الأنبياء هم ينابيع الهدى في أرض البشر الروحية، وورثتهم من العلماء والمفكرين، أمَنةٌ جددٌ على الوحي، وامتدادٌ لقافلة الرسل على مدار القرون والأجيال، فيشكِّل الجميع موكباً متصِّلاً قد تماسكت حلقاته.
كفى بالعلم شرفاً أن أشهد اللهُ، أهلَه على أعظم حقيقةٍ في الكون: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، [آل عمران: 18].
ولكن أيُّ علم وأيُّ علماء؟ من هم أولئك الذين ينالون هذا الشرف العظيم وهذه المرتبة السامية؟ الذين ينالون هذه الرتبة المعتبرة، وهذا المقام السامق هم العلماء الربانيون، وإن ربانية العلم تتحقق بأمرين اثنين؛ أولهما مشروعية العلم المكتسب، الدينيَّ والدنيوي في آنٍ واحدٍ، وثانيهما العمل بهذا العلم عملَ خشيةٍ لله، لا يخاف فيه لومة لائم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، [فاطر: 28]، فإذا ما تحقَّق العبد بهذين الركنين أصبح عالماً ربانياً.
يقول الله ذو العظمة والكبرياء: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}، [النحل: 27]. قوله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: العلماء الربانيون، {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ} أي: يوم القيامة {وَالسُّوءَ} أي: العذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ}، وفي هذا بيانٌ لفضل أهل العلم، وأنهم لسان أهل الحقِّ في هذه الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وأن لقولهم اعتباراً وشأناً عند الله وعند خلقه. وشاءت إرادة المولى الحكيم الخبير، أن لا يدع الأمَّة تتخبَّط في الظلماء دون أن يرسل لها من يجدِّد لها أمر دينها، ويذبُّ عن حياض منهجها، ويبطل شُبَهَ أهل الإفك ويحطِّم أفنية الضلال، إذ الأئمة المصلحون، أعلام هدى ومصابيح دجى.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : "العالم أمين الله في الأرض"، وعن أبي ذر رضي الله عنه: "العالم سلطان الله في الأرض، فمن وقع فيه فقد هلك". إن وجود العالِم في أوساط الناس، مصدر إشعاع وانبعاث نور، يضيء بنبراسه طريق السالكين ودرب الحائرين.
العالِمُ الحقُّ الذي لم يعرف للنفاق سبيلاً، محبوبٌ من أهل الأرض، وسيميَّز يوم القيامة عمَّن سواه، ويعطى درجات أسمى من غيره. هم أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس.
هذه الصفوة المختارة من الخلق، استجابت لأمر الله، والتزمت بفحوى النصِّ القرآنيِّ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، [آل عمران: 79]. قال سعيد بن جبير: ربانيين أي حكماء وأتقياء، وقال محمَّد بن الحنفية يوم مات ابن عباس: "اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة".
فالربانيُّ هو العالِم العامِل، ومن مهامِّ العلماء الربانيين إعداد جيل لمشروعٍ نهضويٍّ تحتاجه الأمة، وفي تاريخنا تجربةٌ لمدرسةٍ علميةٍ في بغداد أشرف عليها الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، استقبل فيها أبناء النازحين الذين فرُّوا من وجه الاحتلال الصليبيِّ، ثم قام بإعدادهم ثم إعادتهم إلى مناطق المواجهة الدائرة تحت القيادة الزنكية، ومن هؤلاء من أصبح فيما بعد مستشاراً لصلاح الدين الأيوبي، من أمثال ابن نجا الواعظ، وابن قدامة صاحب كتاب المغني. وهذه المدرسة لا تزال قائمة حتى قبيل الغزو الأميركي للعراق سنة 2003م، وفيها مكتبة تحتوي أمَّهات المخطوطات والكتب، موسومة باسم المكتبة القادرية. ولأنهم الأصفياء من العلماء، فمن شأنهم أن ينهجوا بالأمة الطريق الواضح.
العلماء هم حصن الأمَّة، وخطُّ دفاعها الأول في وجه الأعادي وفي وجه أعاصير الأفكار والمذاهب الهدَّامة التي تعصف بآحادها، ثم هم مرجعية الأمَّة في النوازل التي تستجدُّ في حياتها. يقول الإمام الجويني رحمه الله: "فإذا شغَرَ الزمانُ عن الإمام، وخلا عن سلطانٍ ذي نجدةٍ وكفايةٍ ودرايةٍ، فالأمورُ موكولةٌ إلى العلماء، وحقَّ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدُرُوا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد". ومن هنا فقد كان فقد العلماء من علامات رفع العلم، في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا".
وبما أن العلماءَ هم أمناء الله في الأرض، وهم الذين يسوسون العبادَ والبلادَ والممالكَ، فموتُهم فسادٌ لنظام العالَم، ولهذا لا يزال اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين، منهم خالفاً عن سالفٍ، يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه، وتأمَّل إذا كان في الوجود رجلٌ قد فاق العالَمَ في الغنى والكرم، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة، وهو محسنٌ إليهم بكلِّ ممكنٍ ثم مات، وانقطعت عنهم تلك المادة، فموتُ العالِم أعظمُ مصيبةً من موت مثل هذا بكثير، ومثل هذا يموت بموته أممٌ وخلائق!.
ذهاب العلماء المخلصين هو مصاب جلل للآمَّة، عن الزبير بن عديٍّ قال: "أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرُّ منه حتى تلقوا ربكم"، سمعته من نبيكم وقد فسَّر الشريَّة المطلقة في الحديث ابن مسعود رضي الله عنه بأنَّها قلة العلم بذهاب العلماء، فذكر ابن حجر في شرحه للحديث في فتحه عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: "لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شرٌّ من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاءً من العيش يصيبه ولا مالا يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقلُّ علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون". وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، [الأنبياء: 44]. قال موت علمائها وفقهائها، وروي عن مجاهد أنه فسَّرها بموت العلماء.
ولذلك كان العلماء الربانيون على كرِّ الدهور ومرِّ العصور، روَّاد الأمَّة المسلمة ومشاعل الإصلاح فيها، كما كانوا بناة الأمجاد وأعمدة الحضارة، وما عهدت الأمَّة علماءها إلا في مقدمة الركب، وخاصَّة عند اشتداد الكروب وتمكُّن الخطوب ونزول الأهوال واستحكام المحن، وعند حلَكَة الظلَم وشيوع الفتن والأهواء وتفشِّي الاستبداد.
إنهم نعم السند والملاذ، ونعم القدوات الصالحات، والحُدَاة الذين حفظ الله بهم هذه الأمة، بل حفظ بهم منهجه وشريعته، وكانوا ستاراً لقدره في خلود رسالة هذا الدين، وصفائها ونقائها في وسط من الدخان وزحامٍ من المبادئ الوضعية والأفكار.
ولا يفوتني التنبيه إلى أنه لا بدَّ أن يتعلَّم الجيل اليوم، أن المخالفة في الاجتهاد لا تعني الانتقاص والذمَّ؛ فنحن نرى فئةً من صغار طلاب العلم، بل بعض من ليس لهم رصيد في العلم الشرعي، وغاية ما يملكونه بعض المشاركات الدعوية، والثقافة المعاصرة، نرى هؤلاء يتحدثون دوماً وبجرأةٍ، بل باستخفافٍ أحياناً من كثيرٍ من أهل العلم ومواقفهم! وما أن تصدر فتوى أو موقف لأحدهم، إلا وينبري هؤلاء لتقويم الموقف والفتوى، وغالباً ما يكون ذلك انتقاداً، وقد يكون لاذعاً ساخراً، مصحوباً بوصف هؤلاء بالسذاجة والبساطة وغيرها من الألقاب! ومن المآسي أن يشترك في الحملة على هؤلاء، طائفةٌ من أبناء الصحوة، مع السفَلَة من الإعلاميين! بغضِّ النظر عن اختلاف الموقف والدافع.
قال أبو سنان الأسدي:" إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، فمتى يفلح؟! ". وقال ابن عساكر رحمه الله: "اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني وإياك ممن يتَّقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك من ناوأهم معلومة، وقلَّ من اشتغل في العلماء بالثلب إلا عوقب قبل موته بموت القلب". {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، [النور: 63]. وذكر الثعالبيُّ في آداب الملوك عن عليٍّ أنه قال: "من استخفَّ بالعلماء ذهبت آخرته".
ومما يتعيَّن علينا عمله، الالتفاف حول الرموز من غير تقديسٍ للأشخاص، إن ثوابتنا ستظلُّ تتساقط بقاياها كل يوم، مع كل رمزٍ نسقِطُه، فلا بدَّ من إقامة جسورٍ من الثقة بين الشباب المسلم، وبين رموز أهل العلم، والملاحظ اليوم وللأسف الشديد، يتمُّ التهجُّم على الرموز في كثيرٍ من بلاد المسلمين، ممَّا يؤدي إلى الاحتقان لديهم، فيبحثون عن وسيلة لتصريف هذا الذي آلمهم واحتقن في داخلهم بشكلٍ أو بآخر!.
نسأل المولى أن يسدِّد خطى أجيالنا الصاعدة، وأن يعصمها من الزلل، إنه تبارك في علاه خير مأمول.