناته عليه الصلاة والسلام، وخطبها "أبو العاص بن الربيع" وهو ابن خالتها هالة، فكان وهو صغير يدخل بيت النبي عليه الصلاة والسلام عند خالته خديجة فعرف زينب، فلما كبر وكبرت جاء وطلب يدها من النبي عليه الصلاة والسلام، وكان هذا قبل البعثة، فقال النبي حتى أستأمرها! أي لن أعطيك جوابا حتى أعرف رأيها .

 فدخل على زينب وأخبرها أن ابن خالتها جاء يطلب يدها فلما رآها تبسمت علم أنها موافقة، فخرج النبي ووافق، وتزوجت زينب أبا العاص، وعاشا في بيت حب ومودة، ورزقا بولد وبنت هما علي وأميمة، ثم نزلت الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت زينب مع خديجة وبقية آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبرت زينب زوجها بأنها أسلمت، لكنه رفض أن يسلم معها ويفارق دين قومه، ولم يعترض على إسلامها، وهو من بني عبد شمس وأمه كما قلنا هي هالة بنت خويلد من بني أسد، لكنه كان يحب زينب وهي تحبه، وهو زوجها ووالد أبنائها فجاءت للنبي وقالت له هذا الذي حدث، واستأذنت أن تبقى معه فأذِنَ لها النبي وبقيت مع أبي العاص، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهي بقيت بمكة مع أبي العاص، حتى جاءت معركة بدر. 

تخيل الحالة النفسية للسيدة زينب رضي الله عنها عندما يخرج زوجها أبو العاص في جيش قريش لقتال والدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم! في الحقيقة الأمر كان صعب عليها وعلى أبي العاص أيضا، فهو كان يحبها ولم يكن رجلاً سيئاً في ذاته وطبعه ولكن كانت نقطة ضعفه أنه لا يريد أن يُرى أو يقال أنه يتبع أصهاره.

على كل حال الذي حدث بعد ذلك أنه وقع في الأسر مع من أُسِر من الكفار والمشركين في معركة بدر، وجيء به ضمن الأسرى، وهنا عرض النبي صلى الله عليه وسلم الفداء للأسرى، فبعثت زينب رضي الله عنها مع أخ لأبي العاص بالفدية. والفدية تكون مالا ، يدفع المبلغ المطلوب ويتم فك الأسير، وتذهب الأموال للذي أسر الرجل، فجيء بفدية زينب ملفوفة بقطعة من القماش، ووُضِعَت أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقال حاملها لقد أتيتك يا محمد بفدية أبي العاص، ولما فتحوها وجدوا بداخلها قلادةٌ! فعرفها النبي على الفور، إنها قلادة خديجة، أهدتها لابنتها زينب يوم زواجها من أبي العاص! 

حساسية الموقف وعاطفية المشهد مذهلة، النبي كان يحب خديجة حُباً جمّاً، ولا نعرف أنه أحب أحداً مثلها رضي الله عنها، ولم يتزوج إلا بعدما توفيَت، وكان يذكرها دائماً، مما أزعج بعض نساءه اللواتي كن يغرن منها.

الآن النبي صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه مع عقد خديجة الذي أهدته لإبنتها زينب في يوم زواجها من أبي العاص، وكأن زينب تقول للنبي عليه السلام كما أنك أحببت زوجك خديجة، أمي رضي الله عنها، فاليوم أنا أيضاً أحب زوجي ومستعدة أن أتبرع بأغلى ما لدي لأُطلق سراحه!

 فالنبي صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه عندما نظر للعقد وقال هذا عِقدُ خديجة، هنا فهم الصحابة حساسية الموقف بالنسبة للنبي تجاه الأمر، وسكت برهة، ثم قال لهم إن أردتم فهذا حقكم - فهو أسير للدولة، وليس من حق النبي أن يطلقه من دون إذن المسلمين، فقد كان حريصاً على العدل التام لذلك لا يأخذ من الدولة ما ليس له بحق، وهذا الأسير للجيش والذين أسروه هم من ينبغي لهم أن يفكوا قيده - وقال إن أردتم أن تطلقوا سراحه وتردوا عليها قلادتها فافعلوا، فقالوا طبعاً سنطلق سراحه. 

لما أُطلق سراح أبي العاص قال له النبي أُريد أن أحدثك، فانتحى به جانباً وقال: "يا أبا العاص إني قد أُمرت أن أُفرق بين المسلمات والمشركين فإن رأيت فأرسل إليّ بزينب، وقل لها ألا تفرط بعقد خديجة" قال: سأفعل، وفعلاً هذا الذي حدث بعد عودته لمكة أمر زينب بأن تتجهز ثم ذهبت مع أخيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل رجلين ليصطحباها، الأول هو زيد بن الحارثة –وهو من آل النبي، فسابقاً كان يقال له زيد بن محمد فهو أقرب الناس له ولآله- ومعه رجلٌ من الأنصار والثالث كان أخ أبو العاص بن الربيع، فلما خرج بها على جمل عرفته قريش، وكانت متأذية من بدر لأنهم قتلوا فيها، فلما رأوا أن بنت محمد ستخرج لمحمد، لحق بها إثنين من السفهاء وأسقطها من على الجمل، ويقال أنها كانت حامل فأسقطت ومرضت ثم عادت مرة ثانية إلى مكة.

  وهنا تدخل أبو سفيان لأنه زعيم بني عبد شمس، على الرغم من أن ابنه كان قد قُتل في بدر، وقتل أعمامه الإثنان: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، لكن أخلاق العرب حتى في الجاهلية كانت أسمى من أن تتعرض للنساء حتى وإن كانت ابنة محمد، فأعادها مرة ثانية تحت حمايته حتى هدأ الناس.

مُسلمة في «مجتمعٍ حُر»

 ثم تحركت زينب رضي الله عنها في أحد الليالي والتحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هي وابنتها أميمة وإبنها علي، وكان الإسلام قد فرق بينها وبين زوجها، فجاء من يخطبها بعد إنتهاء عدتها ولكنها أبت واستمرت على هذا الحال حتى العام السادس للهجرة –أي بعد أربع سنين - وفي العالم السادس حدثت حادثة عجيبة وهي أن أبا العاص بن الربيع كانت لديه قافلة باتجاه الشام تم السيطرة عليها من أحد سرايا المسلمين وصودرت، وأُسِرَ من فيها فهرب أبو العاص بن الربيع إلى المدينة، وذهب إلى زوجته السابقة زينب وقال لها بأني قد هربت وأريد منك أن تجيريني، فقالت له أهلا وسهلا بك على الرحب والسعة فأنت والد أبنائي.

وبعدما أنهى المسلمون صلاة الفجر ذلك الصباح، وقفت زينب بعد أن سلّم وصاحت وقالت:"يا معشر المسلمين أعلموا أني قد أجرتُ أبي العاص بن الربيع" وفوجئ صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعرف بالأمر قبل تلك اللحظة، فنظر إلى أصحابه بعدما عرف صوتها فقال: "هل سمعتم ما سمعت؟" قالوا: نعم سمعنا، قال: "والله لا علم لي بهذا" ، لكن طالما أنها قد طلبت الجوار والمسلمون يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، سواء كانت زينب أو غيرها فكل إنسان بإمكانه أن يجير، وبما أنها أجارته فقد قبل النبي جوارها.

وعادت إلى البيت ولحق بها النبي عليه الصلاة والسلام وقال لها أكرمي مثواه، مثوى أبي أولادك وابن خالتك، ولكن أعلمي أنه لا يجوز لك - بمعنى لا يجوز له أن يختلي بك لأنه ليس زوجك- وفعلاً هذا ما حدث فقد مكث أياماً و ردّ النبي إليه أمواله ثم عاد بعد ذلك إلى قريش، فسدد ديونه التي للناس عليه من القافلة ووقف عند الكعبة وقال: يا معشر قريش هل بقي لأحدٍ منكم علىّ دين؟ قالوا: لا. فقال: أعلموا أني قد أسلمت وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله ما أردتُ أن أُسلم حتى لا تقولوا أسلم ليأخذ أموالنا. ثم عاد مسلماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أريدك أن تردني إلى زينب. وقد حدث ذلك إذ أخذه النبي بيده إلى زينب ففرحت فرحاً عظيماً وإلتمّ شملهما، ولكن للأسف الشديد توفيت رضي الله عنها بعد عامٍ من هذه الواقعة وحزن عليها أبو العاص حزناً شديداً، وحزن عليها النبي والمسلمون جميعاً، لكن حزن أبي العاص لم يكن طبيعياً لدرجة أن النبي حاول عدة مرات أن يهدئ من روعهِ، فكان يبكي بإستمرار ويقول والله يا رسول الله لا تطيبُ ليَ الحياة بعدها، وبقي على حالهِ عاماً، ثم توفي هو أيضاً رحمهُ الله تعالى ورضي عنه.

        وهذه القصةٌ من أجمل القصص تعطيك في تفاصيلها أمرا في غاية الأهمية، وهو أن هذا النبي قائد المسلمين لم تأت إبنته إليه لأنه رسول الله، بل فهمت أن من حقها كمسلمة في مجتمعٍ حُر والقواعد فيه معروفة، أن تأتي للمسجد وتجير رجلاً، ثم إنّ حبها لأبي العاص لم يكن سرّاً ولكنه كان ملتزماً بضوابط الشرع والدين، ثم صبرت حتى أسلم وعاد إليها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتدحهُ حتى عندما جاءت إلى المسجد وتحدثت مع أصحابه ، فقال لها أمامهم والله ما علمتُ عنه كصهر إلا خيراً، كإنسان لا مشكلة فيه، ولكن المشكلة أنه تبع قومه، فلما أسلم عاد إليها مرةً ثانية.

كيف واجه النبي «حلفَ نساءِه»؟ 

      إشارةٌ أخرى مهمة في حياته الشخصية سأختم بها، تتمثل في كيفية التعامل مع الزوجة. فالحياة الزوجية عادةً لا تكون مليئة بكل صنوف المودة والمحبة والحياة الهانئة السعيدة على الدوام، فالأزواج جميعاً رجالاً ونساءً يمرون بحالات كتلك التي مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الشخصية.

فكان عليه الصلاة والسلام يغضب أحيانا من بعض أزواجه، كن يغَرن و يقُمنَ بأفعال لا تسر النبي، لكنه يتفهم ويصبر عليهن، ولا يسارع إلى هجرهن في حال إن غضبت إحداهُنّ، وقامت بتصرُّف لا يعجبه ، لكن عندما وصل الأمر في السنة التاسعة أن إجتمعت نساءه التسعة حوله وقُلن له نريد أن توسع علينا في النفقة، كان له تصرف شديد الحزم!

دعونا نفهم القصة في سياقها، نحن الآن في السنة التاسعة بعد تبوك، وفتوح الإسلام في الجزيرة إكتملت، وعوائد خيبر على المدينة المنورة كانت ضخمة، والنبي له الحق في الخُمس، وحياة المسلمين تطورت بعد أن كانوا جميعاً في حالة من الضيق.

 أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لديهم الآن البيوت والمزارع، عبد الرحمن بنى بيتاً جميلاً وكبيراً، وكذلك عثمان وغيرهما، لكن النبي آثر حياة الزهد، وحافظ على الحجرات ذوات المساحات الصغيرة، ولم يكن يصرف من الخُمس على آل بيته إلا ما هو ضروري لإبقاء الإنسان في الحد الأدنى من الحياة الكريمة، دون أي نوع من الإسراف، أو التبذير، أو الشعور بأنه من طبقة تختلف عن عامة المسلمين.

وكانت هذه سيرة النبي في خاصة بيته، ولم يفرض التقشف على كبار صحابته، فقد كان عثمان رضي الله عنه - وهو صهر النبي صلى الله عليه وسلم، تزوج ابنتين من بناته وكان من أثرياء المسلمين- لم يطلب منه النبي التخلي عن رغد العيش، وعبد الرحمن بن عوف كان غنياً ولم يقل له النبي أن عليه أن يصبح فقيراً، ولم يتدخل في هذا الأمر، بل حثّهم على إمتلاك أدوات الإنتاج والتجارة ، من دون إسراف ولا تبذير.

 لكن بالنسبة للنبي فهو في وضع مختلف، فهو قدوة، ولا يصح أن يترفع إقتصادياً ومادياً على الطبقة العامة التي ينتمي لها غالب المسلمين، وإلا فكيف يكون أُسوةً لهم؟ وتقتضي هذه الأسوة أن يكون مستواه الحياتي ليس بعيداً عن مستوى عامة الناس.

 فلما جاءت النساء التسع –أمهات المؤمنين- وطالبنَ بمستوى أعلى من العيش فهن يذلك يدفعن النبي خارج الحدود التي تقتضيها وظيفته النبوية، وهذا لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، صحيح أن لديه الخمس، لكنه خمس الدولة، يأخذ منه ما يكفيه لكن لا يأخذ منه ليصبح ثريا، ويعيش بموازاة أغنياء المسلمين، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة وهو غضب مبرر.

  فهنّ الآن يطلبن شيئاً يضر بطبيعة رسالته وهذه طبيعة النبي التي عُجن وفُطِرَ عليها ولا ينبغي له أن يساير النساء في هذا، وقد سايرهن في أشياء كثيرة لا تضر بجوهر مكانته كنبيٍ في أوساط المسلمين.

ولهذا هجرَ النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته شهراً، أقسم أن لن يأتيهنَ. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشربية أو مشربة –وهي عبارة عن حجرة صغيرة غالباً تكون في طابق ثاني أو مرتفعة عن الأرض، وعادة تستخدم كمخزن للحبوب والأشياء التي تحتاج التخزين- فأخذ النبي حصيراً وذهب لهذه المشربة وبدأ ينام فيها، يذهب للمسجد يصلي بالناس ثم يعود إليها، ويجلس معظم وقته فيها خاصة في الأيام الأولى.

 ضجّ خبرٌ في المدينة أن الرسول طلّق زوجاته، مما أصاب المسلمين بالغم، وأكثر من اغتم كان عمر و أبو بكر رضي الله عنهما، فأبو بكر والد عائشة وعمر والد حفصة، والوقائع بالمناسبة تدل أن عائشة وحفصة تحديداً كانتا اللتان حرّضتا النساء الأخريات، فكان لديهما حلف وكانتا متفاهمتان مع بعضهما، ويقال أن معهما أم سلمة وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم التي تزوجها في المدينة بعد أن توفي زوجها، وكان لديها أربعة أبناء وكانت من أجمل النساء لدرجة أن عائشة وحفصة في البداية غارتا منها كثيراً، وتوجد قصص في هذا لكن يبدو أنهن في النهاية إتفقن وشكلنّ ما يشبه الحلف.

 واجتمعت كل النساء حولهن وذهبن للنبي كحلف مشترك، ولم تذكر واقعة من قبل إتفقن فيها جميعاً، فغالباً يكون هناك غيرة ولكن في هذا الموقف إتفقن، وهذا ما أغضب النبي، لأنهن طالبن بشيء لا يقدِره ولا يستطيعه، ليس لأنه لا يستطيع الحصول على المال، ولكن لا يستطيعه لأنه يتعارض مع كونه نبيٌ لعموم المسلمين.

 فجاء عمر رضي الله عنه إلى عائشة وقال يا عائشة أبلغَ منك أن تغضبي رسول الله؟ - فقد كان شديدًا ولا يتهاون في حب النبي صلى الله عليه وسلم وقد استاء في هذه الواقعة، فقالت عائشة: "يا ابن الخطاب اذهب عني" فذهب، ثم ذهب لأم سلمة، وأم سلمة هي هند بنت حذيفة ابن المغيرة من بني المخزوم ، ووالدة عمر رضي الله عنه هي حنتمة أخت المغيرة، يعني عملياً أم سلمة هي بنت خال عمر، وعمها كان الوليد بن المغيرة سيد قريش الكافر، وابن عمها كان أبو جهل، لأن أخوال عمر رضي الله عنه كانوا من بني مخزوم فأم سلمة مخزومية وبنو مخزوم كما نعلم كانوا يرون أنفسهم القبيلة القائدة في زمن ما بعد البعثة، على كل حال، ذهب عمر لإبنة خاله وقال يا أم سلمة طلقكن رسول الله فما السبب؟ وكانت أم سلمة أشد النساء قسوةً عليه، فقالت "يا عمر لقد دخلت في كل شيء، والآن تريد أن تدخل بين رسول الله وأزواجه؟" فخرج عنها ذاهباً لإبنته حفصة وكان غاضباً جداً وسألها عن سبب الطلاق؟ وعن تحذيره لها أن لا تُغضب النبي فبكت.

ثم ذهب بنفسه للنبي صلى الله عليه وسلم في المشربة، وكان النبي معتزلاً فأصرّ عمرعلى مقابلة النبي من خلال عدة نداءات عبر خادم النبي، وكان اسمه رباح، فقال: يا رباح استأذن لي على رسول الله . ولم يتحرك رباح لتعليمات من النبي بعدم السماح لأحد، فرفع عمر صوته وقال أخبر رسول الله بأنني أريد أن ألقاه، "ووالله ما جئت من أجل حفصة، ووالله لو أمرني رسول الله أن أضرب عنقها لفعلت".

 فطلب النبي من رباح أن يدخله، فجلس عمر مع النبي وكان مضطجعاً على الحصير، وكان هذا في السنة التاسعة التي بدأت المدينة تدخل فيها عهد الثراء والوفرة، والنبي يجلس على حصيرٍ يؤثر على جنبه الكريم، ولما نظر عمر للخزنة في الغرفة لم ير فيها إلا صاعاً من شعير كان يأكل النبي منه.

  فبكى عمر رضي الله عنه، فقال له الرسول ما يبكيك يا عمر! قال يا رسول الله كسرى وقيصر في قصورهما وأنت في هذا الوضع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عمر لهم الدنيا ولنا الآخرة". 

فقال عمر: يا رسول الله هل طلقت أزواجك؟ فقال: لا. 

فبدأ عمر بمحاولة إخراج النبي من هذا الجو بحديثه عن زوجته شاكيا للنبي، فقال للنبي لقد جئت من عندها و جادلتني في موضوع النفقة، فقال النبي هذا ما حدث معي أنا أيضاً، فتبسم النبي وبدأ عمر يتكلم معه قليلاً قليلاً حتى انفرجت أساريره صلى الله عليه وسلم، ودخل في جوٍ آخر مختلف. 

       أنت الآن تتحدث عن محمد الإنسان الذي يتحدث مع صاحبه، ويفضي إليه بهمومه، نقاش في غاية الإنسانية الطبيعية، يتحاوران عن واقع يعاني منه كلاهما. يتبادلان الشكوى من واقع حالهما مع أزواجهما، فقال عمر بعد ذلك: إن المسلمين مغتمين من هذا الأمر فهل تسمح لي أن أخبرهم أن النبي لم يطلق زوجاته، فقال له النبي افعل ما بدا لك، فذهب إليهم عمر وأخبرهم بالأمر. 

في اليوم التاسع والعشرين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مشربته وعاد إلى زوجاته وهنا كانت قد نزلت الآية التي تقول: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا" [الأحزاب الآيتين: 28، 29].

تطلب الآيتان منه أن يخيرهن فإن أردن الدنيا يمنحهن منها ما يردن ويطلقهن، وفي حال أردن الله والدار الآخرة فليصبرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب النبي لعائشة وقال إني أمرت أن أخيرك، وتلى عليها الآية، وقال لها أن تذهب لاستشارة أبيها وأمها، فقالت يا رسول الله أفيك أستشير؟ إنما أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ذهب بعد ذلك لزوجاته الأخريات وكلهن قلن كما قالت عائشة وهكذا استقر بيت النبوة على هذا الأمر وانتهت الأزمة.

     أريد أن أختم بالقول أن الرحمة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم عامة، ولكل شخص تصرفات تتم وفق معنى عظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة للجميع، وكان يقوم مقام الإنسان في حياته الشخصية، ومقام القائد في أمته، وكان يقوم قبل كل ذلك طبعاً مقام النبي الذي يبلغ عن الله سبحانه وتعالى رسالته.

 فأنت كزوج تستطيع الإقتداء به، وكسياسي يمكنك ذلك، و كإنسان تمارس الحياة العامة يمكنك الاقتداء به في كل مناحي حياتك. فتصرفات النبي تعود جميعاً لرحمته ورحمة الله بنا من خلاله، وقبل أن يكون نبياً خاتماً كان إنساناً بشرًا، والبشرية للنبي صلى الله عليه وسلم أكدها القرآن مراراً "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ" [الكهف، الآية: 110]. فنحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم ليس حباً عاطفياً وحسب، بل لأنه علمنا أشياء كثيرة وترك لنا منهجاً نسير به كل أمورنا.