منذ عام 1988 قام الإقتصادي الأمريكي روبرت كليتجارد بتلخيص الفساد في معادلته المشهورة (معادلة الفساد) حيث قام بتعريف الفساد على أنه يساوي الإحتكار+ حرية التصرف(السلطة التقديرية) – المساءلة (Corruption= monopoly+ discretion- accountability) و لما كان الفساد من أهم الأشغال الشاغلة للحكومات والمؤسسات في الفترة الأخيرة كان لابد من إيجاد الطرق المختلفة للحد منه، فبمكافحة الفساد نضمن صعود الدول والمؤسسات بالوتيرة المخطط لها ذلك لأن الفساد يعتبر سرطان التقدُم متى إستأصلناه سَلِمَ الكيان الكلي..

كمدخل تُعتبر التكنولوجيا محوراً هاماً لتغيير دفة المعاملات والتدقيقات في البلاد، إذ يعتبر ربط الأعمال بالتكنولوجيا الحديثة -عالم الأرقام والدّقة- شيئاً مهماً. فقد أصبحت التكنولوجيا حليفًا رئيسيًا في مكافحة الفساد وذلك بالاستفادة من البيانات الدقيقة والتقنيات الحديثة في تسيير المعاملات الداخلة كما يمكن أيضاً إستخدامها كمراقب للحكومات والمؤسسات فطرح البيانات والمعاملات يساعد المهتمين والمتخصصين في التنبيه للحيادات التي قد تحدث. 

وبالفعل أصبحت البيانات الضخمة (Big Data) الآن طريقاً للأشخاص الذين يحاربون الفساد للكشف عن الممارسات الفاسدة ومنعها بل والتنبؤ بها والتي كان يمكن إخفاءها في الماضي خلف حجاب من التعتيم باستخدام الورق!. سنتناول في هذا المقال تأثير التحول التكنولوجي للإدارات والحكومات في الحد من الفساد عموماً والحد من الفساد الإداري والمالي بشكل خاص..

الحكومات الإلكترونية والحد من الفساد

تعتبر الحكومات أعلى الإدارات في الدولة، ولما كانت رقمنتها سبباً في الحد من الفساد يمكن للمؤسسات الأصغر إتباع نفس المناهج. فالرقمنة تهدف وتسعى لتحويل المعاملات على كل الأصعدة للعمل بالتكنولوجيا، فطموح الحكومة الرقمية يتمثل في تحويل الأنظمة الورقية القديمة المستخدمة للتفاعل مع المواطنين لأنظمة حديثة رقمية وجعل الخدمات العامة مفتوحة وبسيطة ومتمحورة حول المواطن. و تم استخدام تقنيات جديدة في شكل مواقع على شبكة الإنترنت وهواتف محمولة وتطبيقات وما إلى ذلك لتسهيل الإبلاغ عن الفساد والوصول إلى المعلومات الرسمية لرصد كفاءة ونزاهة الخدمات الاجتماعية والحياة السياسية للبلد بجعل المعلومات المالية أكثر شفافية. ويمكن بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أيضًا دعم جهود الحملات والمساعدة في تشجيع الناس لمحاربة الفساد. على مدار العقد الماضي أطلقت الحكومات عدداً متزايداً من مبادرات الحكومة الإلكترونية لتعزيز كفاءة وشفافية الإدارة العامة وتحسين التفاعل مع المواطنين.[1]

إن ربط الإدارات والمعاملات بالتكنولوجيا التي تتطور يومياً وتتحدث بطرح الجديد يجعل الإدارة على إتصال وثيق بالحقائق المعاصرة والسُبل الحديثة والأنجح التي قد تستخدمها الإدارات الأخرى لتعمل على تسخيرها لتحقيق الأهداف. 

وقد طرح منتدى الإقتصاد العالمي مقالاً يُبين كيفية تمكُن التكنولوجيا لوجيا من الحد من العوامل الثلاث التي تم ذكرها في معادلة الفساد المذكورة في مطلع المقال كما يلي[2] وسنذكر كلٌ منها بتوسع وشرح أكبر:

  1. إعمال الشفافية الإلكترونية لمصلحة المساءلة

تنظر الحكومات والناشطون والمجتمع المدني بشكل متزايد إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICTs) باعتبارها أدوات مهمة لتعزيز الشفافية والمساءلة وكذلك لتحديد الفساد والحد منه.

يعتبر إتاحة البيانات بشفافية أساساً مهماً في الحد من الإنفلات والفساد إذ يمكن إستخدام البيانات اللازمة من قِبل الجهات المختصة والمهتمين ومؤسسات الرقابة لمحاسبة الفاسدين ومساءلتهم، فمن خلال التحول الرقمي تولد الحكومات كمية كبيرة من البيانات الجديدة حول آلية البيروقراطية التي يمكن استخراجها من البيانات لتوليد طرق ذكية ورؤى جديدة، وأحيانًا ببساطة يمكننا فعل ذلك عن طريق الرجوع لقواعد البيانات. 

كمثال صغير شتان ما بين الشركة التي تقوم بمراجعة قاعدة بياناتها دورياً لمراجعة ملكية الأسهُم وبيانات الشراء والمعاملات وسجلات النشاطات المختلفة لتحتفظ بتوازن صعودها وبين الشركة التي تقوم بكتابة معاملاتها على الورق -وقد لا تكتب أساساً –فالمراجعة بالنسبة للثانية أمرٌ مرهق وغير مضمون فقد تضيع بعض الأوراق أو يقوم أحد المسؤولين أو الموظفين بإخفاء بعضها لأغراض الفساد المختلفة، أما الأولى التي تعتمد التكنولوجيا فإن كل المعاملات تُسجل في قاعدة البيانات ويتم عرض جميعها بكل شفافية.. 

وحينما تكون الشفافية على مستوى الحكومات فإن الأمر سيحقق تطوراً كبيراً عبر إتاحة البيانات اللازمة والعقود المختلفة التي تجعل المهتمين من المواطنين على تماس مع الأحداث الجارية لردع محاولات الفساد، وقد نجحت في ذلك بشكل كبير الحكومة المكسيكية التي قامت بتوفير بيانات ضخمة عبر (بوابة الشفافية المالية الحديثة fiscal transparency portal) التي اشتملت على العقود العامة واستثمارات البنية التحتية بالإضافة إلى التحويلات التي تتم إلى الحكومات المحلية، وبذلك أصبحت مكسيكو سيتي أول مدينة تكشف عن عقودها بشكل مفتوح وبالمقابل أتاحت الفرصة للتقنيين من المواطنين لإستخدام هذه المعلومات لفحص حكومتهم ورفع أعلام الخطر للكشف عن الممارسات والأنماط المخفية. أيضاً قامت المكسيك وكولومبيا وباراغواي بإستخدام المراجع الجغرافية Geo-referencing وتصور البيانات data visualization لرصد استثمارات البنية التحتية المعرّضة للفساد. كما قام بنك التنمية البرازيلي بإستخدام البيانات لمتابعة تقدم المشاريع الممولة من صندوق أمازون.

يمكن أيضاً الإستفادة من التكنولوجيا في ردع الفساد في الضرائب إذ يعتبر كلٌ من الذكاء الاصطناعي AI والتحليلات التنبؤية Predictive analytics أدوات فعالة للسلطات الضريبية ووكالات الجمارك لكشف وردع التهرُّب الضريبي. ويمكن لإدارة الضرائب عن طريق إستخدام تحليل الشبكة الاجتماعية social network analysis وتنقيب البيانات Data mining التي تشير إلى السجلات الضريبية للشركة والأفراد أن تكشف عن النشاط الاحتيالي أو النشاط الخفي. وتستخدم الخوارزمية التنبؤية كذلك لتحديد الأشخاص الأكثر عرضة لارتكاب الاحتيال الضريبي كما تساعد على تطوير واستخدام إجراءات وقائية للدفع.

    2.  الحد من السلطة التقديرية

إن أتمتة العمليات البيروقراطية تقلل من الضعف أمام التململ البشري[2]، فاستخدام التقنيات الجديدة تقلل من السلطة التقديرية التي يسيء المدراء عديمو الضمير إستخدامها للحصول على الرشاوي. 

ما يمكننا استخدام التقنيات لتأمين الهوية وتتبع الأموال وتسجيل الأصول وشراء العقود. وبذلك نضمن عدم إعتماد المواطنين على الرشاوي وهذا يحفظ المال ويضمن الحد من ظاهرة التسلط وقبول الرشاوي.

    3.حد من إحتكار الدولة

بدأت التقنيات الجديدة في تحدي إحتكار الدولة لإتخاذ القرارات العامة وتقديم الخدمات العامة إذ باتت الشركات الناشئة المهتمة بالتكنولوجيا الحكومية تقوم بتطوير حلول جديدة للطرق القديمة المستخدمة كما تساعد في كفاءة الحكومات فكمثال تقوم بعض الشركات بتحليل البيانات بتكلفة فعالة للحكومات المهتمة بتوظيف مختصي علوم الحاسوب. 

إن الشركات الحكومية الناشئة ليست مجرد طريقة جديدة لتقديم خدمات تكنولوجية جديدة للحكومة ؛ بل تعمل هذه الشركات الناشئة التي تعتمد على التكنولوجيا والتي تعتمد على البيانات على تغيير النموذج السائد لرسم السياسات وتقديم الخدمات تدريجيًا.

إننا اليوم أمام أكثر مثال حقيقي يشهد بنجاح الإدارات الإلكترونية تحت ظل هذه الجائحة، فالإدارات التي تعتمد التكنولوجيا بشكل رئيسي هي التي حققت الإزدهار. 

بشكل آخر يمكننا تناول أهمية التكنولوجيا أيضاً في الحد من الفساد المالي بشكل أخص عبر رقمنة الدفع، حيث تعتبر وسائل الدفع الإلكتروني هي الضامن للحد من الفساد المالي:

الدفع الإلكتروني والفساد المالي

يتم دفع مئات المليارات من المدفوعات والتحويلات والمعاملات بما في ذلك المدفوعات الصحية والمعاشات والدعم المادي للمحتاجين نقداً مادياً ويصعب عادةً تتبع هذه المدفوعات ما يسبب فجوةً بين الأرقام والسيولة الموجودة في المجتمع، ولا تظن عزيزي القارئ أن هذه مشكلة ثانوية أو غير مهمة فالتعامل بالنقد المادي يتسبب كل عام في خسائر تزيد عن 110مليار دولار في الاقتصادات الناشئة[3]. 

يوفر الدفع الإلكتروني للحكومات تقديم المدفوعات من خلال قنوات رقمية آمنة ومريحة وشفافة حيث تضمن وصول الأموال إلى المستلم المقصود بشكل كامل أو يتم إعادتها لخزائن الدولة وقد ضربت الكثير من البلدان أمثلة يحتذى بها في هذا المجال فقد وفرت الحكومة الهندية ما يقارب ال 9 مليارات دولار في أقل من أربع سنوات في مدفوعات الحماية الاجتماعية من خلال التحويلات الإلكترونية المباشرة Direct Benefit Transfers . كما نجد إنخفاض تسربات المدفوعات ونزول نسبة الذين يدفعون الرشاوي في الأرجنتين من 3.6% إلى 0.3% بعد تحولها إلى بطاقات الدفع الإلكتروني، كما أدت رقمنة أسعار الحافلات في رواندا إلى زيادة بنسبة 140 ٪ في الإيرادات بسبب انخفاض التسربات.

والفائدة لا تقتصر على الحكومات فقط، فالحسابات المصرفية والعمولة الرقمية توفر راحة للمواطن بكسب وقته بدلاً عن الذهاب للبنك أو البحث عن سيولة، ويقلل الدفع الإلكتروني تكاليف الوصول للخدمات المختلفة إذ بات من السهل شراء المنتجات من داخل المنزل أو ببساطة عبر سحب البطاقة. هذا بالإضافة لتوفير مكان آمن لحفظ أموالنا وإدخارها. ولذلك تعتبر رقمنة المدفوعات نقطة إنطلاق مهمة لمكافحة الفساد .

إن إستخدام التكنولوجيا يعتبر سلاحاً مهماً لضمان الكثير من التقدم لكن لابد أن أُنبه هنا من أهمية تأهيل البنية الإلتكرونية التحتية بشكل جيد قبل الولوج في هذه الخدمات، فبقدر الفوائد قد تُدَمَر الأنظمة الإدارية والمالية إن لم يكن أمنها جيداً وهذا ما سنتناوله في مقالاتٍ قادمة تطرح المخاطر الإلكترونية وكيفية تفاديها بإذن الله.