عندما إنتشر فيروس كورونا و تحول إلى وباء، أغلقت الدول حدودها وانعزلت حول نفسها، فتوقفت الحياة والحركة فيها و بينها. لكن هذا الإغلاق اعتبر فرصة، في نظر البعض، للدول (خاصة النامية أو الفقيرة) من أجل الاعتماد على إمكانياتها ومناسبة لقياس والتعرف على قدراتها الكامنة؛ لذلك فبعض الدول لم تكتفي بانتظار المساعدة الخارجية، بل بادرت أو حاولت التوصل إلى علاج أو لقاح محلي رغم صعوبة المهمة؛ فالتوصل إلى دواء مشوار طويل ويكاد يكون معجزة؛ فالمواد المختلفة التي تدخل في تركيبة هذا الدواء يجب أن تتلائم وتتكامل مع بعضها البعض، ويجب أن تصل إلى الموضع الصحيح. لذلك دواء واحد فقط من بين عشرة يجتاز جميع التجارب ويحصل على الترخيص، إذ لا بد من إجتيازه بمراحل إختبار عديدة و مختلفة بنجاح.

في البداية تُجرى التجارب على حيوانات في نموذج مرضي لمعرفة ما إذا كانت المادة المختارة فعالة أم لا. وعلى هذا النحو يمكن للباحثين في طور مبكر محاكاة ما يجب أن يحدث لدى المريض، وكحيوانات تجريبية تستخدم عادة القردة والخنازير والكلاب والفئران. إذا مرت هذه التجارب الأولى بإيجابية (أي أن مادة لا تظهر مجالا واضحا لعوارض جانبية وتظل بكمية كافية في الجسم ومفعولها ليس قصير ولا طويل)، تبدأ بعدها التجارب السريرية (تجارب على البشر).

في الفترة السريرية يشارك أشخاص بالغون أصحاء (عددهم صغير). التجارب تركز على الأعراض الجانبية المحتملة وليس على المفعول الأساسي لدواء مستقبلي. ويتعلق الأمر بتحديد الجرعة التي يمكن تحملها كحد أقصى، من دون حدوث أعراض (يتم البدأ بقليل من المادة ثم ترفع ببطئ كميتها إلى حين يظهر طفح على الجلد). وفي الخطوة التالية يقلص العلماء من الجرعة ويراقبون فيما إذا كانت الأعراض الجانبية تختفي. وعلى هذا النحو بإمكانهم التوصل إلى الكمية التي يمكن تحملها. و إذا تحددت الجرعة المثالية، تبدأ المرحلة الثانية، حيث يرتفع عدد المشاركين. وقبل التجارب يجب تجاوز عقبة عملية، وهي في أي شكل يجب إعطاء المادة؟ كحبوب أم مسحوق حقنة؟

والمعايير المبدئية لتسلسل التجارب في المرحلة الثالثة تشبه تلك الموجودة في المرحلة الثانية. لكنها تكون أوسع بكثير إذ يشارك فيها آلاف المرضى، ليس في دولة واحدة وإنما بمشاركة مرضى وباحثين من دول أخرى أيضا. على غرار المرحلة الثانية يحصل المرضى على الدواء الذي يخضع للتجربة فيما يخص المفعول والأعراض الجانبية، وفي حال مرور كل هذه المراحل أو التجارب بايجابية وشكل صحيح، يصل الدواء إلى الصيدلية ومنه إلى سرير المريض وحقنة الطبيب.

يستغرق إيجاد لقاح ضد فيروس أو مرض معين عدة أشهر وربما سنوات ( 12 الى 18 شهرا على الأقل). وقد بدأ العمل على تطوير لقاح كورونا في دول مختلفة (مثل الصين، أمريكا، المانيا، بريطانيا، روسيا، تركيا و كوبا) في غضون ساعات من تحديد طبيعة الفيروس ونشر شفرته الوراثية من طرف المسؤولون الصينيون في شهر يناير 2020، حيث ركزت معظم أبحاث تطوير الأدوية واللقاحات على كبح أو منع بروتين يعلو سطح الفيروس (يسمى بروتين السنبلة أو سبايك)، وهو المسؤول عن تمركز الفيروس داخل مستقبلات في الخلايا البشرية.

اللقاح هو مستحضر يعطي للشخص مناعة في جسمه ضد مرض معين يتكون من جراثيم المرض (بكتيريا أو فيروسات) التي تم قتلها أو إضعافها، وعند دخول الجسم فإنها تحفز جهاز المناعة على تكوين أجسام مضادة لمرض معين و ذاكرة مناعية. بحيث يتذكر جهاز المناعة الميكروب أو الفيروس الممرض فيقوم بمهاجمته والقضاء عليه فورا عندما يدخل الجسم في المرة اللاحقة.

تحضر اللقاحات بطرق مختلفة، أول طريقة تقوم على إستخدام فيروسات ميتة (طريقة تقليدية أو قديمة)، في النوع الثاني من اللقاح يتم الإتيان بفيروس آمن واللعب في تركيبته ليصبح شبيها بتركيبة الفيروس كورونا ويتم حقن الشخص به حتى يتج الجسم أجساما مضادة للفيرس. أما الطريقة الطريقة الأحدث فتتجلى في حقن جزء من شفرة الفيروس الجينية في الجسم وإنتاج بروتينات مشابهة لتلك الموجودة في الفيروس من أجل تحفيز مناعي.

ينفذ الباحثون تجارب سريرية على عشرات الآلاف المتطوعين موزعين بالتساوي على مجموعتين تتلقى أحدهما علاجا وهميا، بينما تتلقى المجموعة الاخرى اللقاح الفعلي أو الحقيقي.

للتأكد من فعالية اللقاح يتابع المتطوعين المشاركون في البحوث حياتهم بصورة طبيعية كغيرهم، مع ضرورة إتباع التدابير الوقائية، وعليهم أن يبلغوا بإنتظار الباحثين عن أن أعراض لديهم، كما تخضع أي حالة مشبوهة التشخيص.

على مر الأيام، سيصاب عدد من المشاركين (لا يعرض المشاركين عمدا للإصابة بالفيروس). إذا كان اللقاح فعال، سيكون عدد الحالات المسجلة بين المشاركين الذي حقنو اللقاح فعليا أقل من ذلك المسجل في المجموعة التي تلقى أفرادها لقاح وهميا. بلوغ نسبة فعالية 100٪ يعني عدم تسجيل أي حالة لدى الأشخاص الذين تلقوا اللقاح الفعلي. 

في شهر سبتمبر الماضي إنطلقت التجارب السريرية للقاح كورونا بالمغرب، بعد توقيع اتفاقيتي شراكة مع المختبر الصيني (سينوفارم)، وذلك بمشاركة 600 متطوع. وقد أعلن وزير الصحة المغربي بأنه إذا نجحت هذه التجارب سيذهب المغرب إلى حد تصنيع هذا اللقاح بنفسه. وبعد 3 أشهر أكد الوزير أن نتائج التجارب جد إيجابية ومطمئنة وأن لجنة مغربية، رفيعة المستوى تواكب مند البداية عملية إعداد اللقاح الصيني. ووفق معطيات الوزير فإن المغرب لن يقتصر على شراء اللقاح الصيني حيث قال أن المملكة لديها شركات متعددة في هذا المجال وستحصل على العدد الكافي من جرعات اللقاح ولن يكون هناك أي مشكل على مستوى الخصاص في مخزون اللقاح. 

وقد جاء في تقارير إخبارية بأن المغرب لا يركز فقط على اللقاح الصيني، بل سبق أن وقع إتفاقيات مع مختبرات من أجل الحصول على لقاحات أخرى (من بريطانيا، أمريكا وروسيا).

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا اللجان رفيعة المستوى والشركات المغربية يمكنها مواكبة أعداد اللقاح الصيني وتصنيعه، ولكنها لا تستطيع تصنيع لقاح مغربي؟ لماذا تمكن خبراء مغاربة، مثل منصف السلاوي، في صنع لقاحات في أمريكا ولم يتمكنوا من ذلك في مسقط رأسهم؟

إن طريقة ترويج الدول القوية لمنتجاتها ونشر نفوذها في الدول الضعيفة تجربة تستحق التوقف عندها؛ فهذه الإستراتيجية تُمكن الدول المنتجة للأدوية مثلا من إستخدام إمكانيات دول أخرى، من مصانع و عمال، من أجل تصنيع و نشر دواءها أو لقاحاها في أسواق جديدة وبكميات كبيرة.

يبدو أن هذه العملية تحقق مكاسب لكلا الدولتين (المُنتجة او المُستهلِكة)؛ لأنها توفر للدول الفقيرة أدوية أو لقاحات ربما بثمن مناسب من جهة، وتسمح للدول المصنعة من إنتاج عدد كبير من المُنتَج من جهة أخرى. لكن المكاسب التي تحققها هذه العلاقة قد لا تخدم الدول بنفس القدر، خاصة على المدى البعيد، ما لم تتعلم هذه الدول المستهلكة الأفكار أو التجارب والتقنيات التي تسمح بصنع الدواء. لذلك فالرابح الأكبر ستكون الدولة القوية؛ لأنها تُكشف عن المنتج و تحتفظ بالفكرة. ومن غريب الصدف أن تتشابه هذه الطريقة التي تتبعها الدول القوية في التوسع مع آلية انتشار الفيرسات؛ فالفيروسات لا تستطيع التكاثر من تلقاء نفسها، لكنها تهاجم الخلايا وتجبرها على إنتاج مكونات الفيروس ونسخه!

إن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضاره التي تلد منتجاتها، ومن عوامل قوة الدول يتجلى في تشجيع العلم والبحث العلمي، فالبحث العلمي عنصرا أصيلا في تكوين الثروة، كما يقول جون ديكنسون في كتابه (العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث)؛ لأنه نشاط ذي فعالية عالية بالنسبة لتكاليفه.

 بمعنى أنه بالرغم من قلة العائد النقدي للمستثمر في مجالات البحوث، فإن إنتشار الفوائد التي لا تقدر بثمن بين المستهلكين تجعله عظيم النفع بالنسبة للمجتمع ككل. وليس ثمة مجموعات معينة من الأفراد لديها قابلية فذة لتحقيق التقدم، يضيف جون ديكنسون. والدليل على ذلك أن أعدادا كبيرة من مواطني الدول النامية يعملون بنجاح وعلى مستوى ممتاز في أرقى مؤسسات البحث العلمي في جميع أنحاء العالم. 

ومع ذلك، وبالرغم من أن حضارات آسيا، و أمريكا اللاتينية، وشمال أفريقيا قد أسهمت فيما مضى بالعناصر الأولى في التقدم العلمي، فإننا نجد في الواقع أن التطورات العلمية الأساسية خلال القرون الماضية قد نبتت في المجتمعات الأوروبية حيث نجد في الوقت الحاضر إهتماما وطنيا ودوليا كبيرا موجها لزيادة الاعتمادات المالية في مجال البحث العلمي.

في المقابل تضع التقارير الدولية، كتقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافه السنوي، المغرب وجل دول المشرق وشمال إفريقيا في خانة الدول الأقل إنفاقا على البحث والتطوير. حيث كشف هذا التقرير أن المغرب لا يخصص إلا 0.7 ٪ من إنتاجه الداخلي الخام للبحث العلمي. وهو رقم أقل من المعدل العالمي الذي يصل في بعض الدول الغربية إلى 3 ٪ من الناتج الداخلي الخام على الأقل. 

إن مجتمعاتنا، حسب تعبير مالك بن نبي، لا تزال في طور الطفولة العلمية، لذلك فليس غريب أن يقع الإنتاج العلمي في مجتمعاتنا دون خط الفقر المعرفي تبعا للمعايير الدولية، ليس فقط في البحث العلمي والنشر والتوزيع، بل كذلك في الصحافة، ومدى إنتشار الحاسوب، وإستخدام الإنترنت. وهي مؤشرات أساسية لقيام مجتمع المعرفة. يتم ذلك في مقابل إزدهار علوم الأمن وتجهيزاتها، كما عبر عن ذلك مصطفى حجازي في كتابه (الإنسان المهدور).

إن السلطات في مجتمعاتنا، يضيف مصطفى حجازي، ترى في الإنفاق على التعليم العالي ورعاية مستواه، نوعا من العبء الذي تتحمله في الأعم الأغلب لدرء الثورة عليها، وإسكات جحافل الشباب متزايدة الأعداد، ومن خلال إيوائها في مؤسسات البطالة المؤجلة بدون توفير مقومات التكوين الفعلي لهم، في نوع من الإدارة بالأزمات، بدلا من إعداد العدة لصناعة المستقبل. تغض السلطات البصر عن الرداءة و تردي المستوى في مؤسسات التعليم العام عموما، والتعليم العالي خصوصا لأنها غير معنية أصلا ببناء مجتمع المعرفة، رغم كثرة شعاراتها وتصريحاته برعاية العلم والعلماء وتكوين الأطر الوطنية. ذلك أن خلفاءها الذين تعدهم باستلام السلطة بعد عمرها المديد، يتم تكوينهم في مدارس النخبة ومعاهدها في الخارج، ولذلك لا حاجة لها للجامعات ومؤسسات تعليم عال وطنية فاعلة حقا. وفي المحصلة يجد الشاب أو الباحث ذاته في حالة حصار على مستوى فرص العمل وبناء حياة عملية في وطنه، مما يدفعه إلى التفكير في الهجرة والإنتقال إلى بلد آخر.

تثير هجرة العقول الإنزعاج والقلق الشديد لدى المجتمعات التي تفقد مثل هؤلاء الباحثين. إنها خسارة مزدوجة، كما يقول مصطفى حجازي: خسارة كلفة إعداد النخب العلمية الشابة من ناحية، و خسارة عطائها من الناحية الثانية.

و لعل قصة منصف السلاوي تلخص كل ما قيل، فمن هو السلاوي؟

إنه الإطار المغربي الذي كلفة الرئيس الأمريكي بالإشراف على تطوير اللقاح الأمريكي ضد فيروس كورونا. فقد اشتغل طويلا في مجال تطوير اللقاحات، حيث أنجز 14 لقاح. ولد في المغرب في عام 1959 في أسرة تؤمن بالعلم. ذهب إلى الجامعة في بلجيكا حيث تخصص في علم المناعة في السبعينات.

أصبح ناشطا سياسيا معارضا للسياسات السلطة في المغرب. لكن عند العودة إلى المغرب لزيارة والدته المريضة أدرك أن هذه ليست الطريقة التي يمكنه بها مساعدة بلاده، فقرر أن يكون له تأثير إجتماعي من خلال الرعاية الصحية وعلم الأدوية بما في ذلك العمل على البحوث عن لقاحات ضد بعض الأمراض التي تحصد مئات الآلاف من الضحايا سنويا مثل الملاريا. 

وقد عبر السلاوي عن هذا التحول والقرار الذي إتخذه بعبارة تستحق التأمل، يقول فيها : "إن هذا العمل أكثر فاعلية ومردودية من الإختفاء في دهاليز السجون. فلو بقيت في المغرب لانتهى بي المطاف في السجن أو تعرضت للاختطاف".