استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغرس في الصحابة صفات وميزات جعلتهم فيما بعد يقودون الحضارة الإسلامية نحو التوسع والتقدم والازدهار، لدرجة أن هذه الحضارة لم تمت برحيلهم بل ازدادت توسعا من بعدهم وازدهارا، وهذا يجعلنا نتساءل عن أهم السمات النبوية القيادية التي رعت الجيل الأول للحضارة؟ والإجابة كانت من خلال مداخلة الدكتور والمفكر طارق السويدان في ملتقى ميلاد حضارة يوم 27 نوفمبر 2020 عبر منصات عمران المختلفة وإليكم في ما يلي نص المداخلة كاملا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أبارك لكم هذا الملتقى وهذا النشاط وأحيي إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي في مشروع عمران والمشاريع المشاركة في هذا الملتقى على حسن التنظيم والإدارة، والعدد الكبير من الأساتذة الأفاضل الذين تشرفت أن أتعلم منهم.
طلب مني أن أحدثكم عن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ودوره في بناء الحضارة، سأدخل مباشرة في الموضوع وألخص بعض المفاهيم الرئيسية التي هي موجودة تفاصيلها في بعض كتبي من أهمها "حضارة الإسلام القادمة" والمنهج المتكامل لإعداد القادة، وعندي أيضا كتاب مهم هو "الدولة التي أحلم بها" لخصت فيها الكثير من هذه المفاهيم.
الربط بين الرسول القائد صلى الله عليه وسلم والحضارة
سأتحدث حديث علمي ومنهجي فسَأعطيكم نقاط ملخصة ومركزة بإذن الله.
أبدأ بقضية الحضارة، ماذا نقصد بالحضارة؟ تأملت تعَاريف الحضارة الكثيرة عند ديورانت وعند مالك بن نبي وسيد قطب رحمهم الله تعالى وغيرهم، فوجدت أني أُضيف تعريف من عندي لعله يجمع كل ما تحدثوا عنه بشكل مركز أكثر ومختصر.
تعريف الحضارة من منظور طارق السويدان:
أنها المنهج الفكري لأمة في حقبة، المتمثل في إنتاج مادي ومعنوي.
في استعراض سريع لعناصر هذا التعريف لأنها مهمة جدا سنبني المحاضرة.
الفرق بين المدنية والحضارة نماذج عربية
الحضارة هي فكر فبدون فكر لا توجد حضارة، بعض دولنا وتحديداً في الخليج يجمعوا إنتاج حضاري للأمم الأخرى، يأتوا بجسور من بلد، وبنايات بشكل مختلف من بلد آخر، ويعمل مدينة ترفيهية من بلد ثالث، فهذا كله عبارة عن إنتاج مادي ومعنوي وليس الحضارة، والفكر الذي هم جاءوا به ما فيه فكر وبالتالي ما عندهم وبما أنه لا يوجد فكر فبالتالي لا يوجد عندهم حضارة ولا يمكن أن نسميها حضارة، وهذا يجرنا إلى التفريق بين الحضارة والمدنية، فالَمدنية هي الأشكال، بينما الحضارة أساسها هو الفكر، مع العلم أن الفكر وحده لا يصنع حضارة، الفكر وحده يظل كتب على رفوف، متى يتحول إلى حضارة؟ عندما يبدأ هذا الفكر يتشكل في إنتاج مادي (أبنية،شوارع،جامعات..إلخ) ومعنوي (آداب وفنون وغيرها) تعكس هذا الفكر، فبدون فكر لا توجد حضارة، هذا هو أساس الفلسفة هنا.
والمدنية التي هي الإنتاج المادي والأشكال التي تنتج عن الحضارة وبالتالي إذا ركزنا على المدنية فقط لا نصنع حضارة، لكن لو ركزنا على هذا الفكر وبنيناه ليتشكل في شكل إنتاج مادي ومعنوي، وأهم من هذا أن يتشكل أولاً في رجال ونساء يحملوا هذا الفكر وبالتالي هم الذين يصْنعوا هذا الإنتاج المادي والمعنوي وعندها نستطيع أن نشكل حضارة.
مراحل التشكيل الحضاري
- إذا نستطيع أن نلخص مراحل التشكيل الحضاري في ثلاثة أمور رئيسية:
- الأمر الرئيسي الأول هو الفكر الذي وراء هذه الحضارة، المنهج الفكري.
- المرحلة الثانية هي أن ننشئ رجال ونساء يؤمنوا بهذا الفكر ويحملونه.
- المرحلة الثالثة هو أننا نحول هذا الفكر إلى إنتاج مادي ومعنوي.
المنهج الفكري النبوي الفريد والمتكامل في أقل من ثلاثة وعشرين سنة
لو تأملنا في ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم سنجد أن الإنتاج المادي والمعنوي جدا جدا محدود، فلو تأملنا في المدينة المنورة عندما تركها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته عليه أفضل الصلاة والتسليم، لن نجد فيها الشوارع الفخمة والمباني العالية ولن نجد فيها كثير من أشكال الحضارة التي نراها اليوم لن نرى هذا، ولن نرى أيضاً الانتاج المعنوي بمعنى الفنون والآداب والقصص والروايات الفنية وغيرها والمسارح، لن نجدها في ذلك الزمن، لكن ماذا سنجد؟
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعبقرية غير العادية استطاع أن يترك لنا ولهم منهج فكريا كاملا، وعادة المناهج الفكرية تأخذ وقت طويل إلى أن تتشكل، وأحياناً عشرات السنين، بل مئات السنين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم المدعوم بالوحي صلى الله عليه وآله وسلم أعطانا منهجاً فكرياً كاملاً في أقل من ثلاثة وعشرين سنة، فهذا الجانب الفكري.
ومن ثم بعد ذلك هذا المنهج الفكري تشكل في نساء ورجال يؤمنون بهذا الفكر ويحملونه ويقُودوا من خلاله هذه الحضارة.
القيادة والفكر أساس تشكيل الحضارة:
تأملت في المشاكل التي تدور في الأمة وجدتها خمس مشاكل رئيسية:
- مشكلة السلوك بأنواعها المختلفة.
- مشكلة التخلف بأنواعها المختلفة.
- مشكلة الفاعلية وعدم الإنتاجية بأشكالها المختلفة.
ثم وجدت أن هذه المشاكل الثلاث المتمثلة في السلوك والفاعلية الحقيقة رغم كل حجمها هي نتائج لأمرين كبيرين وهما:
- مشكلة الفكر.
- مشكلة القيادة.
فإذا أصلحنا هذين الأمرين الأمور الثلاثة تتبع، لكن مهما اشتغلنا في محاولة إصلاح السلوك كما يفعل الكثير من الأخوة الدعاة وقضايا التخلف وقضايا الفاعلية، إذا لم يكن هناك خلفها فكر وقيادة لن نصنع حضارة.
النبي صلى الله عليه وسلم الأمر الذي فعله، هو أنه أعطانا وأعطاهم منهجاً فكرياً كاملا هو أساس كل حضارتنا، وإلى اليوم مازال كذلك.
لآن هذا الأمر كيف استطاع أن يزرع صلى الله عليه وسلم في نفوس وعقول من يتبعه، طبعا الذين اتبعوه ليس كلهم قادة، فليس كل من تبع النبي صلى الله عليه وسلم يمكن اعتباره قائد، يبقى لهم فضلهم ومكانتهم، ولا يجوز الطعن فيهم هذا أمر ثاني، فالفضل شئ، والقيادة شئ آخر، فنجد أن أبا ذر رضي الله عنه كان من أهل الفضل الذي لا مثيل له إلا ما ندر في الصحابة الكرام، ومع ذلك لم يكن قائداً، وبإجماع العلماء أبو ذر كان أفضل من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وأبو ذر لم يقُد شيئاً في حياته، بينما خالد وعمر قادوا الكثير من جوانب الأمة العسكرية والسياسية.
كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرس القيادة في نفوس أصحابه؟
الآن سأعطيكم منهجية رئيسية، كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يزرع القيادة في نفوس أصحابه، الدراسات العلمية الحديثة ومن أهمها بحث كبير قام به كوزس وبوسنر في كتابهم الشهر "تحديات القيادة" وهنا نتحدث عن مسألة مهمة يجب أن نفرق بينها، هنالك قائد نموذجي وهناك قائد وهنالك قائد سئ، وهذه كلها أبحاث علمية يمكن أن نشتغل عليها، ولكن ما يهم الذي سنتحدث عنه هو القائد النموذجي هو الذي يستطيع أن يزرع في أتباعه خمسة أمور رئيسية وهي عناصر صنع القائد، وكل واحدة منها تحتها ممارستين، والرسول صلى الله عليه وسلم طبقها كلها وطبق كذلك الممارسات العشر.
صناعة القادة وصناعة المنهجية القيادية
فهؤلاء القادة الذين صنعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المنهجية التي سنتحدث عنها، هم الذين أسسوا للحضارة وهم الذين بنوا الحضارة الإسلامية، وطبعا تطورت الحضارة بأشكالها المادية والمعنوية وبلغت أوجها في أيام الدولة العباسية في الأندلس، والدولة العباسية في المشرق، والدولة الأموية في الأندلس.
هناك مركز في العلم نسميه مركز الإبداع في التاريخ وتعْريفه كالتالي: عندما نقول أن هذه المدينة وهذه الدولة هي مركز من مراكز الإبداع، يجب أن تساهم هذه الدولة بأقل شئ 20% من الإبداعات في العالم خلال 25 سنة.
في فترة من فترات تاريخنا طبعا تنوعت مراكز الإبداع الحضاري، فمرة كان في روما ومرة في لندن ومرة باريس، ولم يحدث أن سيطرت أمة على المركز الحضاري الكامل، حالياً المركز الحضاري هو في أمريكا، لكن بدأت ألمانيا واليابان وكوريا تنافسهم.
في فترة من فترات تاريخنا كان هناك مركزين من مراكز الحضارة وهما بغداد في المشرق، وقرطبة في المغرب، هذه تشكل أكثر من 25% من إنتاج العالم الحضاري وهذه 25% من إنتاج العالم الحضاري، أي 50% من الإنتاج الحضاري في العالم على يد المسلمين، فتخيلوا هذا.
فإذا نحن صنعنا ومازالت عندنا القدرة على أن نصنع حضارة، أيضاً قبل أن أدخل في العناصر والممارسات أحب أن أشير إلى مفهوم رئيسي جداً وهو:
أن حضارتنا الإسلامية لم تمت، وإنما مريضة مرضا شديد، أحياناً الإنسان المريض مرضا شديدا، إلى درجة أننا نريد أن نتأكد هل مازال فيه نبض ونفس، والعلامات الحيوية كما يسمونها، ونتأكد منها لشدة مرضه نريد أن نستدل إن كان حي أو ميت، فهذا هو وضع أمتنا اليوم، ولكنها مازالت حية ونستطيع أن نتغلب على هذا المرض ونعود للحياة ونعود للحضارة.
الآن نتكلم عن الجانب القيادي، القائد النموذجي كما ذكرنا يمارس عشر ممارسات من خلال خمسة عناصر:
- العنصر الرئيسي الأول أن القائد يزرع الرؤية، هو الذي يحدد اتجاه المستقبل وفيه ممارستين:
- القائد يصف لهم المستقبل المشرق، وهذا كثير في السيرة النبوية.
- أن يشركهم في هذه الرؤية، بمعنى أنه يجعلهم يؤمنوا إيمانا عميقا جداً بهذه الرؤية، يعني أن الصحابة رضي الله عنهم تشربوا هذه الرؤية، وآمنوا بها إيمانا عميقا.
إذا كان الأتباع اليوم الذين هم قادة المستقبل لم يتَشربوا هذه الرؤية قد يغيروها، أو قد يتخلوا عنها، لكن عندما يؤمنوا بها إيمانا عميقا من خلال إشراكهم في هذه الرؤية وزرعها في نفوسهم، عندها سيصنع الحضارة والإنتاج بناءً على إيمانهم بهذه الرؤية وهذا كثير جداً في السيرة النبوية.
- العنصر الرئيسي الثاني هو القدوة: فلا يمكن للإنسان أن يصبح قائد نموذجي دون أن يكون قدوة لأتباعه، وهذه القدوة تتحقق بمُمارستين رئيسيتين:
- أن القيم التي يؤمن بها يجعلهم يؤمنوا بها ونسميها القيم المشتركة: أن ينقل لهم قيمه فيزْرعها فيهم.
- المصداقية: وهي باختصار شديد أن يوافق القول العمل أو العمل القول، فهذه الممارسة تمثلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ليس فقط أعطانا منهج فكري وإنما أرانا كيف تطبق القيم، حياة كاملة تدور حول وضوح كامل في قضية القيم والتمثل لهذه القيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يزرع القيم المشتركة وكام عنده المصداقية في تصديق هذه القيم.
- العنصر الرئيسي الثالث هو التحدي: القائد الفعال لا يقبل الواقع على ما هو عليه، وإنما يحرك أتباعه نحو الرؤية التي تحدثنا عنها، فهذا التحريك نحو الرؤية يتطلب أول شئ أن الواقع لا يقبل به، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى لتغيير هذا الواقع كله، هذا التحدي ليتم تنفيذه يتطلب أن يفعل ممارستين أيضاً هما
- الإبداع: أن يفعل أمور لم يفعلها أحد من قبل وهذا كثير في السيرة النبوية ومثال ذلك في غزوة الأحزاب وشاهدها عندما رأى أبو سفيان الخندق وقال هذه حيلة لا يعرفها العرب، كما جلب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق من الأردن.
- المخاطرة: القائد الفعال الذي لا يخاطر لا يكسب مكسباً كبيراً وهذا معروف في علم الإدارة أن مع المخاطر الكبيرة تأتي المكاسب الكبيرة، وقد تأتي الخسائر الكبيرة أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذه المخاطرة في العديد من المواقف، مثلاً عندما ذهب للطائف كانت هذه مخاطرة كبيرة، وكذلك المخاطرة التي خاضها في بيعة الحديبية عندما ذهب لأعدائه بدون سلاح.
- العنصر الرئيسي الرابع هو التمكين: والتمكين هو درجة أعلى من التفويض فالتفويض هو أن أحدد لكم المهمة وأترك لكم الوسائل، أما التمكين فهو أن أشرح لكم ما هو منهجنا وما هي أهدافنا وأترك لكم أنتم تحددوا كيف تتصرفوا وتخْتاروا وتقَرروا بأنفسكم بناء على فهمِكم لهذا المنهج، وهذا التمكين يتطلب أمرين رئيسين:
- إعطاء الصلاحيات: وهذه كثيرة جداً فمثلا النبي صلى الله عليه وسلم عندما تبرأ من فعل خالد بن الوليد عندما قتل بني جذيمة، فخَالد رضي الله عنه أُعطي صلاحيات ضخمة جداً فتصرف تصرف خاطئ جداً أدى إلى مذبحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمسك يد خالد بن الوليد رضي الله عنه ورفعها وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ولكنه لم يعزله لأن إعطاء الصلاحيات عنده قانون، وهو أن لا نعاقب على الأخطاء.
- زرع التعاون بين الأتباع: وهذا عجيب جداً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فعند الحديث عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وكأنهم متفاهمين تماماً، ولكن على العكس ثابت في السيرة وفي الأحاديث الصحيحة أن سيدنا عمر وسيدنا أبو بكر كان بينهم اختلاف شديد تقريبا في كل شئ، ومع ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظل هذا التعاون بينهما.
- العنصر الرئيسي الخامس هو التحفيز: نحو الرؤية ونحو التعاون ونحو التحدي والإبداع وهذا التحفيز نلخصه في كلمتين التشجيع والتقدير والفرق بين التشجيع والتقدير أن التشجيع قبل العمل، بينما التقدير هو بعد العمل، فالنبي صلى الله عليه وسلم مارس كل أنواع هذا التحفيز، وممارسات هذا التحفيز تتم عبر مستويين:
- تحفيز للأفراد.
- تحفيز على المستوى الجماعي، فحتى النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من قضية وهي أن كثير من الناس يعتقد أنها تنافي الإسلام وهي القبلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة جيشه ما كان مقسم على أساس القبائل وكل قبيلة لها قائدها، وكان ينادي القبائل بأسمائهم حتى يحفزهم.
الفكر من جهة وصناعة القادة من جهة هي التي تحل الإشكال الحضاري الذي نقع فيه اليوم، والذي من الممكن أن يتحول إن شاء الله إلى إنتاج في المستقبل معنوي ومادي عالي جداً يحيي حضارتنا من جديد.