هو سؤال لطالما شاع بين أواسط طلبة العلم والمثقفين، ولا سيما الطبقة التي يعبّر شكلها الخارجي عن التزام بالشريعة الإسلامية أو أهل السنّة _ إن صح القصد _ وبين تيّار لا يقلّ التزاما عن الفئة الآنفة، مفاده: من الأولى في التحصيل أهي العلوم الشرعية أم التطبيقية؟

والحقيقة أنّ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى شيء من الهدوء والتروّي، ذلك أنّه ذو جلل. وقد تباينت فيه آراء حصفاء الألباب، غير أنّه حقيق بنا أن نعرف بين هذه وتلك ما غرض كلّ منهما، فإذا أدركنا هذه الغاية وجب أن نسأل كيف تقام دنيانا ونحن أبناء زماننا؟

   من المتفّق عليه أنّ العلم مقدّم في كل فصل من هذه الفصول. لذلك، يجب أن نبيّن أنّ حقيقة العلوم بمختلف مشاربها، إنّما وجدت لتحقيق تلك الغاية الأسمى وهي: عبادة الله على الوجه الذي يريده. قال تعالى: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون) (سورة الذاريات، الآية 56) فهذه الحقيقة الكبرى التي بعث بها عليه الصلاة والسلام، ولو كان ذلك بحدّ السيف (أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله...) (رواه البخاري ومسلم) غير أنّ هذا لا يتحقّق دون علم ودراية، إذ يقول تعالى:(فاعلم أنّه لا إله إلاّ الله) (سورة محمد، الآية 19) فإذا وعينا هذا الهدف الجليل عبدنا الله على أحسن مقام.

  إنّه من الواجب ذكره، أنّ المسلم مطالب بتحصيل ما يلزم تحصيله من العلوم الشرعية، للتقرّب بها إلى الله، وإلا كان يضرب خبط عشواء في عبادة مولاه، فهو لا يستطيع أن يقيم الشعائر دون علم ولا هداية.

 ولهذا، كان صحابة رسول الله يسألون صلى الله عليه وسلّم فيما أشكل عليهم في أمر عباداتهم، غير أنّه إذا سلكنا هذا الملك، نحسب أنّنا أقمنا ديننا واصطلحت دنيانا. ولكنّنا أبعد عن ذلك المراد بكثير.

فالغاية من وجودنا لم تكن العبادة وحدها، وإن كانت أعظم غايات الوجود. وإنّما الأمر فيه مرافقة لذلك الغرض، ألا وهو إعمار الأرض على ما يرضى خالق كلّ شيء.

قال تعالى (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها...) (سورة هود، الآية 61) قال الإمام الثعالبي رحمه الله: (واستعمركم فيها) أي خلقكم لعمارتها، ولا يصحّ أن يقال هو طلب من الله لعمارتها [1].

    ولطالما فهم المسلمون الأوائل هذا الفهم العميق، فذهبوا يشقّون أرض الله شرقا وغربا لإعلاء كلمة التوحيد. ولكن هل اقتصر فهمه على هذا النّحو فقط؟ كلاّ. وإلاّ كيف نفسّر ما تركوا من إبداع في الهندسة والكيمياء والجبر والطبّ وكذا الفلسفة ومختلف العلوم والفنون. بل كانت حضارتهم وإنجازاتهم دليلا على أنّ الدّافع أكبر من دافع قبلي أو عرقي، في إقامة حجم تلك الحضارة الشاهقة، ممّا جعل الأعاجم يدخلون في ذلك الدّين أفواجا أفواجا. ثمّ أتراك لو نزح المسلمون نحو الشريعة جميعهم واستقصائها وفهم ما ألبس عنه، أكانت تقام حضارتهم؟ بلى، إنّ من موجبات ديننا الحنيف أن يتشبع المسلمون فيما هم أهل له لإقامة دينهم ودنياهم. إضافة إلى ما نقلوه من علوم عقلية، كانت لهم ركائز لمقارعة خصوم هذا الدّين الحنيف، وإثبات أباطيلهم فضلا عن إسلامهم. والأمثلة في هذا كثيرة لا يسعنا المقال لسردها.

وقد عارض الدكتور يوسف القرضاوي الإمام أبو حامد الغزالي باعتبار أن العلوم التطبيقية - الدّنيويّة- أن تكون فرض كفاية بقوله "ولا نوافق الإمام الغزالي على اعتباره التعمّق في دقائق الحساب، وحقائق الطب مجرّد فضيلة لا فريضة" [2] بل رأى الدكتور أن هذه الأخيرة فريضة لازمة. ولا يدري العالم العربي والإسلامي، كيف فشا هذا الدّاء الخطير الذي فتك بالحضارة الإسلامية، ولا يزال ينخر بقيّة عظامها، بالتولّي عن العلوم الدّنيوية والانكباب على الشرعيّة منها وحدها.

ليت شعري أليست إقامة الدّنيا من موجبات الدّين، أليست الدّنيا مطيّة الآخرة وإلاّ ما قيمة الآخرة بدون الدّنيا. إنّ من أعظم المشكلات التي أرجعتنا القهقرى، والتي لازالت تحبسنا في قوقعة التخلّف هو اشتغالنا بقضايا في الدّين لا تكاد ترى بالمجهر، فكم من كتبت ألّفت في مسألتي القبض و الإسدال وكذا جلسة الاستراحة… ومحاضرات ألقيت في مسائل لو شغلنا عنها لعاد بعث حضارة المسلمين من ركام التخلّف والانحطاط.

 بل إنّ الدكتور جاسم سلطان يعوز عوامل التحلّل في الكيان الإسلامي إهمال العلوم التطبيقية، حيث يقول: (لقد شاع في كثير من فترات التاريخ الإسلامي، أنّ العلوم الشريفة هي علوم الدّين، أو كما قيل قال الله وقال رسوله، أمّا ماعدا ذلك، فهو أمر يؤخذ منه بأقل قدر، فالحساب والفلك والكيمياء.. الخ، كلّها يجب أن تعطى أقلّ قدر من الاهتمام...)[3].

 إنّ أوّل كلمة نزلت من الدّستور الربّاني كانت "اقرأ" وهذه اللّفظة إن أخذناها على عمومها حتما لا تستوجب علما معيّنا، وما يثبتّ حديثنا قوله جلّ في علاه:(إنّما يخشى الله من عباده العلماء) (سورة فاطر، الآية، 28) وكم سمعنا ولا زلنا كذلك عن أخبار علماء ومفكّرين لبسوا ثوب المادية والماركسيّة، وغيرها من المذاهب الاجتماعية، ثم نكصوا على أعقابهم ليدركوا الحقيقة المطلقة حيث يؤمنون الإيمان الجازم بوحدانية الله وعدل ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم. وكان دليلهم في وسط غياهب الجهل هذا العلم التطبيقي.

على الرّغم من كلّ هذا، لا يستوجب أن تهمل العلوم الشرعيّة، ولا أن تستبدل فمعاذ الله، أن يقول مسلم قولا كهذا، وإنّما الواجب أن يشتغل كل مسلم لما هو أهل له فيما يبدع ويقدّم المنفعة للمسلمين وغير المسلمين، كي يقدّم الصورة المثلى للعالم عن شخص المسلم، كيف لا والرّسول صلى الله عليه وسلّم يقول: (أحب العباد إلى الله انفعهم لعياله)، (أخرجه أبو يعلى في مسنده، وحسنه الألباني) وهو القائل أيضا: (كلّ ميسّر لما خلق له)(رواه مسلم)، دليلا على انّه واجب كلّ مسلم سدّ الثغرة التّي هو قادر عليها، دون أن يغفل أو يتغافل ضرورة المعرفة بأصول دينه، من عقيدة وعلم بما تقوم عليه العبادات على الوجه الصحيح، حتّى لا يقع في الزلل ويجنّب نفسه المحظور، ولا ضير إن تخصّص فيها أصلا، ورأى في نفسه أنّه أهل لها وأقدر على سبر غمارها، فهذا ممّا تطيب له النفوس. وكم نحن اليوم بحاجة إلى علماء ودعاة وسطيين متفتحين على الحضارات دونما ذوبان، مراعين خصوصيات الدّين الإسلامي دون انغلاق، جامعين بين النقل الصحيح و الفكر الصريح، ميسرين مبشّرين لهذا الدّين الحنيف، حظّهم من الإنكار قليل، على هاته المبادئ تقام دولة الإسلام، ويعلو سؤددها الكلّ يساهم في البناء على الوجه المستطاع، والله لا يضيع أجر المحسنين.