بعد ثلاث سنوات عجاف من المقاطعة بين الدولتين قطر والسعودية وحلفائها الإمارات، مصر والبحرين، عادت المياه إلى مجاريها، لتبث الحياة من جديد في مجلس التعاون الخليجي، بعد أزمة كانت لها آثارها السلبية التي لم تبق ولم تذر على اقتصاد تلك الدول، وكذا على حياتها السياسية والإجتماعية، فعودة العلاقات بين الأشقاء سيلقي بظلاله الوارفة على ملفات معقدة طال عليها الأمد، دون أن تجد لها حلولا أو مدد، كملف الإستقرار في اليمن، ليبيا، سوريا وكذا العلاقات مع تركيا، وليتبين لنا حقيقة الصراع الذي ظاهره سياسي وباطنه اقتصادي، أدارته أيادي خفية.
عودة شريان الحياة إلى مجلس التعاون الخليجي بعد عودة العلاقات بين قطر السعودية
نظراً لأن تحقيق التنمية يحتاج إلى تضافر جميع الجهود وبمختلف مجالات التنمية، ولأننا من أكثر المرحبين بهذا التكتل العملاق لدول مجلس التعاون الخليجي، فكرنا في كتابة هذه الأسطر إنطلاقا من محبتنا الخالصة لأبناء الخليج العربي، وكذا توسمًا في مجلس التعاون الخليجي الذي سيكون نواة صلبة لإستقرار باقي الدول العربية، وبنية تحتية مستقبلية للمنطقة، بما سيحققه من إنجازات تنموية، وفتح آفاق تعاون دولية، خاصة إذا تجنبوا المؤامرات والصراعات الهامشية.
وإن ما نطرحه من خلال هذا المقال هو رؤية مواطن يمني خليجي وخبير إقتصادي، له مسعى طموح في غرس بذور مستقبل أكثر رسوخ لدول الخليج العربي،حتى تنتقل علاقاتها من مجرد التعاون المشترك إلى إطار الإتحاد في كيان واحد مشترك.
خاصة وأنه قد كانت لنا تجربة نعتز بها كمستشار ومنسق في مجلس التعاون الخليجي،كما كانت لنا أيضًا رؤية سبق ووضّحناها في كتابنا الذي تم طبعه العام 2016م تحت عنوان:"مستقبل التنمية في دول مجلس التعاون الخليجي - رؤية طموحة من التعاون إلى الإتحاد".
حيث ركزنا من خلال هذا الكتاب على التنمية بمختلف مجالاتها، وسبل تحقيق الإتحاد بين دول مجلس التعاون الخليجي، كما وضعنا خطة لخطوات عملية، واقعية يمكن تنفيذها تتدريجيًا.
كما تم طرح العديد من الجوانب العملية ضمن صفحات هذا الكتاب، والتي يجب القيام بها لتحقيق أحلام وطموحات الشعوب، في وضع رؤية واضحة حول مستقبل التنمية في دول مجلس التعاون الخليجي، مع التركيز على الجوانب الايجابية لتجارب ناجحة كنماذج لهذه المنظومة الدولية.
وعودة إلى بدأ فإنه من أهم الثمار التي ستقطف بعد عودة العلاقات بين الأشقاء قطر والسعودية وحلفائها،هو نقل هذه التجربة المهمة إلى الأجيال القادمة، فالأصل أن تكون الدول الشقيقة تحت مظلة واحدة، حيث أن أهداف المجلس يشمل تحقيق التنسيق، التكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية، المالية، التجارية، الجمارك، المواصلات، وفي مختلف الشؤون التعليمية، الثقافية، الاجتماعية، الصحية، الإعلامية، السـياحية والتشـريعية، الإدارية، وكذا دفع عجلـة التنمية العلمـية والتقنية في مجالات الصناعة، التعدين والزراعة، الثروات المائية والحيوانية، إضافة إلى إنشاء مراكـز بحـوث علميـة، وإقامـة مشـاريع مشـتركة، وتشـجيع تعـاون القطاع الخاص وغير ذلك، كما حدّد كل ذلك النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي.
فكما لايخفى على الجميع إنّ دول العالم ينظرون إلى دول الخليج كدولة واحدة، ويتعاملون مع قضاياها كقضية واحدة، وينظرون إلى شعوبها كشعوب تربطهم ثقافة متحدة.
نظرتنا التفاؤلية لتحقيق الاتحاد بين الدول الخليجية، والوصول إلى نجاحات كبيرة حقيقية، إنما ينبني بدايةً على المحافظة على كل الانجازات التي تحققت في السابق، مع تعزيز التعاون والعمل المشترك على استمرارها، ثم استكمال بناء التنمية في المجالات التي بها قصور، مع سد الفجوة والتفاوت الموجود بين دول الخليج بعضها البعض حول الأعمال المشتركة والاتحادية والانسجام والتكامل بين شعوب دول الخليج، كفريق يعمل بروح واحدة.
خاصة ونحن نعيش في عالم متغير تزداد فيه شدة التنافس يومًا بعد يوم، فالحاجة باتت ملحة إلى توحيد جهود جميع الطبقات والجهات الفاعلة، للتعاون والتكاثف لتحقيق الأهداف والرؤى المشتركة. فتكوين فهم عميق لما ترغب وتطمح أن تكون عليه كل دولة من دول الخليج وما ترغب أن تحققه في المستقبل خلال السنوات القادمة، هو ما ينبغي التخطيط له لأجل نهضة شعوب هذه الأمة العربية والإسلامية والأجيال القادمة.
فاستشراف مجريات الأحداث، وكذا توقع ما سنواجهه في المستقبل، والمبادرة بوعي تجاه مسؤولياتنا الجماعية، هو ما سوف يخوّلنا إمكانية الحفاظ على أسلوب حياتنا الملائم والاستمرار في تعزيزه، وكذا العمل على وضع إيديولوجيات معينة، ومخططات علمية لتحريك دواليب مختلف العمليات الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق جميع غاياتنا في التغيير، مع ربط جميع تصورات التنمية وعملياتها بالإطار الفكري للمجتمع.
فتنمية التخطيط سيتم التطرق إلى مرتكزاته (الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، البيئية وغيرها)، كما أن الهدف من هذا النوع من التخطيط هو بلوغ التنمية في جميع الجوانب. وعليه فإن الانتقال إلى مرحلة جديدة من التعاون والتطور في مسيرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية بات ضرورة حتمية، تحمل الكثير من المكاسب لجميع دول المجلس بما يجعله مطلبًا حيويًا لتعزيز الحاضر وتأمين المستقبل، وينبغي أن يلقى كل جهد يسمو بالتعاون الخليجي مايستحق من دعم حكومي وشعبي، فلم يعد التكامل اليوم في ظل الاضطراب العالمي وبخاصة في المنطقة خيارًا من الخيارات، بل أصبح حتمية من الحتميات، فالتحديات الإقليمية والعالمية التي واجهتها عملية التنمية في دول مجلس التعاون لا يمكن مواجهتها بشكل فردي بل تتطلب عملًا جماعيًا.
خصوصًا بعد انتشار حالة من التوتر وعدم الإستقرار في كثير من دول الإقليم، فضلًا عن تصاعد خطر تدخلات بعض الدول في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربي، وسعيها إلى فرض أجندات خاصة بها، والتي منها الملف اليمني وهو أخطر ملف تسبب في عدم استقرار دول الخليج، وتحمل الكثير من الأضرار والمخاطر على دول مجلس التعاون الخليجي.
فكما نعلم فإن المجتمعات المتقدمة حرصت على تعميق الشعور بالإنتماء لدى مواطنيها؛ لأنه يمثل نقطة الإنطلاقة الاساسية في حياة تلك المجتمعات واستقرارها وتماسكها؛ بل ومن الدوافع الرئيسية لتقدمها كما يقول الفارابي: "لا دولة فاضلة دون مواطن فاضل".
وأن كلمة (الوطن) ترتبط بالمكان الذي يميز الأمة عن غيرها من الأمم الأخرى، حيث يسكن أفرادها، ويشعرون بالارتباط به، والانتماء إليه، والولاء المطلق له. فالانتماء للوطن العربي هو انتماء لكل العرب، والانتماء لدول مجلس التعاون الخليجى الذي يمثل جزء من الوطن العربي هو انتماء لكل خليجي.
وبالتالي يجب العمل على تعزيز الشعور بالإنتماء لتوطيد وشائج الفرد بمجتمعه، وحرصه على مصالحه، وكذا رغبته في التفاعل مع جميع أفراده. كما يجب بناء ثقافة الحوار بين أفراد المجتمع، والنأي بالإختلاف عن الخلاف، وجعل مصلحة الوطن فوق مصلحة الجميع؛ ليكون الحوار من أجل الوطن وليس من أجل تحقيق مصالح فوقية شخصية.
مبادرتنا المقترحة لبناء الكيان الجديد لاتحاد دول مجلس التعاون الخليجي تتمثل في:
1. التركيز على وجوب الولاء للوطن ولكل قيادة من قيادات دول الخليج، مع تنمية الشعور بالانتماء والحس المشترك للوطن وللإتحاد الخليجى، من جميع مواطني مجلس التعاون الخليجي.
2. وجوب تحمل الجميع لمسؤولياتهم في التغيير الحقيقي، خاصة ما تعلق ببناء وعي ناضج وتفكير سليم، يمكنه فهم اهمية حسن الجوار، واستيعاب الآخر، ورؤية الإختلاف كوجه للتعدد والثراء لتحقيق مزيدًا من الإرتقاء
3. على جميع أهل الإختصاص من مواطني مجلس التعاون الخليجى أن يطرحوا آراءهم وأفكارهم بشفافية تامة، ليتم من خلالها الإصغاء إلى القيادات المختلفة، والوصول إلى معرفة حكيمة، بكيفية اتخاذ القرار بشكلٍ لا يستثني أحد المكونات المهمة لنجاح العمل التنموي.
4. وضع خطة متعمقة في فهم الأهداف العامة والخاصة، وكيفية الوصول إلى تحقيقها لإحداث التغيير المطلوب، والوعي بكل ما من شأنه تنشيط وإعادة تشكيل النماذج المختلفة لمفاصل التنمية، وتثبيت خطة قويمة، يتم من خلالها الوصول إلى تأسيس إستراتيجية متكاملة، لبناء مؤسسي راسخ، يستبعد الأخطاء السابقة ليبني مرحلة من النجاح مشرقة.
5. البناء الفكري الواعي الذي يصنع نجاحه من خلال الحوار، ويضع السلام كأعلى درجة في السلّم المدني والصرح الحضري، بحيث يكون زخم العطاء ونكران المصالح الذاتية هو غراس قيم الحب والتسامح بين مختلف مكونات المجتمع.
6. الإحساس بالمسؤولية الوطنية إزاء الوطن والأمة، لفتح آفاق جديدة للإبداع، والذي يسهم بدوره في حفظ الاستقرار الحضاري لمجمل مكونات المجتمع الخليجي، كمجتمع واحد غير متعدد، وككيان اتحادى يمتلك مفاتيح الإنفتاح على الآخر، وفق رؤية تنسجم مع الحفاظ على الهوية والثوابت الوطنية والولاء للقيادة والحفاظ على استقرارها.
7. اكتمال الصورة الحضارية التي يجب أن يظهر من خلالها الوطن ممثلًا بقيادة مسؤولة وواعية، بحيث نأخذ ما نحتاجه من خبرات الآخرين من موقع الندية، لا من موقع الضعف والتبعية، فتجتمع لنا أدوات السيادة بأدوات الريادة.
8. فهم منطق الوقائع الاجتماعية لدول الخليج واستيعاب اليمن كجزء أساسي ضمن منظومة الخليج، الذي لن يستقر إلا بوجوده عضو فيه، خاصة وأن أبناء اليمن في الواقع متواجدون في جميع دول الخليج ويحملون جنسياتها، وذلك لن يكون متاحًا إلا بعد الحل الجذري لاستقرار اليمن، وتحقيق التعايش بين الانسان الخليجي واليمني دون فوارق بينية، وبفهم عميق تحدّد من خلاله مشكلات الإنسان في دول الخليج، همومه وطموحاته الكبرى، وهذا يضعنا أمام أدوار مهمة تقدمها الرؤية السوسيولوجية للمجتمع.
9. معرفة حاجة المجتمع في دول الخليج إلى تحديث واسع يمس مجمل الجوانب ذات الأبعاد السوسيولوجية (علم دراسة المجتمع). فنحن نتعامل بوعيٍ مع جماعات صغيرة (عائلة – أصدقاء– وما إلى ذلك) أو جماعات كبيرة (مناطقية- دينية – طائفية)، أو مجتمعات محلية واضحة المعالم (حضرية أو ريفية، بسيطة أو معقدة. وما إلى ذلك).
كانت هذه رؤيتنا الطموحة وضعناها بين يدي أصحاب القرار وكل من له غيرة على وحدة دول مجلس التعاون الخليجي، للحفاظ على بنائه ووحدته، وعدم تكرار الإنزلاق إلى براثن تفككه وانقسامه.