يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا)[سورة فاطر الآيات: من 42 إلى 45].                                

ويقول كذلك: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)[سورة الحديد الآية: 16].

الكثير من الظواهر الطبيعية وقع فيها اختراق واعتداء على القانون الطبيعي الذي يحكمها وينظمها، وهذه الظواهر مسخرة من الله للإنسان، الكثير منها تدعو اليوم الإنسان إلى الاعتبار وأخذ الدروس من أجل العدول والاستقامة واحترام سنن الله في الكون، والتعامل معها بمنطق التسخير كما جاء في آيات كثيرة من القرآن، وليس بمنطق القهر والتسلط والتدمير والجشع، منها على سبيل المثال هذه الانزلاقات الجليدية الضخمة التي تحدث في القطبين الشمالي والجنوبي، والتي أدت كما هو معلوم إلى ارتفاع مستوى منسوب مياه المحيطات والبحار، مما أدى إلى اختفاء وابتلاع جزر بكاملها داخل المحيطات، وأصبحت اليوم العديد من المدن الساحلية مهددة جراء هذه الانزلاقات الجليدية.

نفس الشيء ينطبق على الغطاء النباتي خاصة الأشجار، فالكثير من الغابات تم اجْثتاتها والقضاء عليها بسبب الجشع والشره البشري، فانعكس ذلك على الأكسجين والآزوت المادة الحيوية للحياة والإنسان، وهو ما أدى إلى انتشار بعض الأمراض والأوبئة في الحياة بسبب نقص الأكسجين والآزوت، بما حصل من تدمير وإزالة الغابات.

هذا العدوان على القانون الطبيعي، وعلى السنن الكونية، يحدث كذلك على المستوى الاجتماعي والحضاري البشري، من خلال إيديولوجيات وعقائد مَيزت على الخصوص القرن العشرين، هذه العقائد والأيديولوجيات جنت على الإنسان، وجنت على سنن الله في خلقه والاعتداء على الفطرة لأنها تشبعت بالعلمانية والعلم الطبيعي العلماني للقرن التاسع عشر والذي حصر المعرفة والعلم في حدود الحواس، ورفض الاعتراف بأية معرفة خارج الحواس. 

يقول الدكتور على شريعتي رحمه الله في هذا السياق: "والنجاح الذي حققه علماء الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا رسخ الإيمان بهذه العلوم بشكل أدى للتعصب لها. وبلغ هذا التعصب ذروته في القرن التاسع عشر على الأخص، مما حدا ببرنار للقول: "إذا لم يتسن لي أن أرى الروح أو الله تحت مباضِع الجراحة فهذا يعني أنهما غير موجودين." 

هذا التعصب العلمي هو الذي كان وراء ظهور إيديولوجيات في القرن العشرين، كانت وراء اختزال الإنسان في بعده المادي والهبوط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، وتعاملت معه بهذا المنطق ليس إلا. فتم إقصاء الدين والله في ملحمة الإنسان التاريخية والحضارية بسم العلم والعلمَوية، ولأول مرة في التاريخ البشري يتم الاعتداء على الإنسان بهذا الشكل الشنيع. 

يعني إلغاء نصف الإنسان والاحتفاظ بالنصف الآخر ارضاءً للعلم التجريبي، أو إرضاءً للنزعة المادية العلمانية البورجوازية التي كانت وراء إسقاط الدين في أوروبا باسم الإصلاح الديني خلال القرن السادس عشر الميلادي .

من هذه العقائد والايديولوجيات المادية العلمانية كثير والتي لخصت عموما في الرأسمالية الليبرالية، والاشتراكية والقومية العلمانية، وهذه كلها أيديولوجيات مادية علمانية جنت على الإنسان لكونها لم تأخذ ولم تراعي خصوصيته عندما تعاملت معه ككائن مادي محض.

على هذا الأساس بنيت دول خلال القرن العشرين دول قومية، وأخرى اشتراكية، وأخرى ليبرالية. لهذا عندما انهار الاتحاد السوفياتي في أواخر القرن العشرين والذي فاجأ العالم كله، خصوصا السرعة التي انتهى بها الانهيار. فالحدث يحتاج إلى التأمل والاعتبار وهو ليس حدث سياسيا فقط ولكنه حدث عقائدي وأيديولوجي، بالانهيار يشبه في حد ذاته تلك الانهيارات الطبيعية الجليدية التي أشرنا إليها في بداية المقال.

وقعت انهيارات جليدية سياسية جراء سقوط الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية وعبر العالم كله، انزلاقات جيواستراتيجية وقعت على المستوى العالمي، لكن المثير هنا أن هذه الانهيارات الكبيرة لم تأخذ حقها من التحليل والتفسير من الرؤية الاسلامية كما حدث عند المدرسة الرأسمالية الليبرالية التي تعاملت مع الحدث على أنه انتصار الليبرالية على الإشتراكية بعد معركة طويلة بين الايديولوجِيتين، بل أكثر من هذا ظهور أنبياء جدد تزعمت نهاية التاريخ عند محطة الليبرالية، وأن البحث وراء الليبرالية ما هو إلا ضياع للوقت والتيه والضلال، فالتاريخ انتهى عند هذه المحطة.

في حين كان الأولى والأجدر أن يقول هذا الكلام المسلمون، كان من المفروض والمنطقي أن يتحدث علماء التاريخ المسلمون بهذه اللغة التي تحدث بها فوكوياما الذي زعم أن التاريخ انتهى عند محطة الليبرالية، لأن الكون والإنسان عندما صمم وخلق، تم تصميم السنن والقوانين على أساس منهج وضعه الله في الإسلام، وقال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه. وقال كذلك إن الدين عند الله الإسلام. وقال ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد تحويلا. وقال في آخر سورة نزلت في التشريع:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" 

لهذا فعندما سقط الاتحاد السوفياتي وسقطت الاشتراكية والشيوعية، فهذا انتصار للإسلام وليس انتصار الليبرالية، باعتبار أن الاشتراكية ديانة وضعية مادية تنازع الديانة السماوية التوحيدية في الأرض وتحارب الله ورسوله، وتُنازعه في ملكه.

 خصوصا إذا علمنا موقف الاشتراكية الشيوعية من الدين، وعرفنا أن هذه الايديولوجية حاربت وقتلت المسلمين واعْتقلتهم ونفتهم في جمهوريات الاتحاد السوفياتي وفي الصين وأوروبا الشرقية وفي البلاد العربية الإسلامية لأن الاسلام وقف في وجهها منذ اليوم الأول الذي قالت فيه أن هو الدين أفيون الشعوب، وقالت بالمادية التاريخية التي جعلت من الإنسان حيوانا يجري على بطنه وفرجه. إذن سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه الاشتراكية هو انتصار للإسلام الدين الحق الذي فطر عليه الكون كله، وفُطر عليه الإنسان، وليس انتصار الليبرالية. 

وهذا يذكرنا بحدث تاريخي مهم يبين مدى اهتمام الإسلام بمثل هذه الهزائم العقائدية وعلى أن المعركة في هذه الحياة كلها بين الوثنية والتوحيد. عندما بشر القرآن الصحابة وعلى رأسهم رسول الله صل الله عليه وسلم وهم مقبلون على الغزوة الأولى والحاسمة بين معسكر التوحيد ومعسكر الشرك، معركة بدر الكبرى بشرهم بانتصار الروم أهل التوحيد، على الفرس أهل الشرك والوثنية، قصد تثبيتهم والرفع من معنوياتهم، وكذلك الفرح بانتصار التوحيد على الشرك، لهذا فسُقوط الاتحاد السوفياتي هو ايديولوجيا وعقائديا انتصار للإسلام وسقوط جدار ايديولوجي سميك كان يحجب الرؤية عن الإسلام.

زيادة إلى هذا فنحن كمسلمين لا نميز بين الاشتراكية والليبرالية فهما وجهان لعملة واحدة، الوجهان يكملان بعضهما البعض. وهما ينْهلان وينْطلقان من أساس ومرجعية واحدة، مرجعية مادية علمانية بل ربما إلحادية. ما وقع للاتحاد السوفياتي يحتاج إلى قراءة علمية تاريخية حضارية عند علماء المسلمين، لأن ما حدث للاشتراكية غير بعيد أن يتكرر في معسكر الليبرالية فكلاهما أقيما على أساس مادي علماني وضعي واحد؛ صحيح الليبرالية احترمت بعض الخصوصيات للإنسان منها الحرية والديمقراطية، فهي لم تخنقه كما فعلت الاشتراكية الشيوعية، لكن لا الاشتراكية ولا الليبرالية قادرتين على أن تحل محل منهج الله في الكون الذي هو الإسلام، وبالتالي فما وقع للمعسكر الشرقي الاشتراكي، قابل أن يتكرر في المعسكر الليبرالي لأن العاقبة للإسلام.

يقول المفكر المصري عباس محمود العقاد رحمه الله وهو يتحدث عن عقيدة أهل القرآن وسط هذه العقائد والايديولوجيات التي زعمت يوما أنها ستحل محل الدين وعقيدة التوحيد يقول رحمه الله :" إن القرن العشرين منذ مطلعه يعرض العقيدة بعد العقيدة على الإنسان والإنسانية، ولا نعلم أنه عرض عليها حتى اليوم قديما معادا أو جديدا مبتدعا هو أوفق من عقيدة القرآن، وأوفق ما فيها أنها غنية عن الاختراع والامتحان، وأنها على شرط العقيدة الدينية من بنية حية، شملت ملايين الخلق وثبتت معهم وحدها في كل معترك زبون يوم خذلتهم كل قوة يعتصم بها الناس. ونحن ندعي في هذه الصفحات أن المنصف بين النصائح لا يستطيع أن ينصح لأهل القرآن بعقيدة في الإنسان والإنسانية أصح وأصلح من عقيدتهم التي يستَوحونها من كتابهم، وإن القرن العشرين سينتهي بما استحدث من مبادئ ومذاهب وأيديولوجيات ولا ينتهي ما تعلمه أهل القرآن من القرآن ." [1] 

ويضيف في السياق نفسه: "وأن أهل هذا الكتاب يتدبرون القول فيتبعون أحسنه إذا تدبروا فلم يأخذوا بعقيدة من هذه العقائد التي يروجها دعاتها باسم المادية، أو الفاشية أو العقلية، ويريدون بها أن تكون على الزمن بديلا من العقائد الإلهية، ومن عقائد الغيب الذي يحسبونه معدوماً أو موجوداً كمَعدوم. وقد استمع الناس إلى المادية التاريخية، فقالت لهم إن الإنسان عملة اقتصادية في سوق الصناعة والتجارة، وتعلو وتهبط في طبقاتها بمعيار العرض والطلب وصفقات الرواج والكساد. واستمع الناس إلى الفاشية فقالت لهم أن الإنسان واحد من عنصر سيد أو عنصر مسود، وأن أبناء الإنسانية جميعا عبيد للعنصر السيد، والعنصر السيد قبل ذلك عبد للسَيد المختار، غير اختيار. واستمع الناس إلى العقلية فقال لهم قائل منها أن إنسانيتهم كذلك شيء لا وجود له وهو وهم من أوهام الأذهان، وأن الشيء الموجود حقا هو الفرد الواحد! وبرهان وجوده حقا أن يفعل ما استطاع من نفع أو أذى، كلما أمن المغبة من سائر الأفراد والأحداث. 

الإنسان في عقيدة القرآن هو الخليقة المسؤول بين جميع ما خلق الله يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب، فلا تدركه الأبصار والأسماع." [2] 

 إذا من هذا المنطلق الذي خطاه العقاد رحمه الله، فالإنسان الذي هو العنصر الأساسي في البناء الحضاري، لن يجد نَفسه كاملة إلا في القرآن، وعقيدة القرآن، وهذا ما يجعلنا نتفاءل بأن التاريخ لن يتوقف عند الليبرالية الديمقراطية كما زعم فوكوياما وغيره من الأيديولوجيين، بل التاريخ سيستمر في البحث مثل النهر حتى يجد مجراه الطبيعي الذي هو الإسلام، وأن الذي جعله يتأخر عن إدراك مجراه الطبيعي هو تخلف المسلمين وتبعيتهم للغرب والشرق.

 لهذا نحن نؤمن أن المستقبل لهذا الدين، وأن ما حدث للاتحاد السوفياتي وللإشتراكية قابل أن يتكرر لليبرالية مهما زعموا من افتراء على التاريخ. وأن طلائع وبشائر هذا النصر تلوح في الأفق، فكما أسقط الإسلام الإمبراطورية الفارسية والبيزنطية الرومانية فهو كذلك قادر على اسقاط الليبرالية كما أسقط الاشتراكية الشيوعية.

القرن الواحد والعشرين نزال بين الإسلام والليبرالية على الخصوص كما يجري اليوم باسم الإرهاب، وباسم الإسلام السياسي وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، وأن هذه المعركة ستكون لصالح الإسلام عندما يتقن المسلمون الدعوة بالقدوة الحسنة والأخذ بالسنن. فاليوم كما قلت هناك بشائر تلوح في الأفق يقول الدكتور مراد هوفمان في هذا الصدد: "لا يتوقع أحد اليوم أن يختفي الإسلام، ولكن أن يمتد بل وينفجر!" [3] 

ويضع جنرالات الناتو في حسبانهم أن أكثر المواجهات العسكرية احتمالا في المستقبل لن تكون بين الشرق والغرب، ولكن بين الشمال والجنوب، فالإسلام هو العدو المتنامي المرتقب، أصبح تعداد المسلمين في كل من ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا بالملايين، وتقدر إحصاءات غربية إجمالي عدد المسلمين ب 990،547 مليون وهو رقم متحفظ عليه وهؤلاء يسببون الخوف والهلع.

 تنتشر المساجد في العالم كله بين لوس انجليس،وروما زغرب حتى موسكو وبكين. وفي قرطبة الحاضرة القديمة، وليس بعيدا عن الجامع القديم الرائع في قرطبة، يرفع الأذان ثانيا للصلاة يالها من إثارة! أن يحدث هذا بعد خمسمائة سنة من طرد آخر مسلم من الأندلس. 

اليوم بعد إفلاس النظام والعقيدة الشيوعية منذ 1990 وعلامات الخطر بأزمة روحية أخلاقية في الغرب، تمر المسيحية بتغيير في المشروع، وما كان يسمى مشروع التحديث يتساقط أمام أعيننا .بدا منظرو وعلماء الغرب يشكون إذا كانت افتراضاتهم الأساسية صحيحة ."الإسلام يتقدم بسرعة على المستوى العالمي خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية وداخل أوروبا. وكلما نظم المسلمون أنفسهم وأعطوا المثال بالقدوة الحسنة، وبالصبر والعمل والمثابرة، كلما مهدوا وقربوا المسافة، النزعة المادية العلموية بمفردها لن تكون حلا للعالم وللإنسان ،لأن الإنسان كائن ميتافيزيقي ديني ولا يمكن أن يعيش بلا دين والدين الصحيح وكلما تقدم العلم الصحيح كلما نادى بالدين الصحيح ولن تستطيع الأيديولوجيات ظن تحجب نور الله عن الإنسان، وعن العالم.