تقرؤون في هذا المقال تفريغ محاضرة (سننية التاريخ في فكر مالك بن نبي من التأصيل النظري إلى البرهان التطبيقي) والتي قدمها د. د.حسن بوبيدي يوم الخميس 20 أغسطس أوت 2020/الموافق للفاتح من محرم 1442هـ ضمن فعاليات الندوة الافتراضية لمالك بن نبي والتي بثتها صفحة مدونات عمران بالتعاون مع مؤسسة مالك بن نبي للأبحاث وقناة الأنيس الفضائية.
لطالما عكفنا في هذه الندوة على أن نقترب من فكر مالك بن نبي ونعرف فلسفة الحضارة لديه، تحدثنا عن الكثير من الجوانب مع مختلف الأساتذة والدكاترة والباحثين، وفي هذه المحاضرة سيكون الحديث عن التاريخ بين التأصيل النظري إلى البرهان التطبيقي من تأطير الأستاذ حسن بوبيدي، حيث سَنَنْنحَى منحيين ألا وهما المنحى التاريخي والمنحى الفلسفي في محاولة لطرق بعض المواضيع من أجل إثراء ما قيل في هذه الندوة من طرف قامات فكرية سابقة، فالمَوضوع الذي سنَتناوله هو محاولة الانتقال بفلسفة مالك بن نبي من أصولها وأسسها النظرية التي نثرها في العديد من كتبه وفي مقدمتها كتاب شروط النهضة إلى مُسائلة هذه النظرية تطبيقياً حول إمكانية إقامة الأدلة على هذه الأسس النظرية التي قدمها مالك بن نبي تغشاه رحمة الله تعالى وغفرانه.
أحاول أن لا أُكثر من إستعمال المُصطلحات التي قد تكون مميزة لمثل هذا النوع من الدراسات، والهدف من ذلك هو أن يفهم المتابع الفكرة التي أُريد إيصالها وبالتالي هذه المُحاضرة إن شاء الله ستكون مقسمة إلى مجموعة من النقاط الأساسية:
- المقدمة: سنتناول فيها بعض الجزيئات ونعرف بأحد الكتب الجديدة التي سوف تصدر قريباً بإذن الله تعالى حول مالك بن نبي عليه رحمة الله تعالى.
- أولا: حركة التاريخ عند مالك بن نبي وإعادة تشكيل النظرية الخلدونية من مُنطلق حضاري.
- ثانيا: تجليات الروح في عهدي النُبوة والخلافة الراشدة.
- ثالثا: لحظة صفين ومرحلة العقل، الخلل السياسي وبقايا مؤثرات الروح.
- رابعا: إنسان ما بعد الموحدين.
- خاتمة.
هل يحضر التاريخ عند مالك بن نبي باعتباره مؤرخاً ومُفكراً وباحثاً في السنن الكبرى؟
لا بد هنا أن أقول كلمة مفتاحية حول طبيعة حضور التاريخ عند مالك بن نبي، هل يحضر التاريخ عند مالك بن نبي باعتباره مؤرخاً ومُفكراً وباحثاً في السنن الكبرى التي تحكم حركة المجتمعات في حضارة ما؟
حضور التاريخ عند مالك بن نبي باعتباره إستدلالاً على القواعد التي يؤسس لها حول الحضارة، ولا يحضر التاريخ عنده باعتباره مؤرخاً، فإذا أردنا أن ننظر إلى طبيعة الاستدلالات التاريخية الموجودة في مختلف كتب مالك بن نبي بما فيها كتاب الظاهرة القرآنية الذي كأنه عبارة عن سيرة موجزة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقول بأن طبيعة حضور التاريخ عند مالك بن نبي هو حضور استدلالي.
يحضر عند مالك بن نبي من التاريخ الأحداث التي يرى أنها ذات دلالات كُبرى يستدل بها على المنعطفات التي يؤسس لها، فمن خلال المادة التاريخية الموجودة، مالك بن نبي يمَكِنُنَا أن نلاحظ أنها هي المادة التي تعود إلى الكتب والمصادر التاريخية الإسلامية الشهيرة جداً مثل طبقات ابن سعد، أو مروج الذهب للمسعودي، أو تاريخ الرسل والملوك للطبري، أو كتاب العِبَر لإبن خلدون، و بالتالي فهذه النصوص هي نصوص يمكن وصفها بالأولية التي تعرفنا بالتاريخ الإسلامي المُبكر.
إذا مالك بن نبي لا يبحث هنا كمؤرخ يوظف الأدوات التاريخية ومناهج البحث والنظريات المتشابكة والمداخل المختلفة والعُلوم المساعدة للتاريخ، لا ينظر مالك بن نبي من هذا المنطلق للتاريخ، لكنه يكتب التاريخ بمنطلق الباحث عن استدلالات لنَظرية فلسفية سنأتي إلى الحديث عنها فيما بعد.
هنا سأقول عندما نتكلم حول فلسفة التاريخ لابد أن نفرق بين فلسفة التاريخ وبين التاريخ، القضيتين مُختلفتين فإذا كان التاريخ هو بحث في إقامة شبكة من العلاقات من خلال المناهج والأدوات المختلفة لفهم الحوادث التاريخية، فإن فلسفة التاريخ هي البحث عن السنن أو القوانين أو العلل الكبرى التي تحرك تاريخ الأمم وحضارتها، وتدفع بها من مرحلة اللاوجود إلى مرحلة الوجود لتصل بها إلى مرحلة الاكتمال ثم الأفول.
فالكِتابة حول فلسفة التاريخ هي الكتابة التي تبحث عن هذه العلل الكبرى، وهنا نستطيع أن نتذكر ابن خلدون، صامويل هنتنجتون، هيغل، ماركس، توينبي إلى غير ذلك من الذين حاولوا أن يضعوا تصورات عامة لما يحكم حركة التاريخ، إذا قلنا هل كان يبحث مالك بن نبي عن هذه الأصول الكبرى؟ هل كان يبحث عنها كأصول عامة أم كان يبحث عنها ضمن هدف محدد؟
نعم كان مالك بن نبي يبحث ضمن هدف واضح ومحدد مسبقا، وهو محاولة الإجابة على السؤال الذي طرح ولا يزال يُطرح لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ لذلك ورغم وجود استدلالات من حضارات أخرى في كتابات مالك بن نبي المختلفة، إلى جانب أن الهم الذي كان يدفع مالك بن نبي هو هم البحث في حضارة المسلمين، أسباب رقيها وأسباب أفولها وتراجعها.
4 علب أرشيفية فرنسية تكشف ولأول مرة تاريخ مالك!
نحن دائماً نعرف بأن هنالك علاقة قوية جدا بين أي فكرة وبين المسار الخاص لصاحب الفكرة، لأنه لا يمكن الفصل بين مستوى التنظير وطبيعة التكوين الفكري والعلمي والحوادث التاريخية المؤثرة في فكر مالك بن نبي.
هل كُتِبَ تاريخ مالك بن نبي أم لم يُكتب بعد؟
أريد أن أحوز على السبق للإعلان عن ظهور كتاب جديد إن شاء الله، متأكد أنه سيُثير الكثير من الجدل في ساحة المهتمين بتاريخ مالك بن نبي، وبعد استئذان من المؤلفين الفاضلين سأعطي هذا الإعلان عن صدور هذا الكتاب ثم الدخول إلى المحور الأول.
الكتاب الذي ننتظر صدوره من الأستاذين الفاضلين الأستاذ رياض شروانا الباحث في صوربون والأستاذ علاوي عمارة أستاذ التاريخ الوسيط بِجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، هو كتاب مالك بن نبي في وثائق الأرشيف الوطني الفرنسي، الكتاب تتبع كل ما سجله الإستعمار الفرنسي حول مالك بن نبي، متى بدأ يهتم به؟ متى لفت إنتباه مصلحة الإتصالات الشمال الإفريقية وبدأت تسجل كل محاضراته، وانتقالاته وسفرياته سواء في الجزائر أو فرنسا؟ اهتمامها بِكتبه ومقالاته إلى غير ذلك. الكتاب يحتوي على أربع علب أرشيفية نذكر اثنتين منها:
- عُلبة مصلحة اتصالات الشمال إفريقية في قسنطينة والجزائر ووهران.
- العلبة المتعلقة بالملف القضائي والأمني لمالك بن نبي بعد تعرضه للإعتقال بين سنتي 1945 – 1946 بتهمة تهديد مصالح الدولة الفرنسية ودعم النازية.
الكتاب مهم جدا فيه رسائل غير منشورة من قبل لمالك بن نبي، فيه أسئلة وتحقيقات ومتابعات في الكثير من الأمور، وهو يكشف لنا عن خفايا مالك بن نبي، لابد لنا أن نفهم أن الأرشيف يحتوي على التاريخ ويحتوي على الانطباعات المسجلة حول الشخص المتابع، والمؤرخون الذين يمتلكون أدوات الكتابة التاريخية سَيفرقون بين ما هو تاريخي، وما هو انطباعي من طرف الإستعمار الفرنسي، هذا الكتاب سوف يصدر عن مؤسسة الشيخ عبد الحميد بن باديس لمكانة مالك بن نبي ضمن رموز الإصلاح في الجزائر، وإن شاء الله سيرى النور قريبا وقد تأخر بسبب ظروف الوباء.
حركة التاريخ عند مالك بن نبي.. إعادة تشكيل النظرية الخلدونية من مُنطلق حضاري
في هذه المسألة أريد أن أشير إلى أن مالك بن نبي في عرضه لفلسفته التاريخية، هو ينطلق أساساً من عرض شبيه بفكرة ابن خلدون الذي تجاوز السرد الحدثِي التاريخي لينتقل إلى محاولة البحث عن العلل الكبرى التي يمكنها أن تؤسس لقيام حضارة وسقوطها، من خلال ما هو معروف بنظريته حول العصبية والدولة، إذاً مالك بن نبي هو من هؤلاء الذين كتبوا ضمن البحث عن الأدوار الحضارية، هو لم يستخدم نفس مصطلحات ابن خلدون رغم أنه أثنى على نظريته، ولكن أثنى عليها لأنها تؤسس لمسألة التعاقب والأدوار، والانتقال والبحث عن أسباب الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، من مرحلة اللاوجود إلى مرحلة الظهور ثم مرحلة التلاشي والأفول، فمالك بن نبي هنا يمكننا أن نتعاطى معه كما نتعاطى مع ابن خلدون أو غيره من الذين تكلموا عن الأدوار الحضارية.
لكن مالك بن نبي إذا نظرنا إليه نرى أنه أبدع مصطلحاته الخاصة التي تنتمي إلى الحقل المعرفي الذي يجيده، وبالتالي فهو أعطى نظريته مفاتيحاً ينبغي فهمها قبل محاولة فهم النظرية في حد ذاتها. ينطلق مالك بن نبي كما يعرف الجميع من إستعمال مصطلح الحضارة، الحضارة التي اعتبرها أنها هي الإنسان صاحب الفكرة والإرادة والفعالية، زائد التراب الذي هو الأساس المادي الذي تقوم عليه الحضارة، زائد الزمن الذي هو الوقت الذي تحتاج إليه لتَفاعل هذه العناصر التي كما يقول مالك بن نبي هذه العناصر لا يمكنها أن تنتج شيئاً بالتَكديس، وإنما تنتج إذا أدت الفكرة فعاليتها في الزمن.
لكي نفهم حركة التاريخ عند مالك بن نبي لابد أن نفهم ثلاثيات مالك بن نبي، المتمثلة في:
- ثلاثية الحضارة التي هي الإنسان والتراب والوقت.
- ثلاثية الصيرورة والتي هي الروح ثم العقل ثم الغريزة.
- ثلاثية العوالم المسيطرة، والتي هي عوالم كل من الأفكار والأشخاص والأشياء.
- ثلاثية اللحظات التاريخية والمنعطفات الكبرى في تاريخ الحضارة الإسلامية، وهي لحظة حراء ولحظة صفين ولحظة الموحدين.
وبالتالي فإننا نحتاج لفهم هذه الثلاثيات جيداً لفهم نظرية مالك بن نبي. وهي بالأساس تقوم على فاعلية الفكرة الدينية المتمثلة في إخراج مجتمع ما كان يعيش خارج عجلة التاريخ، وإدخاله داخل التاريخ؛ إذاٌ الفكرة الدينية هي التي تخرج الأمة من حالة الغياب لتُقحمها في حالة الشهود الحضاري، لأنه تكوين الإنسان النفسي كما يقدمه مالك بن نبي هو الذي يسمح للفكرة عندما تكون متعالية –وهنا أتكلم عن الدين باعتباره ينفذ إلى شغاف قلوب الناس وأرواحهم ويعيد تشكيلها من جديد-
فالفكرة تخترق النفوس وتحركها وتعطيها الدافع والتوتر الداخلي الذي يستعمل له مالك بن نبي كلمة الفعالية كثيراً في مختلف كتبه، وبالتالي هو الذي يؤدي إلى الانخراط في حركة التاريخ والتأثير فيها، بينما إذا فقدت الفكرة المحركة، فإن العوامل الأخرى لا يمكنها أن تنتج حضارة ويستمر الإنسان في حالة من الركود والوجود خارج الفعالية التاريخية، لذلك نرى أن مالك بن نبي ركز كثيراً على أنواع المجتمعات التي تنبثق من خلال فكرة دينية.
يفرق مالك بن نبي كما يعرف المطلعين في كتبه بين نوعين من المجتمعات:
- المجتمعات التي يسميها بالمجتمعات الجغرافية التي تجتمع مجموعة من الظروف المعينة في نشأتها وتكوينها وهذا هو عبارة عن تجمع بالمعنى العام.
- المجتمعات الفاعلة التي يمكنها التأثير في مسار التاريخ وهي المجتمعات التي تنطلق من الفكرة الدينية التي تحركها لمواجهة التحديات.
ربما هنا قد نشبه هذه النظرية لما نجد فيها من خيوط نظرية التحدي والاستجابة عند توينبي، لهنا يقدم مالك بن نبي التاريخ الإسلامي كأحسن تمثل للفكرة الدينية في هذا التحول الكبير والكبير جداً، أمةٌ كانت على هامش التاريخ، كانت قبائل متناحرة بعضها كان تابع للفرس، وبعضها للبيزنطينيين وبعضها كان يتعرض للغزو الخارجي من مختلف الجهات، ثم تأتي الفكرة الدينية تقذف في قلوبهم ذلك الإيمان العميق بأنهم أصحاب الحق وأصحاب رسالة الإستخلاف والشهود على العالمين، وبالتالي تقحم هذه الأمة كاملة في صيرورة الأحداث، وتؤثر فيها -لنكون هنا وفق ما أشرنا قبل قليل- دخلنا في ثلاثية المراحل التاريخية، هذه المرحلة التي يسميها مالك بن نبي بمرحلة الروح، لكن عندما يتراجع تأثير هذه الفكرة تتداخل بين الفكرة وبين حمَلتها.
نكون هنا قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة هي مرحلة العقل ونكون قد خرجنا من عالم الأفكار إلى عالم الأشخاص، أما عندما تموت الفكرة تماماً وتخبو لا نجد لها تأثيراً، وتتكسر شبكة العلاقات الإجتماعية المستندة إلى هذه الفكرة، هنا نحن ننتقل إلى المرحلة الثالثة عند مالك بن نبي وهي مرحلة الغريزة وهنا نحن نتكلم عن عالم الأشياء الذي يعتبر المرحلة الثالثة التي تنبئ بعملية سقوط أو إنهيار حضاري.
ما الذي يجب أن يحدث لكي تدخل أمة ما في مسار التاريخ؟
هو أن تتعاطى هذه الأمة مع هذه الفكرة إيماناً بها وتمثلاً لها، ومحاولة تطبيقها في الواقع، وبالتالي فإن الأمة قد بنت شبكة علاقات إجتماعية تستند إلى الأفكار وأسست لأشخاص يمتلكون المثل العليا ويعملون على ترجمتها واقعياً، ولكن إذا تراجعت الفكرة فإننا نسير نحو تراجع في الحضارة، ربما يكون هنا إشارة مهمة، إلى أن كلمة الفكرة الدينية عند مالك بن نبي عندما يطرحها ليس بالضرورة أنه يقصد بها الإسلام فقط، لكنه دائماً يضرب الإسلام كنموذج ولأنه همه الذي حَركه للكتابة، ولكنه يقول بأن فاعلية الفكرة الدينية دائماً هي فاعلية كبيرة وكبيرة جداً.
هذا هو التصور الخلدوني بالمراحل الثلاث مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة، أو هذا هو عالم الأفكار ثم عالم الأشخاص ثم عالم الأشياء، أو لنقول إذاً دخلنا في تاريخ العالم الإسلامي هذه هي لحظة غار حراء وصفين ولحظة ما بعد الموحدين.
مالك بن نبي يقدم الجاهلية التي عاشها العرب على أنها خارج التاريخ، وبالتالي فإن كلمة إقرأ في غار حراء هي التي أدخلت الأمة العربية عن طريق الإسلام في فلك الحوادث، وأدت إلى أن تصبح الفاعل الأول والأساسي في شبه الجزيرة العربية، وحوض المتوسط لقرون طويلة، بسبب الفكرة الدينية خرج العرب من خارج عجلة التاريخ إلى داخل الصيرورة التاريخية، لأنهم إمتلكوا تلك الفكرة الناظمة التي انبثقت وانْبلجت في غار حراء، وامتلك من خلالها صحابة النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم رضوان الله عليهم فعالية كبيرة تمحورت حول هذا الوحي، وحول صدقية هذه الرسالة، وضرورة تمثلها وممارسة دورهم الحضاري.
إذا قوة تأثير الفكرة حسب مالك بن نبي جاء نتيجة ذلك التمثل الصادق بالفكرة، وهنا يقول مالك بن نبي بأن الله عز وجل هيأ هذه الظروف للإسلام لأن المنطقة التي بُعِثَ فيها النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن فيها تلك النزاعات الدينية والفلسفات القنوصية والقرمطية، والنقاشات التي اشتعلت داخل المسيحية بصفة عامة.
من العناصر التي ركز عليها مالك بن نبي واعتبرها دليلاً على فاعلية الفكرة الدينية هو معركة بدر التي دارت بين فئة قليلة مسلمة وفِئة كثيرة كافرة، والإنتصار الذي مثله يوم الفرقان في تاريخ الإسلام وفي تاريخ الدعوة، هذه النماذج وهذا الإنتصار يعتبره مالك بن نبي هو فعالية للروح وللفِكرة، هو التمثل الصادق.
وبالتالي سرعة الإنتصارات إذا قارناها بعمر الدعوة النبوية في مكة أو المدينة، ثم إذا نظرنا إلى ما تحقق خلال سنوات الخلافة الراشدة من إنتقال أمة لم تكن موجودة في التاريخ، إلى أمة هي الفاعل الأساسي بعد حوالي عشرين سنة فقط من تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.
إذا عدنا إلى مرحلة أبو بكر الصديق وقدرته الكبيرة في قمع الردة وإحباط محاولة كسر هذا الدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم، حركة الفتوحات والتوسعات التي تمت ضد الفرس الذين تم إنْهائهم تماماً وضد البيزنطينيين الذين تم طردهم بعيداً عن المجالات القديمة للعنصر العربي، ثم الوصول إلى مجالاتهم التقليدية إلى غير ذلك من الفتوحات شرقاً وغرباً.
فهذا مثال على فطرة الروح وتمثلها للقرآن الكريم، رغم ذلك يقول مالك بن نبي أن هذه الفترة بدأت تدريجيا تنفتح على إنبلاج عالم الأشخاص، وبالتالي إنتبه مالك بن نبي هنا أن التاريخ ليس فيه قطيعة مباشرة لكنها عبارة عن تراكمات ستؤدي تدريجيا إلى الخروج من مرحلة الروح، والدخول في مرحلة الأشخاص التي يعتبر مالك بن نبي أنها بدأت أساساً من خلال معركة صفين، إذاً من خلال معركة صفين نكون قد دخلنا في نموذج ثاني.
معركة صفين بالنسبة لمالك بن نبي هي منعطف مهم جداً لأنها بالنسبة إليه هي التحول السياسي الكبير من عالم الشورى إلى عالم الإستبداد، ربما هنا نحتاج إلى تركيز بأن مالك بن نبي اعتبر أن تراجع مرحلة الروح أو تراجع عالم الأفكار برهانه الأساسي برهان سياسي، لنفهم التأثير الكبير الذي تمارسه السياسة في نهضة الأمة أو في تراجعها، فالقضية السياسية ليست قضية بسيطة من توافه الأمور أو هوامشها، فمالك بن نبي يعتبر أن التحول من الخلافة الشورية إلى الحكم الجبري الاستبدادي الذي يعتبر أنه بدأ بمعركة صفين هو يبين الخروج من عالم الأفكار والانخراط في عالم الأشخاص، ربما يقول قائل لماذا ليس مقتل عثمان رضي الله هو الذي يعتبر منعطفاً لحدوث الفتنة الكبرى بين جيل الصحابة، وذلك لأن مالك بن نبي يرى أن الفكرة حتى في حالة الحرب كانت فكرة فاعلة، ويرى أن التراجع الحقيقي عن الفكرة هو الذي كان سببا في التراجع عن الشورى وترسيخ الاستبداد.
بالنسبة لي لا يمكن التجاوز ببساطة لما حدث بإعتبار أن الفكرة وحدها هي الفاعلة، لأن الذين انخرطوا في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه لم يكونوا في جملتهم من ذلك الجيل الذي تربى في مدرسة النبوة، ولكن الكثير منهم كبروا وفهموا الإسلام خارج البيئة التي ربى فيها النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته وبالتالي ذلك لمنعطف يحتاج إلى دراسة.
إذاً تعبير مالك بن نبي بأن السياسة هي جوهر المشكلة، ولكن فاعلية الروح قد بقيت مؤثرة، فالإنْجازات الحضارية التي وقعت في فترة الدولة الأموية ثم الدولة العباسية كانت بسبب فعالية الفكرة في المجتمعات، وأيضاً في المصلحين وفي الدعوة إلى غير ذلك.
أنا أعترض على النماذج التي قدمها مالك بن نبي كاستمرار لفعالية الفكرة سواء النموذج الخارجي الذي هو عبارة عن يقظة سياسية، أو النموذج المعتزلي الذي هو نموذج ليقظة فكرية، أعتبر أن تفكيك ظاهرة الخوارج هو أكثر من قرائتها في البعد السياسي، وتفكيك ظاهرة الإعتزال هو أكثر من قراءة سياسية في باب الحرية الفكرية بدليل أن الاعتزال عندما استأسد في مرحلة المأمون مارس من أنواع الإضطهاد ما لم يُمارس عليه.
بين مشاريع سلطة السيف وسلطة القلم.. إنسان ما بعد الموحدين
مالك بن نبي يعتبر بأن هذه المرحلة هي مرحلة التراجع والأفول للفكرة المؤسسة، وتجلي عالم الأشياء مرحلة الغريزة خاصة بسبب ذلك التحول الفكري الكبير الذي حدث على المفاهيم الدينية بتأثير من التصوف الشعبوي، وهنا أتحدث عن التصوف الشعبوي الذي تحول إلى مخدر غرس مجموعة من قيم الكسل والتواكل، وطبعا هذا لا ينطبق على التصوف كتَصورات أخرى زهدية أو معرفية، لكنه ينطبق على نوع من التصوف يعبر عن الأزمة وهو الذي بدأ يتشكل تدريجياً كمؤسسة إجتماعية بديلة للمؤسسات التقليدية الفاعلة.
ينظر مالك بن نبي لكل ما جاء بعد الموحدين من نظم سياسية لم تكن تدين للفكرة الدينية، وإنما كانت تدين لمشاريع سلطانية، إذا قرأنا كل التاريخ الإسلامي سنجد أن مختلف الدعوات التي كانت ذات تأثير حضاري كبير، كانت دعوات تحمل خطاب ديني بصرف النظر عن تقييمنا له، وانبَلجت منه أيضاً.
إذاً سواء تكلمنا عن صلاح الدين الأيوبي وإنهاء الدولة الفاطمية عن السلاجقة، عن المرابطين وغيرهم من الدول التي تحمل هذه الفكرة الدينية، بعد الموحدين التاريخ الإسلامي على مستوى الدول أصبح تاريخاً سُلطانياً، فهي مشاريع سلطة السيف، ولم تعد مشاريع سلطة القلم.
وبالتالي يعتبر مالك بن نبي بأن هذا هو تتويج للتراجع لدى الفكرة المؤسسة.. تتويج لخمول وأفول الروح وبالتالي يعتبر بأننا قد دخلنا مرحلة الإنحطاط وسنترك مناقشة هذه القضية للنقاش العام لأن فيها كذلك ما يقال حول تحديد مالك بن نبي لما بعد الموحدين، هل هناك فعلاً إختلاف كبير بين المرحلة الموحدية والزيانية، هل حقيقةً هناك إنهيار بدأ بسقوط الموحدين، هل يمكننا تاريخياً أن تؤرخ للحضارة وتراجعها بحدث معين، أم نختار منهج آخر وهو المنهج التراكمي الذي يقول بأن بذرة فساد كل شيء هي بذرة قديمة تنمو إذا لم تقطع.
دكتور حسين شكراً لك على هذه الفسحة الزمنية التي ربما اقتربنا فيها مرة أخرى إلى فكر مالك بن نبي، وأعَدتنا إلى منطلقات الفكرة الدينية كما أسميتَها أنت، إلى بداية الحضارة الإسلامية وبداية إنتشار الإسلام، وأنت قلت أن مالك بن نبي وضع نقاط سماها منعطفات آخرها كما ذكرت دولة الموحدين، وأن السياسات التي جاءت بعدها إبتعدت عن الفكرة. ما سبب أزمتنا الإسلامية؟ وأنت حاولت أن تجيب لماذا تأخر المسلمون؟ نحاول دكتور الآن أن نأخذ بعض الأسئلة التي جاءت من طرف المتابعين.
هل التاريخ خط مستقيم أم هو عبارة عن طفرات وقفزات حسب المفكر مالك بن نبي؟
في قضية التاريخ هناك إشكاليات كثيرة في الحديث عن هذا المسار، هل التاريخ دائماً له خط تقدمي إلى الأمام أم هو عبارة عن دورات حضارية متعاقبة؛ هنا لابد أن نفرق بين الدورة الحضارية العادية والدورة الحلزونية.
ربما أستعين بفكرة جيوفاني فيكو باتيستا الذي يتكلم عن دورات حضارية لكنها حلزونية، والتي تعني أن الخروج من المرحلة الأولى والدخول في الدورة الثانية ليس معناه أن نكرر نفس المنعطفات التاريخية والظرفية، وهو يقول دائماً بأن المرحلة الثانية ستكون أحسن من الأولى بسبب إدراك الإنسان وتعلمه من ماضيه.
إذاً بالنسبة لمالك بن نبي فإنه ينتمي لنفس التوجه الخلدوني الذي أثنى عليه، لكنه يُوظفه توظيفاً مختلفاً وبالتالي فهو ينطلق من وجود دورة للحضارة، هذه الدورة لها ثلاث محطات التي تكلمنا عنها وهي
- الروح
- العقل
- الغريزة
للدخول من جديد في دورة حضارية جديدة والاستئناف، يعمل مالك بن نبي في كتاباته وفي مشروعه على ضرورة إعادة الفكرة إلى فعاليتها الأولى عن طريق العمل الإصلاحي، الذي يُبين ما طالها من ترسبات وتحولات، لكي تنخرط الأمة من جديد داخل فلك المسار الحضاري، فهو أقرب لهذا التصور من التصورات الأخرى، لذلك فكرة التراكمية هي التي تؤسس للقول بهذا التوجه.
هل تؤثر قراءتنا وفهمنا للتاريخ الإنساني على تحليلنا وفَهمنا للواقع المعاصر؟
طبعاً كل الكتابات التي تؤمن بإمكانية وضع نظرية في فلسفة التاريخ، أنا أتكلم هنا على من يؤمن بإمكانية وضع نظرية لفلسفة التاريخ للبحث عن العلل الكبرى، تؤمن بأن إدراك حوادث الماضي وهو عبارة عن مُعين ومن أحسن طرق استشراف المستقبل وقراءة الحاضر بطريقة جيدة، داخل فلك الحضارة العربية الإسلامية وداخل الكتابات التي تنحى هذا المنحى، غالباً ما نستعمل كلمة السننية لأننا نعود إلى القرآن الكريم الذي قص الله فيه عز وجل علينا قصص الأنبياء، والذي أمرنا بالسير في الأرض وننظر كيف كانت عاقبة الأمم وكيف كانت مساراتها وبالتالي فهذا النظر هو نظر اعتباري وهو نظر للإستفادة؛ حتى أن كلمة العبرة لغة هي العبور من ضفة إلى ضفة أخرى، فكأننا نفهم ماضينا وحاضرنا لكي نستطيع أن نعبر من خلال هذا الفهم إلى المستقبل عبوراً سليماً.
حسب رأيك ما الكيفية النافعة التي يمكننا قراءة التاريخ الإسلامي بها؟
بإختصار، الآن أدوات البحث التاريخي قد تطورت تطوراً كبيراً جداً لا يمكن للمعرفة الإسلامية حول التاريخ أن تكتفي فقط بما أبدع داخل حقل الحضارة العربية الإسلامية من إنجازات تتمثل في طريقة التعاطي مع التاريخ، ولكن ينبغي أن ننفتح على المنجز الإنساني الذي تم تطويره مروراً بالَمدرسة الوضعانية، إلى مدرسة الحوليات إلى التاريخ الجديد إلى غيرها من المناهج المعاصرة، أنا أريد أن أدعو إلى توليفة بين أدوات فهم التاريخ الإسلامي التي تم إبداعها في مسار الحضارة العربية الإسلامية مع المنجز الإنساني العام الذي تم تطويره بمدارس غربية مختلفة في كيفية التعاطي مع التاريخ، وأقول توليفة لأنه هنالك دائماً خصوصيات ينظر بها الإنسان المسلم إلى مسائل إيمانية، بينما نجد في بعض المدارس الأخرى تجاوزاً تاماً لفكرة المُقدس داخل نظرتهم للتاريخ.
فهذه التوليفة التي تستحضر الخلافة الإسلامية للمفكر في التاريخ، وتستفيد من المنجز الإنساني أعتقد أنها أحسن طريقة لفهم تاريخنا كما كان وليس كما نريد أن يكون، فإذا فهمناه كما كان استطعنا أن نعي مختلف المطبات والمنعطفات ونمتلك الجرأة على تفكيك الأخطاء التي حدثت لكي لا نُحَمِلْ الإسلام أخطاء المسلمين، وهذه الجرأة امتلكها مالك بن نبي عندما تكلم حول لحظة صفين فهي جرأة كبيرة إذا ما وضعناها في سياق البحث في الفكر الإسلامي التاريخي.
هل الفكرة الدينية تقتصر على الحضارة العربية الإسلامية فقط؟ أم تشارك فيها كل الحضارات الأخرى السابقة واللاحقة لها؟
نعم ذكرنا أن مالك بن نبي أشار إلى أنه لا يقصد بالفكرة الدينية هي فاعلة فقط مع الإسلام، هو باعتباره يبحث حول: لماذا انحط المسلمون أو لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ فقد كانت نماذجه هي غالباً نماذج من الحضارة الإسلامية، لأن هذه هي القضية التي يعمل عليها مالك بن نبي، أما إذا نظرنا إلى تصوره العام فهو يقدم تصور عام لفاعلية الفكرة الدينية بغض النظر عن أي دين.
هو يقول بأن فاعلية الفكرة أساسها من أنها مبنية على نفسية الإنسان، لأن الإنسان تؤثر فيه الأبعاد المتعالية الغيبية الدينية وتدفعه بما لا يدفعه أي تفكير آخر نحو الإنخراط في محاولة ترجمة هذه القيم إلى واقع ملموس، و بالتالي فمالك بن نبي يُعمم خاصة عندما ذكرنا تعريف فلسفة التاريخ قلنا أنها هي البحث عن العلل والقوانين والنواميس الكبرى التي تحكم حركة التاريخ، إذاً فهي ليست خاصة بأمة من الأمم وإنما النماذج التي أعطاها مالك بن نبي غلب عليها النماذج الإسلامية، بالرغم من أنه أشار حتى إلى النموذج المسيحي في بعض مؤلفاته ضمن أثر الفكرة الدينية في الصبر، المسيحيين مثلا صبروا على كل أنواع الإضطهاد الذي طالهم على يد الرومان قبل عملية رومن المسيحية وتمسيح حضارة روما التي قام بها قسطنطين.
أستاذ أشرت كثيراً إلى أن مالك بن نبي ربط الحضارة بالفكرة الدينية وأصالتها، فما هي شروط الفكرة الدينية حتى تقوم أي حضارة كانت؟
بالنسبة لمالك بن نبي يتعلق الأمر بفعالية هذه الفكرة وقدرتها على تحريك القدرات الإنسانية، يمكننا أن نفهم فكرة مالك بن نبي بفكر آرنولد حول التحدي والاستجابة، بالنسبة لأرنولد توينبي فكرة التحدي والاستجابة قائمة على العامل الخارجي، يعني وجود تحديات خارجية يؤدي إلى إستجابة الإنسان لها بصورة صحيحة مما يؤدي إلى قيام حضارة، أي أن المؤثر الخارجي عند آرنولد توينبي يسبق المؤثر الداخلي، فهو الذي يستثيره لكي يواجهها في الحالة التي يسميها بالوسط الذهبي، أي أن لا تكون المؤثرات صعبة جداً وسهلة جداً في نفس الوقت.
بالنسبة لمالك بن نبي شرط هذه الفكرة يبدأ من الداخل أي من قدرتها على تحريك هذه النفس والدفع بها إلى محاولة تمثل هذه الفكرة، أما إذا كانت الفكرة ميتة أو لا تُحرك الإنسان، إذن فهي تدعو إلى الكسل وعدم النشاط وتدعو إلى الركود والخضوع وإلى قبول الذل والضيم والرضا بغلبة الآخر على هذه الأمة.
فهذه الفكرة حتى لو سميت بأنها دينية لا يمكنها أن تتحرك نحو مجالات الإبداع وبالتالي فكلنا نعرف بأن بعض المجتمعات التي بقيت على تصورات مغرقة في الوثنية والطوطامية القديمة، لم تستطع أن تتجاوز أفقاً حضارياً معيناً، وهو أفق القبيلة أو على الأقل أفق المجتمع الإنساني، إذاً فهذه الفكرة تحتاج إلى أن تكون فكرة فاعلة وقادرة على دفع الإنسان إلى تغيير الواقع من أجل تَمَثُلِ الفكرة وسيادتها على هذا الواقع.