"العبرة بالخواتيم" مقالة في تكاد تكون في حكم القاعدة إذا ما تم الأخذ بها في سياق آخر ذو أبعاد أخرى قد تعود بالفهم والوضوح على العديد من أمور الواقع وحيثياته.

 التاريخ كبعد هام من هذه الأبعاد، فإنه غالبا ما يعمل بهذه القاعدة خلال سيره بالأحداث والوقائع لينتهي في نقطة معينة معيدا انطلاقه من نقطة جديدة، فإن كان عمله هذا يسري على الدول والحضارات فهو كذلك هو على الأعلام والشخصيات ينطبق.

إن النهايات بما تحمله من مواقف وأحداث أشد وطأة من البدايات، كونها تتأرجح بين حكمين: إما سيء وإما حسن. وأيم الله فإن كان العبد يتمنى حسن الخاتمة كما يخشى سوئها بعمله، فكأن التاريخ بأقلامه هو الآخر يختم على الحضارات وأعلامها بآخر أعمالها وأفعالها فإن حسنت فلها وإن ساءت فعليها، وشتان بين الحَكَمَيْن والحاكمين، والويل والثبور لمن ساءت خاتمته.

ولنا في بعض تاريخنا نهايات جرت عكس بداياته، وإن كانت سنن التاريخ بين صعود وأفول بين قوة ووهن، فإنه بين ذاك وذاك يبعث-أي التاريخ-رسالاته لأجيال الحاضر والمستقبل.

 أما عن فحواها فليس ترفا قصصيا أو تسلية وهروبا من الواقع وويلاته، وإنما معالم وآثار تعكس منظومات وأنماط تفكير وعمل ذات تفاصيل لا بد أن تخضع لعمليات التفكيك والحفر لفهمها والاستفادة منها. وهذا ربما من الغايات التي تضمنها النص القرآني:" فاعتبروا" وهو من باب الاتعاظ كل الاتعاظ بالنهايات والحرص والوعي بالبدايات.

ومن تلك النهايات-المقتطفات-التي أمضتها أحداث التاريخ وسطرتها أقلامه، حادثتين من التاريخ الإسلامي وإن كانت تحصيل حاصل لما قبلها، فقد حملت في جنباتها من العبرة والدروس ما يكفي لتحريك النفوس ودك العقول.

فأولاها، في 3 يناير من عام 1492م وبعد موافقة أبو عبد الله الصغير الغالب بالله تسليم غرناطة-آخر معاقل الإسلام في أوروبا-إلى فرناندو الخامس وإيزابيلا، وخروجه ومن معه في اتجاه بلدة أندرش، حتى وصل إلى ربوة عالية تطل على قصر الحمراء وراح يتطلع منها إلى ذلك الملك والمجد التليد بغصة وعين باكية، حتى قالت له أمه عائشة الحرة: "ابكِ كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال".

أما أختها، فخلال مؤتمر برلين في يونيو 1887م لم يجد مندوب الدولة العثمانية في المؤتمر أي اهتمام من الدول الأوروبية التي كانت غايتها منصبة لا على إنقاذ الدولة العثمانية بل على استرجاع الغنيمة من فم روسيا لتقسيمها فيما بينها. ومن ذلك أن لاحظ بسمارك الدموع المتساقطة من عيني المندوب العثماني في إحدى الجلسات قال له: "بدلا من أن تبكوا كالنساء فقد كان عليكم أن تحافظوا على حقوقكم كالرجال."

وعليه فلكل بداية نهاية، ورب خاتمة أورثت عجزا واستكانة لما بعدها، ورب خاتمة استفزت عقولا وجرَّت أفكارا وكونت أجيالا. وليس كمن استطلع التاريخ واستقرأه كمن جهله، ورب جهل أورث أحكاما مختلة وتفاسير معتلة شوهت أحداث الواقع وأبعاده، وكم من جهل أورث حاضرا أصم ومستقبلا مجهول المعالم والإحداثيات. "فاعتبروا يا أولي الأبصار".