حاوره أ. شمس الدين حميود

استضاف برنامج ساعة فكر يوم الخميس 27 أوت 2020م /الموافق لـ8 محرم 1442هـ  د.إرسين إشجي أوغلو مدير مدارس الجزري الدولية في بث مباشر على صفحة فيسبوك.

الحمد لله الذي علمنا من العلوم ما به كلّفنا، وصلى وسلم على محمد وآله وصحبه والمقتدي.

لطالما دعت الاتجاهات التغريبية في العالم الإسلامي إلى علمنة التعليم وتفريغ محتواه الفلسفي من الجوانب القيمية الرسالية مع التركيز على الفردانية والدنيوية في طابعها المادي، ما يجعل التساؤل قائما حول دور التعليم في زرع القيم وتهذيب السلوك، وما هو كائن حاليا وما ينبغي أن يكون في هذا السياق مع حديث عن المناهج والوسائل المستحدثة في التعليم، كل هذا وأكثر مع ضيفنا في هذا اللقاء الدكتور الفاضل "أرسين إشجي أوغلو" مؤسس مدارس الجرزية الدولية من تركيا.

التعليم ليس مُستقلًا عن السياسة.. «كيف بدأت قصةُ إنتاجِ المواطنة؟»  
 موضوعنا اليوم هو كيف يخدم التعليم هوية وقيم المجتمع؟ فتفضل دكتور في توطئة لهذا الموضوع. 

 

موضوع كبير ومهم للغاية سنسلط الضوء فيه على الخطوط العريضة وبناءً عليها سنبني التصورات الفكرية التي تنور العقول أولا ثم المجتمعات، قضية التعليم والهوية والمجتمع قضايا مركزية لابد لنا أن نُفصِل ونتعمق فيها ونتكلم على كل واحدة منها بالتفصيل. 

أولا: مسألة التعليم 

كما يعلم الجميع أن هناك مفهومين أساسيين يجب الغوص فيهما عندما نتحدث عن المناهج التعليمية، وهما التربية والتعليم، فقبل الأنظمة الإدارية في العالم وبعد القرن التاسع عشر، وقبل تكوين الدول القطرية، أي عندما كنّا نعيش في عصر الإمبراطوريات، حيث كان الناس يعرفون على أنفسهم من ثلاثة جوانب الديني والعرقي والجغرافي.

قبل القرن الثامن عشر عندما نتكلم عن التعليم نجده مقترنا دائما بالتربية القومية، فنجد المبادئ والأسس إضافة إلى الممارسات التعليمية في الدولة والمجتمع، لكن بعد تكوين الدول القطرية أصبح التعليم خارج نطاق القطاع المدني ودخل إلى اللعبة السياسية ما أدى إلى ظهور إيديولوجيات جديدة، في هذا اللقاء سنسلط الضوء على هذه الأيديولوجيات ومدى تأثيرها على الأمة الإسلامية.

 لكل دولة من الدول العربية بعد التقسيم (مصر، لبنان، تركيا...) تعريف خاص للكلمة السرية التي هي "المواطنة" بناءً عليه ينتجون دبلوماسية تعليمية خاصة لتكوين المجتمع المناسب لدولتهم.

 فلا يمكن أبدا أن نعتقد أن التعليم مستقل عن السياسة، بل هو تحت هيمنتها وما يخطط له أهل السياسة هو ما نتعاطاه في المناهج التعليمية، تماما كغيره من القطاعات يخضع لقانون الدولة، وهذا كله نتيجة انتقال العالم من فترة الحرب الباردة إلى عصر السرعة والتكنولوجيا والاتصالات. 

بدأت القصة منذ مائة وخمسين سنة بمسيرة سياسية، كل دولة تضع معايير لمعنى المواطنة تبني عليها صفات الشخصية السليمة التي تريد إنتاجها في الدولة وبذلك تكّون المجتمع حسب رؤية الأنظمة الحاكمة أو بالأحرى أصحاب السلطات العليا، وإذا تكلمنا عن استقلالية منهاج التعليم نجد أن الإنسان لو ولد في بيئة معينة ومنطقة محددة سيبقى إنسانا في ذاته وصفاته، والعمود الفقري لهذا الكائن لا يختلف، وكذلك الحاجات الأساسية التعليمية له لا تختلف.

 أي أنه ما أوجد الاختلاف في المناهج التعليمية هو هذه الحدودية التي يفرضها القانون الوضعي للدول، فيجعلون المتعلّم مقيدا وفق ما يريدون هم، ولا وجود لحرية التعليم في عالمنا الإسلامي، وأبسط مثال أننا في جائحة كورونا أصبحنا نبحث عن طرق للتعليم عن بعد دون أن نسأل فيما قد يفيدنا التعليم عن بعد في تخصصات تقنية صناعية، فلا يمكن أن تدرس إلا حضوريا، قد ينفع في تلقي السلوكيات أو اللسانيات لكنه لا يسد احتياجات المدارس الصناعية لتسُد الضعف الذي نعانيه في الصناعة، أو المدارس المهنية لتعلم وإتقان المهارات اليدوية! 

إذن هذا هو التعليم في عصرنا الذي نعيش فيه بغض النظر عن إمكانيات المجتمع، يتعين علينا أن نفكر بجدية بعيدا عن هذه الدائرة وننظر إلى أرض الواقع على المدى البعيد، ونبحث عن احتياجات الإنسان في التعليم والتربية، والطرق المساعدة لتجسيد هوية المجتمع بكل المعطيات التي تناسب الإنسان بفطرته، والمجتمع بفكرته.

منها «بيع الوهم بشماعة التحرر».. ظواهر التأثير بالمناهج التعليمية!  

في زمن مضى إبان الحروب كانت مناهج التعليم بالثانويات في بعض الدول تضيف مادة التربية العسكرية، لأن مفهوم المواطنة وقتها يتطلب الجهاد، لأن تلك الدول تحتاج إلى جيش من الطلاب المدربين في هذا المجال.

مثال آخر يصف هذه الظاهرة وهو تلك الحركة النسوية التي ظهرت في القرن الماضي ومازالت إلى الآن، والتي تدعو إلى تحرير المرأة وإخراجها من المنزل والمطالبة بالمساواة بينها وبين الرجل، هذه الحركة في الحقيقة كان دافعها الأول هو أن بعض الدول ممن تضرروا خلال الحروب وفقدوا عددا معتبرا من جنس الذكور، أصبحوا يحتاجون المرأة كمورد بشري عامل بديل عن الرجل وباعوا لها الوهم بشماعة التحرر من خلال المناهج التعليمية والتربوية، فخرجت للشارع وكان للسلطة ما أرادت. 

 هذا نوع من أنواع التأثير بمناهج التعليم على الأفراد والمجتمعات، ويجب أن ننتبه إلى خطورته حيث أنه بدأ يجافي الفطرة ويعمل على تشوييها. 

 مثل ما يروج له اليوم ضمن ما يسمى بـ "حرية اختيار الجنس" والتي تفيد بأن الذكر بعد أن يبلغ العشرين من عمره يصبح حرا في اختيار جنسه إما أن يصبح أنثى أو يواصل العيش على أنه ذكر، والأنثى كذلك، وهذا كله ناتج عن المناهج التعليمية والتربوية التي يتلقاها الطالب من قبل الدولة.

أيضا يجب أن ننتبه إلى جزئية "إجبارية التعليم"، فالذين لا يذهبون بأطفالهم إلى المدارس يعاقبون، إمّا أن تعلم ابنك ما تريده الدولة وإما تتم معاقبتك، وقد كان هذا بعد المؤتمر الخطير الذي أُقيم بأمريكا ثم تعممت قراراته في عدة دول أوروبية سنة 1920، حيث أن من أهم مخرجاته "وجوب الفصل بين جيل الأبناء والآباء".

وقد قال الخبراء فيه: "هذا الجيل ليس رخيصا لنسلمه للأهالي وعلينا الفصل بينهم وبين جيل آبائهم، ونربيهم تربية قومية عرقية حسب متطلبات الدولة، وإذا كانت هناك معارضة من أولياء الأمور نفرض عليهم غرامات مالية وعقوبات"، وهذا حدٌ من حرية ولي أمر الطفل المتعلم وإعطائها للسلطة.

 هذا ما هو كائن اليوم في كل العالم (تركيا، مصر، الجزائر، ماليزيا) تحت مسمى إجبارية التعليم الأساسي. في المقابل يمكن أن نقول أن إنسان هذا العصر يتمتع بمساحات شاسعة من الحرية، ولا يمكن للدولة ضبطه داخل مظلة جغرافية واحدة، فهو يملك حرية التنقل وطلب العلم في أي البلاد شاء. 

«المُجتمعات اليتيمة حضاريًا».. هكذا يبدأ ذوبان الهوية! 
ثانياً: هوية المجتمع 

وأول مكونات الهوية هي اللغة، فإلى أي الألسن ينتسب الفرد، وبأي لغة يُخَاطَب ويُخاطِب، من دونها نفقد القدرة على التواصل والتعرف، واللغة الأم مهمة جدا لتجسيد الهوية عند الإنسان، لكن كما هو معروف في العالم العربي أننا ابتعدنا عن لغتنا وتشتتنا بين لهجات متفرقة بدعوة من المعاهد التي أقيمت في خمسينيات القرن الماضي بمصر ثم في لبنان وبعدها انتشرت في باقي التراب العربي بحجة الحفاظ على التراث واللهجات المحلية، لكن الهدف الأساسي هو الفصل بين المجتمع ولغته الأم، لأن ذوبان الهوية يبدأ بالابتعاد عن اللغة. 

نفس الأمر الذي حصل في تركيا عندما تأسست الدولة سارعت السلطات بتغيير الحرف العربي باللاتيني، وكذلك تغيرت معه مخارج النطق، واللغة اللاتينية لها فلسفتها وسلوكياتها التي حلّت محل اللغة العربية.

 فأصبح المجتمع المسلم يتيما من الجانب الحضاري والتاريخي، كأنه شجرة بلا جذور، إضافة إلى مشكلة الغزو الفكري التي تمّ ممارستها في تركيا فأُخرجت المصطلحات الإسلامية من القاموس المتداول عند الشعب، مثلما حدث في الجزائر وتونس... إذن عندما تتغير اللغة تذهب هوية الفرد ومن ثم مقدّساته، وهذا ما حصل بالفعل.

بعد ذوبان عنصر اللغة وانحلاله يأتي الدور على عنصر الدين، لأن الطبيعة لا تأبى الفراغ، إذا أخرجت لغة معينة من دماغك ستحلُّ لغة أخرى محلها تلقائيا، ورمزية اللغة العربية تكمن في أنها أداة لفهم الوحي القرآني، إذا ذهبت العربية ذهبت معها الثقافة الإسلامية والعادات والتقاليد والأعراف الخاصة بالمجتمع الإسلامي، وهذا ما وجدته بالفعل عند زيارتي للمغرب العربي، حيث رأيت الثقافة الغربية حلّت محل الثقافة الإسلامية في المجتمعات المسلمة، فلا هم أصبحوا مجتمعا غربيا ولا هم حافظوا على أصالتهم.  

5 خصائص لمواجهة «السلطات التغريبيّة المُنتجة للبرامج التعليمية» 

وهنا تكمن الخطورة ويتضح لنا فقدان الهوية، ولم أستغرب ذلك لأن نفس الأمر يحدث في تركيا بسبب الحروب النفسية التي يمارسها الغرب والسلطات المنتجة للبرنامج التعليمية، حروب هدفها سلخ الهوية، وعليه فإنه ينبغي علينا مواجهة هذه الحروب بالتنبيه والتركيز على خصائص الإسلام الخمسة وهي: 

  1.عالمية الإسلام:

 أي أن الله عز وجل أعدّ العالم وهيأه من أجل الإنسان، فيمكنه العيش هنا أو هناك دون حرج، وهو حامل لفكرة وثقافة الإسلام أينما حلّ وارتحل. 

 2.شمولية الإسلام: 

ومن المصدات في عصرنا هذا لتفريغ الثقافة الإنسانية من خاصية الشمولية، كذبة التخصص وما يشاعُ بأن العصر الآن أصبح عصر الاختصاص، فالإسلام جاء لينظر في الإنسان من كل النواحي، لذلك فإن هذه التخصصات أفقدتنا هويتنا، طبعا هذا لا يعني أن الإسلام ضد التميز في تخصص ما فمن المستحيل أن يتقن المرء كُل شيء، ولكن يجب أن لا يجهل باقي المهارات والمفاهيم خارج تخصصه ولابد أن ينظر في كل الجوانب. 

  3.إنسانية الإسلام: 

الأنظمة التعليمية والتربوية للأسف علّمتنا أن نقيم العلاقات على أساس أمرين أولهما الجِنس فأصبح الرجل يستعد ويتهيأ قبل التكلم مع المرأة، فتتكسر روابط العلاقة الإنسانية التي هي الأساس ونتشبث بروابط العلاقة الجنسية، والأمر الثاني هو المصلحة المشتركة التي أصبحت قانون أغلب العلاقات بين البشر، لا وجود لمفهوم العطاء.

 وخير دليل على هذا قاعدة "ربح ربح"، فأصبحت الطيبة والكرم غباء، والاحتيال ذكاء، لماذا لا نعود إلى فطرتنا البشرية ونتعامل مع الجميع وفق أخلاق ديننا دون التمييز بين ذكر أو أنثى، أو فقير أو غني.

 بعيدا عن التصنيفات غير المقبولة كأن نقول هذا عربي أو هذا أعجمي، أو هذا مسيحي أو شيعي، فالله عز وجل قال عن نبيه صالح عليه السلام: "وإلى ثمود أخاهم صالحا..."، وكذلك مبدأ الحفاظ على حقوق الآخرين من أهل الذمة كما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، إذن علينا أن نتخلص من النظرات الضيقة والعرقيات والتحزبات التي تفقدنا الهوية الإسلامية الانسانية.

  4.واقعية الإسلام: 

نحن الآن نعيش على هامش الحياة، لا ننتج شيئاً يذكر لا في مجال الصناعة ولا التكنولوجيا ولا على مستوى الأيديولوجيات، نحن لا نعيش في واقع الحياة بل ننظر إليها من زاوية ضيقة وننقل تجارب الآخرين إلينا لنستعملها كما هي حتى وإن لم تتماشَ مع ثقافتنا، كأن الله تعالى خلق المسلمين فقط للعبادة والمناسك استهلاكا للوقت، وعليه فإنه لابد لنا أن نعود إلى الواقع وإلى الميادين ونصبح فاعلين حقيقين لا مفعولا بهم. 

 5.ربّانية الإسلام: 

في الحقيقة أن الغرب صنعوا العلمانية وسوّقوها للعالم الإسلامي دون أن يطبقوها هم في حياتهم فأصبحنا نفصل بين الدين والحياة، بينما هم لم يفعلوا ذلك والدليل على هذا أن المدارس المرموقة عندهم تحمل خلفية دينية سواء كانت مدارس أو جامعات، ولكننا نحن في القرن السابع عشر بدأنا نفصل بين المدارس الشريعة الإسلامية والمدارس المهنية.

في الختام هذه هي مقومات الهوية التي يجب أن نعود إليها ونبني على أساسها المناهج التعليمية والتربوية في مجتمعاتنا.

 إذن الله عز وجل خلق الإنسان وأنزل عليه الوحي لينظر إلى الحياة من منظاره فلا يحيد عن إنسانيته، ويحافظ على نفسه من خلاله، لكن للأسف نحن جزأنا الحياة إلى تخصصات وابتعدنا عن الواقع والعالم.

ومهما حاولنا التطور والالتحاق بركب الحضارة لن يحصل ذلك إلا إذا عدنا إلى هويتنا الأصلية وبنينا على أساسها المناهج التعليمية، لأن الحل في الإسلام والهوية ذاتها وليس في الإمكانيات، نحن لدينا إمكانيات ورصيد معرفي لابأس به لكننا لا نملك ذواتنا وحقيقتنا. 

لماذا مناهج التعليم في خدمة طموحات الدول! 
 شكرا جزيلا على ما تفضلتم به وعلى هذا التفصيل الممتاز..بارك الله فيكم، اسمحوا لي أن أطرح عليكم بعض الأسئلة، في البداية تحدثتم عن التعليم والمواطنة ولعل الموضوع له علاقة مباشرة بالهوية فكيف يمكن أن يعكس التعليم الاهتمام بترسيخ المواطنة؟ 

  عندما نعود إلى الكتب الخاصة بمناهج التعليم نجد أن التعليم لأمرين الأول هو لتعليم الإنسان القراءة والكتابة، والأمر الثاني هو تعزيز الهوية القومية عنده، أي أن هذه الأنظمة التعليمية وضعت أصلا لترسيخ المواطنة لدى الإنسان، ولا يمكن الفصل في المناهج التعليمية بين الهوية القومية التي تفرضها السلطات وبين التعليم. 

وعلى سبيل المثال ألمانيا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة، لكنها استعادت السيطرة بعد أن أولت أهمية كبيرة للتعليم وربطت بين الأنظمة التعليمية وبين الصناعة، وقد اعتمدت في الثانويات على أسلوب التعليم التطبيقي، بمعدل ثلاثة أيام في المدرسة ويومين في المصنع، وكذلك في روسيا حيث استعملت التعليم للاهتمام بالجانب الزراعي فتجد أغلب الطلاب هناك متمرسين في هذا المجال، لكل دولة طموحات وهذه الطموحات لا تستطيع الوصول إليها إلا من خلال مناهج التعليم. 

الذكاء في الريادة.. فيلٌ من خمس حضارات أول روبوت! 
يتحدث فيليب كوبر في كتابه عن الأزمة العالمية للاضطرابات التربوية الأخلاقية التي نجمت عن الثورة التكنولوجية، كما أشار عديد من الباحثين إلى أثر العولمة على القيم، في رأيكم دكتور هل يعتبر التطور التكنولوجي والانفتاح المتواصل على العالم تحديا يحتم على أهل الاختصاص من أمتنا أن يطوِروا في أساليبهم وطرق معالجة مشاكل الأمة؟ وهل المشاكل التي كنا نعاني منها قبل عشرين سنة ليست نفسها التي نعاني منها الآن؟ 

  أنا لا أرى أن التطور التكنولوجي ذا تأثير سلبي على العالم الإسلامي، بل بالعكس أعتبره أداة تمكين تتيح لنا قطع خطوات كبيرة للريادة العالمية، فقط نحن نحتاج إلى إرادة حقيقية، وخطط ذكية ونفس طويل للوصول نحو الهدف، ولكل وسيلة إيجابيات وسلبيات نحن من نحدد طريقة استخدامها والانتفاع بها. 

ولهذا أطلقنا على مدرستنا اسم "مدرسة الجزرية للعلوم والتكنولوجيا"، لأن الجزري -رحمه الله- عالم كبير وهو أول من صنع "روبوت" في العالم وقد كان ذلك في القرن الثاني عشر، آنذاك لم يكن العالم يفكر في صنع "الربوتات"، والجزري لم يكن مهندسا فقط بل كان مفكرا حضارياً أيضا، نذكر أنه قد صنع الفيل من الحضارة الهندية ووضع فوقه سجادة إيرانية وفوقها وضع التنين الصيني وأعلاهم جميعا وضع صلاح الدين الأيوبي، وجمع بذلك كل الحضارات في آلة لنفع البشرية، هكذا يكون الاستخدام التكنولوجي للنهوض والصناعة، نفس الشيء بالنسبة للخوارزميات في الرياضيات وما أُسس من خلالها من علوم أهمها علم اللوغاريتم، هذا الإرث العلمي هو ما يدفعنا لاقتحام ميادين الاختراع والتكنولوجيا لنعود للعالم من جديد. 

  «التربية ماءٌ لا نشربه في الصف!»  
يقال أن تلقين القيم والأخلاق في المناهج التعليمية لا يجب أن يقتصر على النصوص والشعارات النظرية بل يستدعي تفعيلا ومعايشة اجتماعية، في رأيكم دكتور كيف يمكن الانتقال من الجانب النظري للقيم إلى الجانب التطبيقي التفعيلي؟ 

 في المناهج التعليمية نستطيع هيكلة المعارف والعلوم على شكل دروس ومفاهيم، لكن لا يمكننا أن نمنهج الجانب التربوي، لأن التربية ماء لا نشربه في الصف الدراسي فقط بل في البيئة بأكملها، لأنها تتعلق بكل مفاصل الحياة الإنسانية، ولا يمكن أن نضعها في قوالب منهجية.

 أخطأنا خطأ فادحا عندما وضعنا التربية الإسلامية في الكتب وبقينا ننتظر أن يلتزم الطلبة بالأخلاق من بعد حفظها وهي على شكل آيات وأحاديث نبوية، التربية محتاجة إلى طبقة مجتمعية مهتمة ذات كفاءة، كما نحتاج إلى التربية الأسرية، وللدولة دور أيضا في هذه العملية تتكفل به وزارة الثقافة أو وزارة التربية بوضع آليات مدروسة ومحددة.

 غير أنه من غير المقاصد الشرعية أن نفصل بين التعليم والتربية، فالتعليم ليس هدفا بل وسيلة لإنتاج سلوكيات مميزة، أو مهارات أو صناعات، لذلك علينا أن نربط بين التربية والتعليم.

منبر الإمام ومكتب الأستاذ.. لماذا الفصل بينهما؟ 
حديثكم عن التربية يقودني لسؤالكم عن دور المربي والمعلم في مصفوفة صناعة القيم من خلال التعليم؟ 

  إذا عدنا إلى تاريخنا قبل مائتي سنة، هل كان المعلم والمربي شخصين منفصلين عن بعضهما؟ بالتأكيد لا، فقد كان أئمة المساجد وشيوخها هم من يدّرسون الطب والفلسفة والرياضيات، وفي نفس الوقت نأخذ منهم الأخلاق والدين، أما اليوم فالمعلم مكلف بمادة معينة وبمقرر محدد إذا خرج عن نطاقه تتم معاقبته، فكيف ننتظر من المعلم أن يربي الأجيال، وأنا لا أقلل من قيمة المعلم، وقد ثبت في الأثر عن نبينا الكريم أنه قال :"نحن بعثنا معلمين"، للمعلم دور أساسي ولكن لابد له أن يكون كفءً من حيث الأخلاق والمعرفة. 

أريد الإشارة إلى نقطة مهمة وخطيرة جدا بهذا الخصوص، وهي أنه في العالم الإسلامي عندما أعيد تأسيسه، تم الفصل بين إمام المسجد، ومعلم المدرسة، هذا الفصل بين المنبر ومكتب الأستاذ هو ما أرهق كاهلنا ونحن نحاول المضي قدما نحو الحضارة.

هل ما تعيشه أمتنا اليوم من استهداف لدينها ولغتها وتكالب الأعداء عليها يؤثر على الإسلام من حيث الشمولية والعالمية أم أن الإسلام كدين شيء وأمتنا واقع آخر؟ 

 الإسلام في النهاية منظومة معرفية ليس بضاعة تباع وتشترى، لا يجب أن نقبل تخلفنا وتقدم الغرب علينا، وتسلطه عليه، أرجو من الأخوة أن يتركوا هذا الكلام، وإذا لم تكن لك ثغرات لا يمكن أن تدخل الآفات إلى بيتك، نحن الذين قصرنا وتخلفنا عن الإسلام، فنحن عندما أدخلنا هذا الدين العظيم إلى ثقافتنا لم نجعله سائدا بل جعلنا نوازعنا وثقافاتنا العرقية سائدة عليه وهو الذي يعلو ولا يُعلى عليه. 

مدارس تجمع بين الحكمة الإلهية والمعرفة البشرية
 كسؤال أخير دكتورنا الفاضل نوَدُّ أن تحدثنا عن مدارس الجرزي الدولية وعن رؤيتها. 

  بدأت مسيرتنا في هذه المدرسة بالبحث في المناهج التعليمية، وبعد ما رأيناه من الثغرات، قررنا أن لا نطبق أيا منها وقمنا بتكوين منهاج جديد يتناسب مع رؤيتنا وهويتنا ويتناغم مع الفطرة الإنسانية السليمة، وعملنا على تطويره ليجمع بين المعرفة البشرية والحكمة الإلهية، بحيث أنه يبدأ بتخصصات في حياته العلمية وينتهي بتخصصات في الحياة المهنية، إضافة إلى الأندية (النادي الرياضي، النادي المهني، نادي الفنون الجميلة...)، ولدينا قسم خاص باكتشاف مهارات الطالب من أجل برنامج التطوير الذاتي، يشرف عليه أساتذة متخصصون في علم النفس، والاجتماع، والتربية، ويعملون على اكتشاف مهارات الطلبة من سن مبكرة، ومن الجانب الأكاديمي المعرفي برمجنا فيه كل المواد العلمية.

 نعتمد في الدراسة على ثلاث لغات، التركية للجانب الاجتماعي، والإنجليزية للجانب العلمي التقني، واللغة العربية في الجانب السلوكي التربوي لتجسيد شخصية الطالب، ونعتمد على مقاصد الشريعة الإسلامية في منهاج الخاص بالمدرسة. 

وللمدرسة جناحان واحد دولي وآخر وطني والمقر الرئيسي في اسطنبول والمقر الثاني بمدينة الفاتح.