تتنفس هواءً ثقيلا، وتخطو في ألم مترقبة مكالمة الفيديو من إبنتها التي اضطرت أن تغادر وحيدة إلى اسطنبول، تاركة خلفها الصحبة والأهل والدراسة والمستقبل والأحلام التي بددها النظام بحكم الإعدام الذي أصدره عليها غيابيا. 

الإبنة المدللة التي نشأت في بحبوحة من العيش وكان لها سيارتها الخاصة، هي ذاتها الفتاة التي اضطرت لمواجهة الغربة الموحشة في تلك الحاضرة المترامية الأطراف، لا تتقن لغة أهلها ولا حتى لغة الإشارات المعلقة في الشوارع، فضلا عن ذلك لا تستطيع حتى تأمين عيشها بنفسها، بسبب اعتقال والدها. 

بين الأحلام المتبددة والغربة للابنة، واعتقال الأب ومطاردة الابن، تحاول الأم المنهكة مواساة نفسها بصور ابنتها عند أضواء البسفور، وقباب آيا صوفيا وثلج بورصة، إلا أن الأخبار المفتوحة ليلا ونهارا على شاشة التلفاز التي لم تكد تخل بعد من مشاهد الأشلاء والدماء التي شهدتها الأم بعينيها في فض اعتصامي رابعة والنهضة. 

وإذا بشريط أحمر عريض يقسم الشاشة نصفين معلنا محاولة انقلاب في تركيا، مع صور دبابات في الشوارع وأضواء البسفور منطفئة تماما، فانخلع قلب الأم وتتالت على ذاكرتها كل مرادفات كلمة انقلاب التي عايشتها في مصر. 

هل يعني هذا أن أنتظر ابنتي مكبلة تساق إلى المشنقة وسط نباح أولئك المتشفين، الذين تنكروا لكل ما كانوا يشهدون به في حقها من النبل وكرم الأصل والعلم والأخلاق، وراحوا ينعتونها بصفات الإرهاب والجريمة، محاولين دفع التهمة الشريفة عن أنفسهم أو خوفا على مناصبهم أو تقربا لسلطان ذويهم؟ 

هل يعني هذا أن تنتظر صديقتي وجارتي عودة ابنتها الأخرى تساق في الأغلال إلى سجون لا تبقي الإنسان إنسانا؟ هل يعني هذا أن يجوع ويشرد كل أولئك اللاجئون الذين توقفت بلدنا عن استقبالهم بعد الانقلاب؟ هل يعني هذا أن نرى بناتنا التركيات في حجابهن يصرخن مرة أخرى أمام الجامعات ليقبلن فيها، وأن نرى حجابهن يخلع من على رؤوسهن بالقوة في الشوارع؟ 

سويعات ونزلت جحافل الأتراك إلى الشوارع، مواجهين الدبابات بصدورهم العارية، ومن خلفهم مدرعات الشرطة الباسلة التي راح منها شهداء في دفاعهم عن مقارهم؛ وهنا بلغت الحلقوم، وزاغت الأعين فهذا المنظر في بلادنا سبق الأشلاء والدماء وألسنة اللهب التي اشتعلت في قلوب رافضي الانقلاب قبل أن تحرق الاعتصام بمن فيه. 

لكن حدثت المعجزة، واستعصت الصدور العارية على الدبابات، وألقي القبض على جنرالات مدبري محاولة الإنقلاب، في مشهد يتمناه كل متألم في مصر. هنا طارت العقول فرحا واستعصى الأمر على التصديق! وبات كل متابع يعيد المشاهد بل ويتحقق من حقيقة وعيه واستيقاظه، هل حدث هذا حقا؟ ألم يكن هذا عقلنا الباطن؟     

فما هي إلا سويعات واستعادت شبكات المحمول اتصالاتها، وتلقت الأم مكالمة ابنتها من الشوارع تحتفل مع الآلاف من الأتراك بسلامتها، وسلامة الوطن الحاضن. 

بين عجوزين

كان من أبرز المشاهد التي رسخت في عقول المشاهدين، مشهد تلك العجوز التي نزلت الشارع في يمناها العلم التركي وفي يسراها عصا، تضرب بها العساكر. 

 لكن مشهدا آخر لم يره المشاهدون وهو عجوز أخرى، وقت أحد الانتخابات، تمشي في حبور طفولي ملوحة بالعلم التركي، بينما ترمقها إحدى المحرومات من الوطن في غبطة بأعين دامعة، ولا تستطيع أن تطرف عينها بعيدا عن السيدة، تلاحظها السيدة وتشير إليها بالعلم الملوح وتقول لها "seviyorum”. 

حقك أيتها السيدة، وهذا هو الوقت حقا، فمن دافع عن حق الوطن في الاختيار، سيشعر حتما بحب الوطن حين يحين وقت الاختيار. 

وهذا ما حاول شباب مصر أن يفعلوه حين ناداهم الوطن في الخامس والعشرين من يناير 2011، عندما لمع الحلم في قلب أحد الشباب بعد أن صمد أهل الميدان أياما، وأتاهم متأخرا قليلا، فاستقبله أحدهم مطمئنا، "لا تخف، ليس هناك شيئا مما سمعت عنه في التلفزيون"، فرد الشاب: "وليكن هناك منه، هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها أن لي وطن".