بنظرة من شرفة الواقع نحو المستقبل القريب يعود البصر خاسئاً وهو حسير، هذا الواقع الذي نراه بمعطياته العابسة وقد تيسّر فيه العلم وتقنيات البحث، وشاع الزيف والمغالطات، توفرت وسائل المعرفة، وتلاشت الأصول المنهجية المعرفية، تراكم الفكر وتزعزع اليقين، وقل الوعي وازداد الغرور..جدل محتم وحقيقة تحت الركام…!مفارقة عجيبة وغريبة في نفس الوقت.

إننا أمام واقع تلاشت فيه الحواجز الفكرية بين الأمم، والتحمت الثقافات لتصفية حساباتها بمعركة حامية الوطيس، ضحيتها جيل مخملي التفكير، عديم التجربة، لم تلبسه الحياة جلد التسامح بعد، سيخرج منها وربما لن يخرج إلا هجين الفكر، مهزوزة العقيدة، يمارس طقوس المؤمنين ولكنه بلا إيمان ولا يقين، ولا ثوابت ولا مسلمات، تتجاذبه تيارات وكيانات الإستقطاب المتناقضة يمنة ويسرة.

بين إيمانٍ متعدد الرؤوس متصارع الأقطاب إنكسرت حجته بمطرقة الخلاف، وإلحادٍ متنكرٍ في ثوب التنوير يعمل على بث الشبهات ويشككه حتى في الثوابت، ووسائل تثقيف تتسع لكل المتناقضات، وبفكرٍ قاصرٍ هزيل ليس بإمكانه الصمود أمام كل هذه المخاطر المتنامية.

فقد أصبح الوعي الجمعي عجينة يتسابق على تشكيلها لاعبون عصيٌ على الفهم توجههم، والتكهن بأدواتهم، وملامح أهدافهم، فعلاقاتهم البينية معقدة التركيب، حلقية الشكل، شبكية المخططات، مضمونها الجوهري، صراعات لا نهائية...!

 مصالح متقاطعة وأهداف متباينة، وشراكات لابد منها؛ هذه الخصائص والمعطيات أكسبت المعركة صبغة التناقض، وعشوائية المتجه، تحت تأثير رياح المصالح المستديرة.

 إنها لعبةٌ معقدة ومتحولة، ومتأرجة باستمرار بين المصالح المشتركة والمتقاطعة، تتطلب في إدارتها مرونة وانسيابية تمكّن اللاعبين من التحرك الحر في كل اتجاه دون معوقات، وبخطوط عودة واسعة خلف كل جبهة تصادمية، وهذا يقتضي زعزعة القواعد الثابتة، وخلخلة المبادئ والقيَم وتمييعها وانتهاج فكر إلحادي هدفه السيطرة على مقدّرات العالم، والحصول على أكبر قدر من الثروات والشهوات، ولن يتحقق لهم هذا إلا بصناعة نظام تفاهة شامل، تنحدر فيه حصون الفكر والعلم والثقافة واللغة والدين.

 فضُربت المؤسسات العلمية بالأكاديمية، والتي ضخّمت الهوس بالحصول على الشهادات الأكاديمية العليا من أجل التفاخر بالمال، أو السلطة، وإهمال غاية العلم الحقيقية، وأهدافه النبيلة من شغف معرفي وسبر للعقل، وتنوير الفكر، واكتشاف للحقائق وما إلى ذلك من الغايات الأساسية.

طغت المادية على القيم، وتقهقر الكُتّاب والمثقفون والخبراء، وحتى بعض العلماء أمام تيارات الإغراءات والتجاذبات وبذلك أصبحت تأكيدات الخبراء، ومواقف المستقلين، وكشوفات العلماء، وتحاليل الناشطين، وتوجهات الكُتاب، ودراسات المؤسسات وآراء المثقفين ، وتقارير المنظمات كلها إلا القليل معروضة في مزاد المصالح، إما مملوكة أو ممولة أو مستأجرة بعقود مزمنة، أو مؤسسة حكومية تعمل تحت مشروع يخدم سياسة معينة كواحدة من أدوات المواجهة.

الإعلام ضحية من ضحايا الفكر الهجين

وقبل كل ذلك كان سقوط الإعلام، وهو الوسيلة الأساسية لنقل المعلومات، وتوجيه الوعي الجماهيري، وصناعة الرأي العام، وتعد هذه الوظيفة أخلاقية محكومة بالقيم لا بالقوانين.

والمشكلة التي نعاني منها اليوم هي تخلي الإعلام عن المصداقية لصالح المال، وانخراطه في التجاذبات والصراعات التيارية بطريقة مبتذلة ورخيصة في تزييف الحقائق، ونشر التفاهة، وتمييع القضايا، وتسطيح الوعي، وقتل المبادئ، فتاهت المجتمعات بين كمية الأخبار الزائفة، والمعلومات المغلوطة، والتقارير الملفقة، والتحليلات الكيدية الكاذبة، والإشاعات المغرضة، ما نتج عنه تردد في المواقف، وتذبذب في المبادئ، وارتخاء في اتخاذ التدابير، وتراجع حاد في القيم، وانحدار متواصل في معمعة الخلافات وويلات الصراعات ومآسي الأزمات، فجعل الأمة فاقدةً الحيلة، منزوعة الإرادة، مسلوبة الحقوق.

سردية طويلة من الإشكالات نستطيع تجريدها وكشف حيثياتها دون التلويح بحلول حقيقيةٍ لها لأنها أكبر من أن تختزل في مدونة صغيرة، وحلولها في الواقع أعقد من الخطوات التي قد نقترحها أو ندونها. فهي تكمن في نظام سائد ومفتعل من قبل لاعبين لهم في الأمر مصالح وأجندات، وغايات مختلفة ولن يسمحوا بالإضرار بمكتسباتهم، وقد جُبرت من أجل ذلك المؤسسات ذات الوظائف المقدسة مثل الجامعات، والصحافة، والإعلام، ومراكز البحوث، وتقنيات الفكر والمعلومات المختلفة.

ولكن الوسيلة الوحيدة الأجدى للحد من آثار هذا الفكر هي إيجاد وسائل تعليمية تواكب زمن العولمة ترتقي بأخلاقيات وأسس العلم، وتعمل على تنظيم المعرفة.

لصناعة قاعدة ثقافية صلبة قادرة على بناء عقيدة متماسكة تستطيع الوقوف أمام آلة الهدم الفكري الهادفة لنزع مقومات الثبات والانتصار من عقائد دينية او قومية او اجتماعية أو ثقافية تارة بحجة محاربة الايدولوجيا والعرقيات، وأخرى بفرض نظام علماني يحترم الحقوق، وينزع فتيل الاقتتال، وبوسائل عولمة فرضت نفسها على كل الجوانب الحياتية، ويُراد لها القيام بوظيفة تجريف الثوابت الفكرية والدينية لإرساء نظام سادي يجيّرونه من اجل مصالحهم على الاتباع والانقياد لما يريدون تحت طائلة التهديد والوعيد.

الحقيقة التي ربما ليست غائبة عنهم، أن الدين من مقومات بناء الحضارات لا انهيارها، وعنصر استقرار لا عنصر حرب، وكل ما نسب إليه اليوم من حروب ونزاعات وتخلف سببه الحقيقي صراع المصالح والنفوذ والتباينات السياسية والاقتصادية، ويعد الدين أحد ضحايا هذا الصراع وقد تم استخدامه لأغراض مختلفة كواحدة من الوسائل لا الأهداف.