من بين المتقابلات المشهورة والمقولات الجاهزة في صفوف الباحثين في العلوم الإسلامية؛ والتي تحتاج إلى وقفة تأمل وتعميق نظر معادلة المتقدمين والمتأخرين، فمنذ أن ولجت الجامعة وأنا أسلم بالفضل والأفضلية المطلقة للمتقدمين على المتأخرين والمعاصرين، إلا أن تدقيق البحث في العلوم الإسلامية بين الماضي والحاضر، يكشف عن وجود مقارنات كثيرة تفتقد إلى عنصر التكافؤ بين طرفيها، فأصبحنا نحتاج إلى ما يمكن تسميته بـ "ضوابط المقارنة" ضوابط تضع كل طرف في سياقه الزماني والمكاني من أجل استخلاص خصوصيات كل مرحلة، باستحضار سياقاتها المتعددة، ومن ثم تحليلها وتقويمها والحكم عليها وفق ما أتيح من وسائل وأدوات ذلك العصر تحقيقا لمبدأ الإنصاف في قراءة التراث الإسلامي، وتقديرا للجهود المعاصرة المبذولة في سبيل تكوين رؤية واضحة لمستقبل البحث في العلوم الإسلامية بعد أن أفضى الأوائل إلى ما قدموه، وقد علق المرتضى الزبيدي على كلام لابن مالك في هذا الباب بكلام يكتب بماء الذهب قال: "والمعنى أن تَقدُّم الزمان وتأخُّرَه ليست له فضيلةٌ في نفسه؛ لأن الأزمانَ كلَّها متساويةٌ..."

ونقل أبياتا للأديب عبد الله بن سلامة المؤذن:

قل لمن لا يرى المعاصر شيئا…. ويرى للأوائل التقديما

إن ذاك القديم كان حديثا….وسيسمى هذا الحديث قديما [1] 

فهل كون العالم متقدما يميزه عن غيره؟ وما هي حدود الفصل بين المتقدمين والمتأخرين؟ وما السر في تسفيه اجتهادات المعاصرين عبر إخضاعها لمقارنات باطلة ومجحفة تفتقد إلى المنهج القويم في التوجيه والحكم؟

إن معظم من يريد إعطاء كل ذي حق حقه ومنزلته يعبر عن قصر نظر المعاصرين باعتكافهم على تراث المتقدمين بالشرح والتعليق والاختصار وكفى، فيجعل من ذلك تفسيرا وتعليلا مستساغا لأفضلية المتقدمين المطلقة.

 بل وحتى المعاصرين أنفسهم ما استطاعوا تقدير جهودهم فحصروها في الترتيب والتبويب والجمع ...يقول ابن عابدين من متأخري الحنفية" في حاشيته "ردُّ المُحتارِ على الدُّرِّ المختار": "وأنت ترى كُتُبَ المتأخِّرين تتفوق على كتب المتقدِّمين في الضبط والاختصار، وجَزالةِ الألفاظ، وجمع المسائل؛ لأن المتقدِّمين كان مصرِفُ أذهانهم إلى استنباطِ المسائل وتقويم الدلائل. 

فالعالم المتأخِّر يصرِف ذهنَه إلى تنقيح ما قالوه، وتبْيينِ ما أجْملوه، وتقْييدِ ما أطْلقوه، وجَمْع ما فرَّقوه، واختصارِ عباراتهم، وبيانِ ما استقرَّ عليه الأمرُ من اختلافاتهم، فهو كماشطة عروسٍ- ربَّاها أهلُها حتى صلحت للزواج - تزيِّنُها وتعرضها على الأزواج، وعلى كلٍّ فالفضل للأوائل"[2] 

بتحليل كلام ابن عابدين يتبين أنه بدأ بالثناء على جهود المتأخرين وشرع في تعداد بعض منها إلا أنه سرعان ما استسلم في آخر كلامه لفكرة الأفضلية.

صحيح أن للأوائل فضل ومزية في تقعيد العلوم وتأصيلها، ولكنهم لم ينفردوا بذلك، فتاريخ العلوم الإسلامية شهد تطورا كبيرا عبر القرون وإذا كانت غاية الفقه في الدين الإجابة عن نوازل وحوادث الناس، فإن ذلك يتجدد ويتغير بتغير الأزمنة، وما حديث تجديد الدين إلا دلالة على استمرارية مبدأ الخيرية وقد صخر الله عز وجل لهذا الدين من يجدده قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها." [3] 

ومن ثم فالاستشهاد على أفضلية المتقدمين من حيث العطاء العلمي بحديث خيرية القرون الثلاثة ليس على إطلاقه، قال عليه الصلاة والسلام" أمتي أمة مباركة لا يُدرى أولها خير أو آخرها"؟

فضل المتقدمين لا يستلزم تبخيس المتأخرين

صحيح أنه لا غنى لنا عنهم في بحوثنا ومشاريعنا العلمية لكن ذلك لا يسوغ لنا أن نجعل من السبق الزمني معيارا للأفضلية وسدا منيعا أمام الاجتهاد والتجديد حتى اشتهرت مقولة " لم يترك الأول للآخر شيئا" مقولة الاستسلام والركون والتقاعد عن العلم والبحث. فلم يبق للمعاصرين بموجبها أي مجال للنظر، بل وحتى الحق في ممارسة النقد والتقويم كآلية لتطوير مسارات العلوم أصبح تهمة عند الكثير.

إذا كان السبق الزمني معيارا للأفضلية فإن المعاصرين اليوم سيصبحون متقدمين غدا. فهل يتغير الحكم بتغير الزمان، وتنتقل صفة الأفضلية لهم، ويصير المفضول فاضلا والمعول عليه عالة؟ أم أن تقدم الزمان وتأخره ليست له أفضلية في نفسه؟.

 إذا أخذنا علم التفسير نموذجا، سنجد أن تفاسير المتقدمين يشوبها نوع من التكرار باعتماد اللاحق على السابق، حتى تظن أحيانا أنك قرأت تفسيرا واحدا فقط، سواء تعلق الأمر بالتفسير اللغوي أو الفقهي أو غيرها، بينما برع المعاصرون في التفاسير ليس من ناحية اختصار أقوال المتقدمين وتوجيهها فقط، وإنما من حيث التنبه لأنواع أخرى من التفاسير أكثر دلالة واستنباطا لأسرار القرآن، فوسعوا أفق البحث في التفسير وأتوا بفنون وأفنان لما لا تنقضي عجائبه من القرآن.

وفي الختام نشير إلى أن لكل زمان خصوصيات على مستوى تطور البحث في العلوم الإسلامية والعالم والفقيه إنما يستجيب لمتطلبات عصره وما يفرضه سياق محيطه ووجوده، وهذا ما يكون له واضح الأثر في الأعمال والتآليف، وليس من الإنصاف في شيء أن نقارن بين أزمنة تختلف سياقاتها ونحكم بأفضلية مرحلة على أخرى، لا لشيء إلا لكونها متقدمة فقد يفتح الله للمتأخرين في العلم أبوابا لما لم يسبقوا إليه.