لا يختلف إثنان أن من أهم المهام التي يجب على المسلمين القيام بها هي فهم النصوص الشرعية، وتحقيق مقاصدها الدنيوية والأخروية، وهذا مرتبط أشد الإرتباط بمنظومة من الأدوات المتكاملة من علوم الآلة، بحيث تكون هذه الأخيرة مطية لإعمال الفكر والنظر في النصوص الدينية بغية العلم بالمطلوب.

 فعلوم اللغة مثلا كالنحو والصرف والبلاغة فهي علوم كوسيلة وواسطة وطريق لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وكذلك الحال في علم الأصول وغيره، فهذه الدائرة من العلوم والمعارف لا تدرس لذاتها، إنما لكونها أرضية علمية صالحة لبناء الأحكام وإستخراج الحِكَم.

وإن المتأمل لعلوم الآلة قاطبة يجدها على ضربين:

أولا: علوم آلة ثابتة لا يمكن أن تجاسر أحد عليها أو إقصاؤها في فهم النصوص الشرعية عامة، وهي علوم اللغة العربية وعلم الأصول وعلوم الحديث.

ثانيا: علوم آلة نتيجة أسباب وبيئات عاصرها العلماء وعاشوا فيها، أي أن هذه العلوم تحمل في طياتها أسبابا ذات أهمية بالغة حيث علت عرش غيرها، ورجح إختيارها لتكون من علوم الآلة، فمثلا كانت ثمة حاجة ملحة إلى إتقان علم المنطق نتيجة شيوعه بعد حركات الترجمة، فاختير علم المنطق ليكون ضمن علوم الآلة ، كذلك الحال مع الفلسفة حيث كان إتقان الفلسفة شرطا مهما للحديث عن علم الكلام لحماية الدين في بادئ الأمر.

علوم الآلة ووتغيراتها تبعا للحاجة عبر الزمان:

فما هو الثابت وما هو المتغير منها؟ بكلام آخر مفهوم أكثر من سابقه نقول بأن هناك علوم ضمن علوم الآلة، كانت نتيجة لسد الحاجة العلمية الماسة، وهذا يعني بأن علوم الآلة تتغير وتتسع دائرتها تبعا للحاجة الملحة بحسب الزمان، فالنحو الذي لم يكن هناك من حاجة إليه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر صحابته رضوان الله عليهم، أصبح ملحا في النصف الأول من القرن الأول بل أصبح مستحيل الإستغناء عنه. 

وبناءً على ما تقدم من الكلام حول توسيع رقعة علوم الآلة، فقد حصرنا الحديث في مجموعة من التطورات والمستجدات المهمة في بعض المجالات كالعلوم الإنسانية والعلمية وتداخلاتها اللامتناهية مع العلوم الإسلامية، وعليه لا بد من مراجعة شاملة لمنظومة علوم الآلة لنعرف الثابت منها كاللغة العربية والأصول والحديث، ولنعرف أيضا المتغير، حتى نتمكن من توسيع البناء لمنظومة متكاملة من علوم الآلة التي ستحدث قفزة متميزة ونوعية في مجال التعامل مع النصوص الشرعية لطلبة العلم فضلا عن العلماء.

إن ذاكرة العلوم التي يتميز بها العالم الإسلامي اليوم هي نتاج تراكم هائل وطويل من خبرات البشرية على مر آلاف السنين، وهي بالتالي تراكم معرفي ضخم لا يجوز غض الطرف عنه أو الاستهانة به، ولعل توسيع دائرة علوم الآلة في مدارسنا الإسلامية وفي كليات الشريعة كفيل بضمان نقلة نوعية ومتميزة في طريقة التعاطي مع النصوص الشرعية، وما شوهد من توسع في الإجتهادات وظهور علوم جديدة واختصاصات كثيرة إلا نتيجة تغيير طفيف وجزئي في علوم الآلة. فمثلا فقه الواقع، وفقه التنزيل، وعلم الإقتصاد الإسلامي، هي نوع من الإستجابة لعصر تطور فيه علم الاقتصاد وأصبح المحرك الأساسي للحياة.

أما من ينفي هذا التوسع الذي يطلب تغير عامل البيئة والزمان فنقول له:

إذا كانت جهود علماء الأمة قد أحكمت الطرق والوسائل الموصلة الى مقصد النص الشرعي بما لا يدع حاجة إليه اليوم، فإن الاشتغال به اليوم تضييع للجهد والوقت. ويبقى مجال فهم النص الشرعي -على ما بُذل من جهد فيه- ولا يحتاج لتوسعة بما يناسب حاجة المسلمين اليوم، لأن كثيرا من الغيورين على الإسلام أوتي من جهة طرق فهم النص الديني لا من جهة التطبيق. 

ولذلك فإن توسيع دائرة علوم الآلة الموصلة لفهم النص الشرعي ليس دعوىً يدعيها كل أحدٍ، بل هو مضبوط بأصول وقواعد أدلة متينة، ومن حُرم هذه القواعد والأصول حُرم الوصول، والمطلوب اليوم توسيع رقعة العلوم المساعدة على فهم النص الشرعي وتنزيله..