ما إن تناهت إلى الأسماع أخبار اكتشاف فيروس كورونا كوفيد19 في مدينة ووهان الصينية"Wuhan" بؤرته الأولى في شهر نوفمبر الفارط، وتحوله إلى جائحة عالمية بعد تصريح مدير الصحة العالمية بذلك في مستهل شهر مارس 2020، حتّى هبت ثلة من المؤرخين إلى معرفة تداعياتها وقراءة مآلاتها ضمن عملية ارتدادية ترنو إلى محاولة فهمها بالعودة للماضي واستحضار مختلف الأوبئة التي عصفت بالبشرية في تاريخها الطويل، علها تنشد ضالتها بالتنقيب في ذاكرتها الجماعية وبحث أوجه تشابهها لمقارنتها ومقاربتها. 

على صعيد الممارسة التاريخية عادت إلى الواجهة مؤلفات الطب الشهيرة في الحضارة الإسلامية بصفة عامة وأدبيات الأوبئة والطواعين على وجه الخصوص، وأضحت مؤلفات من قبيل كتاب "مقنعة السائل عن المرض الهائل لابن الخطيب"، وكتاب "تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد لابن خاتمة" التي تناولت وباء منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر ميلادي، في قائمة أدبيات الوباء الأكثر اطلاعا وانكبابا على قراءتها كونها تناولت هذا الوباء الذي عد أكثر الأوبئة فتكا بالبشرية في العصور الوسطى؛ حيث انتشر هو الآخر من بلاد الخِطا(الصين) ليتحول إلى وباء عالمي آنذاك شمل بلاد المشرق والمغرب وبلاد الأندلس وأوروبا المسيحية. 

ولعل أوجه التشابه بين هذا الوباء وجائحة كورونا هي ما دفعت ببعض المؤرخين إلى تبني استنتاجات استباقية وجاهزة بناء على معطيات الأوبئة الماضية وتداعياتها آنذاك واستنادا إلى فكرة مفادها إعادة التاريخ لنفسه، وحصر فاعليته في استخلاص العبر منه لا غير، وهي الفئة التي حصرت التاريخ في قراءة الماضي ومن زاوية التحقيق في الوقائع لا مساءلتها ضمن نظرة تكاد تكون أقرب لنظرة المدرسة الوضعانية للتاريخ وحرفة المؤرخ.

تواصل اهتمام المؤرخين بموضوع كورونا من الناحية التاريخية واستفزتهم الإشكاليات التي طرحتها تداعياتها المتواصلة والسريعة وعجز العلم عن كبح جماحها. 

لذا انبرت أقلام بحثية جعلت ديدنها تفكيك قضاياها الملغزة وبسط محاولة فهمها ضمن رؤى بحثية لم ترتد إلى الماضي من أجل استخلاص العبر بل على العكس من ذلك سعت إلى مساءلتها في الحاضر قصد استشراف مستقبل الكتابة التاريخية سعيا لاخراجها من أزمتها والمضي بها قدما نحو انتاج معرفة تاريخية خالية من الانتماءات الأيديولوجية والقوالب اللاعلمية الضيقة ونفخا لروح جديدة في صنعة المؤرخ. 

تعد دراسة الباحث ابراهيم القادري بوتشيش الموسومة بــــ: "هل يقرب وباء كورونا نهاية العولمة وبداية تحقيب جديد للتاريخ؟، مدخلا ابستمولوجيا كشف عن احترافية الباحث وعلو كعبه في مقاربته لقضايا تاريخ الزمن الراهن خاصة وقضايا الكتابة التاريخية عامة؛ إذ توزعت اهتماماته على إشكالية التحقيب التاريخي وضرورة إعادة النظر في صياغتها، انطلقت من مساءلة دور الأوبئة في ذلك على اعتبارها ظاهرة محركة للتحولات والتقلبات التاريخية، بناء على ما أحدثته من صعود حضارات وسقوط أخرى لا سيما تلك الأوبئة التي كانت بمثابة علامات فارقة نحتت معالم تاريخية هامة. جاعلا من وباء كورونا ومقاربة درسه ظاهرة بنيوية من المحتمل أن تفضي آثارها إلى انهاء مرحلة العولمة ودحض أطروحة فوكوياما القائلة بنهاية التاريخ. 

أعاد الباحث بطرحه هذا بعث نقاش لم يحسم فيه الجدل بعد لصالح زيد أو عمر؛ فمنذ ما يربو عن خمسة عقود والمسألة مطروحة ضمن دوائر البحث الأكاديمي الغربية منها والعربية، ائتلفت فيها آراء الباحثين حول ضرورة إعادة النظر فيها وفق أسس نظرية تتخذ من البنية منطلق تحقيبي جديد بدل الحدث، واختلفوا في جوانبها العملية.

 والأمر عائد حسب الباحث نفسه لطبيعة هذه القضية الشائكة والملتبسة ما جعلها تكسب صفة التغير حسب سياقات التطورات المعرفية والطفرات الابستمولوجية، ولطبيعة علم التاريخ ذو السيرورة المتواصلة في البناء والتكون على غرار العلوم الأخرى التي اكتمل بناءها المعرفي واستوت مناهجه ونظرياته.

هكذا حصل تفاوت كبير في مستوى الوعي لدى الباحثين والمؤرخين للدرس التاريخي زمن جائحة كورونا؛ فبينما ركن البعض إلى قراءته قراءة سطحية ارتدت إلى الماضي لاستخلاص الدروس والعبر والوقوف على تداعياتها ضمن كتابات لم تبرح منصات التواصل الاجتماعي، جنح آخرون إلى قراءات معمقة ذات طموح ابستيمولجي انطلق من المنجز المعرفي السابق في قضايا الكتابة التاريخية ودور المؤرخ، ليعيد تكييفها في أفق بحثي تجاوز مستوى الوصف وانفتح على أسئلة الدور والفاعلية.  

على أنّ هذا التفاوت الحاصل في مستويات الوعي والقراءة يلج في صميم المحاولات التأسيسية للتدوين التاريخي، مشكلة بذلك تراكم معرفي جاء كاستجابة لتحولات ثقافية طرقت ذهنية المؤرخ المعاصر للحدث، وهو الذي لطالما وجه سهام نقده لنظيره القروسطي والحديثي، معتبرا أنّ غياب تراكم معرفي وانعدام العملية التكاملية بينها وقتئذ راجع إلى طبيعة فهم هؤلاء إلى العملية التأريخية وإلى دورهم فيها الذي لا يعدو نقلهم للوقائع دون قراءة أو مساءلة، ناهيك عما كانت تمليه الانتماءات السياسية والمذهبية وما كانت تغذيه النعرات العصبية من اقصاء وتهميش حالت دون ذلك.

فهل نستطيع القول بعد هذا أن ّالمؤرخ المعاصر استوعب جيدا الدرس التاريخي بكل قضاياه الابستيمولوجية؟ وأنّه غدا بإمكاننا الحديث عن قفزة نوعية في دوره في ظل جائحة كورونا التي يشهدها العالم؟