ما أشبه اليوم بالبارحة! قلت سابقا أن رأسمالية ما بعد الإتحاد السوفياتي هي رأسمالية القرن 19 في نسخة معدلة ومطورة جدا، فكما أن رأسمالية القرن التاسع عشر هي من وحي الثورة الصناعية الأولى، فإن رأسمالية ما بعد الإتحاد السوفياتي أو رأسمالية النظام الدولي الجديد هي الأخرى من وحي الثورة الصناعية الثالثة أو الرابعة، أو كما يحلو للبعض أن يسميها ثورة ما بعد الثورة الصناعية الأولى والثانية. 

وإذا كانت رأسمالية القرن التاسع عشر هي ايديولوجياً ومعرفياً تجسيداً للداروينية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أي تجسيد لقانون الغاب، وتجسيد لقانون البقاء للأقوى والأصلح، فإن رأسمالية ما بعد الإتحاد السوفياتي، هي كذلك أعادت داروين والداروينية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بِأبشع وأفظع الصور، وإن كانت تتم بمخالب وأنياب تبدو ناعمة ورطبة، ولكنها أشرس من القرن التاسع عشر والعشرين، كذلك إذا كان استعمار القرن التاسع عشر والعشرين هو نتيجة وإفراز للثورة الصناعية الأولى، وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ وأسواق، فإن العولمة هي الوجه الآخر لاستعمار الثورة الصناعية الحالية والتي تتجاذب أطرافها اليوم قوتان هما الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والصين من جهة ثانية.

 فإذا كانت بريطانيا وفرنسا خصوصا هما قطبا استعمار القرنين الثاني عشر وبداية القرن العشرين، فالولايات المتحدة الأمريكية تعمل على اختزال العولمة في الأمركة. 

الفرق بين استعمار الأمس واستعمار اليوم هو أن استعمار الأمس تقوم به الدول، أما استعمار اليوم فهو من الشركات العالمية العملاقة، والمؤسسات المالية العابرة للقارات، فالذي يتحكم اليوم هي الشركات والبنوك ورجال البورصات والأعمال، لم تعد القرارات فوقية، بل أصبحت البنية الفوقية هي انعكاس للبنية التحتية، فنحن اليوم أمام ديانة جديدة وراءها السوق وأصحاب المال، ديانة أصولية تطبق بالنص والحرف.

 تلمود السوق بالحرف ومن زاغ عن تعاليم هذا التلمود يعزل أو يطيح به. فالبرلمانات والحكومات العالمية أصبحت أدوات تنفيذية لهذه الحكومة العالمية، حكومة العولمة التي تقف وراءها ديانة المال والسوق. فهذه الديانة هي التي تشرع القوانين وتصنع الأذواق والثقافات والقيم والسلوكات والتوجهات العالمية. وهذا ما ذهب إليه المفكر العالمي نعوم تشومسكي في كتابه "صناعة المستقبل: الاحتلال، التدخلات، الامبراطورية، والمقاومة" ففي عنوان من عناوين فصول الكتاب، عنوان "مصمموا السياسات غير المنتخبين" تحت هذا العنوان يفسر كيف أن السياسي المنتخب هو صنيعة أصحاب المال والأعمال والبورصات والشركات العملاقة، الذين يدافعون عن مصالحهم لتكون مضمونة.

 كما لاحظ ذلك آدم سميث في القرن التاسع عشر فإن الظاهرة عادت بقوة اليوم. يقول نعوم تشومسكي "استنتج آدم سميث أن المصممين الأساسيين للسياسة في انكلترا كانوا التجار والصناعيين الذين كانوا يسعون إلى جعل مصالحهم مضمونة إلى أقصى الحدود مهما كان تأثيرها في الآخرين موجعا، حتى لو كان هؤلاء الآخرين هم الشعب الانكليزي. " ويقول نعوم تشومسكي أن هذا ينطبق على يومنا هذا بالقول" وينطبق قول سميث في يومنا هذا، مع العلم أن المصممين الأساسيين اليوم هم الشركات المتعددة الجنسيات، وعلى الخصوص المؤسسات المالية التي تزايدت حصتها من الاقتصاد منذ سبعينيات القرن الماضي. " ويقول نعوم تشومسكي أنه رأينا دليلا دامغا لهذا في انتخاب أوباما لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. 

يقول في هذا الصدد:" وقد رأينا دليلا دامغا على نفوذ المؤسسات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية ففي خلال الانتخابات الرئاسية الماضية مثلت المصدر الأساسي لتمويل الرئيس أوباما. وبالطبع تتوقع هذه المؤسسات رد الجميل. وقد صدقت توقعاتها...".

 ويضرب تشومسكي مثال مؤسسة غولدمان ساكس التي جنت أرباح خيالية رغم أنها زورت أوراق المال المدعومة بالرهن، فهي علمت بهذا التزوير لهذا عندما جاءت أزمة 2008 كانت من بين المؤسسات المالية المنهارة، لكن مصمموا السياسة في مؤسسة غولدمان حصلوا على كفالة للخروج من المأزق.

 يقول تشومسكي في هذا الصدد "ولأن الشركة كانت تعي مدى هشاشة الرزم التي كانت تبيعها، راهنت مع المجموعة العالمية الأمريكية على إخفاق العروض وعندما انهار النظام المالي انهارت معه المجموعة، إلا أن مصممي السياسة في غولدمان سعوا للحصول على كفالة للخروج من المأزق حتى أنهم جعلوا المكلفين ينقذون المجموعة العالمية الأمريكية من الإفلاس.

 وهكذا أنقذ مصممو السياسة غولدمان ساكس "وها هي تجني من جديد أرباح خيالية، وأصبحت بالاضافة إلى بضعة مصارف أقوى من ذي قبل. مما جعل الشعب الأمريكي يشتاط غضبا ويحتج بقوة ضد هذه المؤسسة التي تلاعبت وزورت في الرهون والأوراق المالية. 

وعندما نجح المحتجون في الضغط على أوباما واتهم المؤسسة بالجشع وأراد أن يعاقبها، ردت عليه المؤسسة بأنها مستعدة لتمويل المعارضة، فأجبر أوباما على الإذعان. يقول تشومسكي: "في نهاية المطاف أدى السخط الشعبي إلى تغيير في خطاب الإدارة التي ردت باتهام المصارف بالجشع، ومن تم اقترحت بعض السياسات التي لا تناسب الصناعة المالية، وبما أن من المفترض أن يكون أوباما عميل المصممين الأساسيين في واشنطن لم يضيع هؤلاء الوقت في إصدار تعليماتهم التي جاء فيها ما يأتي: "إن لم يعد أوباما إلى المسار الصحيح فسيحولون تمويلهم إلى المعارضة السياسية. 

وما لبث أوباما أن أبلغ إلى الصحافة في غضون أيام، أن اصحاب المصارف أشخاص صالحون ولا سيما رئيس أكبر مؤسستين جي بي مورغان تشايس وغولدمان ساكس، فاعلن قائلا: "أنا على غرار سائر الشعب الأمريكي لا يحسد الآخرين على نجاحهم أو ثروتهم، فهذا جزء من نظام السوق الحرة، وهذا هو تفسير الأسواق الحرة في عقيدة الرأسمالية. 

"وهذا تأكيد لما أورده الدكتور حسن أوريد في كتابه "أفول الغرب " حيث كتب يقول: " حينما تم انتخاب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لأول ولاية ضد غريمه جورج بوش في نوفمبر 1992، والذي كان بشر بنظام عالمي جديد عقب انتصار قوات التحالف على العراق، عنونت الأسبوعية البريطانية الرصينة عددا لها ب "إنه الاقتصاد يا مغفل " لم تعد السياسة هي الحاسم في صوغ تصورات العالم بل الاقتصاد أو أضحت تابعة له يملي عليها ما يتوجب، ليس على المستوى الداخلى للدول فحسب ولكن كذلك على مستوى العلاقات الدولية التي أصبحت تحت تأثير تصور جديد وفلسفة جديدة.

 "وهذا معناه أن ما نعرفه بالفطرة أنه حق أو عدل أو صدق أو خير في عالم العولمة لم يعد كذلك، في عالم الغاب، حيث البقاء للأقوى، الحق والعدل والصدق والأمانة وغيرها من القيم، هي ما يراه القوي، وما تراه ديانة وعقيدة الرأسمالية، فنحن قد تبدو لنا قيم العدل واضحة والظلم واضح لكن في عالم الداروينية الاقتصادية والمالية شيء آخر فالقانون والعدل والحق والصدق وغيرها من القيم هو ما يراه القوي، وما ينفع ديانة السوق ليس ما تراه المثاليات والأديان انقلاب القيم بفعل ديانة السوق هو الذي دفع المفكر رجاء جارودي يرى أن الدولة نفسها أصبحت في خدمة ديانة السوق. 

يقول جارودي: "أما الدولة فليست في شرطتها وعدلها، وإدارتها، وتنظيمها وسجونها "حارس الليل" الذي حلم به ليبراليو القرن 19، بل هي جهاز يقمع كل ما يعرقل لعبة اقتصاد السوق الحرة كما تعلم في جامعة هارفرد أو كما يثبت في العالم تحت إسم النظام العالمي الجديد. 

ويضيف جارودي حقيقة أخرى في إعادة تعريف مفهوم الاقتصاد السياسي بالقول: " وليس الاقتصاد السياسي هذا سوى علم الأشياء لا علم الإنسان فمفهوم العلم السياسي نفسه يفهم على أساس الوضعية التي نادى بها أوغست كونت.. ويرتكز هذا المفهوم على عقيدة النظام الطبيعي الضمنية. هذا النظام الذي لا يستطيع الإنسان تحويله فحسب بل إدارته. 

ويتزايد الشبه بين هذا النظام ونظام الولايات المتحدة فالمجتمع مؤسسة تجارية لا تقوم فيها الثقافة والتفكير في الغايات بأي دور. " ويضيف كارودي قائلا: " ونستنتج أن عبادة السوق هذه تؤدي إلى إنكار الإنسان".

وبالتالي يرى أن الشيء الخطير الذي يهدد الإنساني والأخلاقي ويهدد العالم هو الاقتصاد. يقول: "والعملية التاريخية التي تهددنا هي اقتصادية فالدول والأحزاب والسياسات بالمعنى التقليدي، كلها مرغمة على تقليص البعد العالمي والإنساني. " لهذا فالعالم اليوم، أو مستضعفي العالم مجبرون على إيقاف وحش الرأسمالية الجديدة، رأسمالية ما بعد الاتحاد السوفياتي التي هي أقوى وأشرس من رأسمالية القرن التاسع عشر الميلادي، وإن كانت في أنيابها ومخالبها وشراستها تبدو ناعمة. 

فإذا نجحت الاشتراكية في وقت من الأوقات في أن تلجم هذا الشره وأنسنة الرأسمالية في وقت من الأوقات، فالعالم اليوم أحوج ما يكون إلى ركن شديد يأوي إليه وإلى لجام حديدي يلجم به وحش رأسمالية النظام الدولي الجديد الذي حول الكرة الأرضية بسم العولمة إلى لقمة صغيرة سهلة الابتلاع. فهل تعود الإشتراكية، أم يجتهد علماء وفقهاء الاقتصاد الإسلامي لإنقاذ العالم والإنسان والحيوان والنبات والبيئة كلها من جشع وشره الرأسمالية المتوحشة.