قبل عشر سنوات من الآن انطلقت رحلتي مع العمارة والعمران... كنت يومها فتاة تسعى لتخليد بصمتها على وجه هذا الكوكب ولم تجد أفضل من العمران سبيلا لذلك... فتاة استسقت من كتب مالك بن نبي عن الحضارة حتى الثمالة واستهوتها تلك العلاقة المتلازمة بين الحضارة والعمران رغم تباين التعريفات الاصطلاحية لكل منهما، فلطالما اعتبرت دائما أن عظمة البناء ليست إلا دليلا على عظمة بانيه.

عشر سنوات مرت قرأت فيها الكثير من التعريفات الاصطلاحية عن العمران والعمارة... لم تروي كلماتها الغربية عطشي لمعرفة المزيد عن العمران "من وجهة نظرنا نحن" كحضارة لها فضلها على تطور العمران والإنسان على حد سواء... حضارة تقوم على أن الغرض من وجودها هو إعمار هذه الأرض.

وزاد شغفي لمعرفة رؤيتنا للعمران بعد اختصاصي في المدينة العربية المعاصرة... ولأجل ذلك قررت مقاسمة هذا الشغف معكم عبر مقالي هذا. والذي نستعرض فيه أهم ما جاء في التعريفات الاصطلاحية لكلمة عمران بالاستعانة بكتاب سنن العمران البشري في السيرة النبوية لصاحبه عزيز البطيوي.

والبداية ستكون مع تعريف ابن خلدون للعمران -الذي اختاره الكاتب كبداية بوصفه أول من أفرد كلاما خاصا ومفصلا عن العمران في كتابه المقدمة- حيث يعرفه بكونه:

"التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات، لما يكون فيه من طباعهم من التعاون على المعاش. ومن العمران ما يكون بدويا، وهو الذي يكون في الضواحي والجبال… ومنه ما يكون حضريا، وهو الذي في الأمصار والقرى والمدن والمدائر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها".

وهنا ينوه الكاتب إلى تلك النزعة الإنسانية والرؤية المقصدية التي أسس عليها ابن خلدون تعريفه للعمران كضرورة إنسانية واجتماعية أساسية على اعتبار أن مفهوم العمران ليس مفهوما ماديا طبيعيا أو مجرد حالة ساكنة من الاجتماع البشري وإنما نظام وجودي دال على حركية التجربة الإنسانية في تفاعلها مع الدين والطبيعة...ينتج عن متبايناتها ظواهر ومجالات عمرانية ينتظم وفق قواعدها وشروطها المجتمع البشري.

ليعرج بعد ذلك على الفرق بين العمران والحضارة من وجه نظر ابن خلدون، والذي يرى العمران أهم من الحضارة التي هي عنده مجرد حال من أحوال العمران حيث بين أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران.

ليأتي بعدها تعريف محمود محمد سفر والذي شرح تلك العلاقة المتلازمة للعمران والحضارة بقوله:

"لابد أن نقر بأن البناء الحضاري ومظاهر التقدم ما هي إلا آثار تفاعل الأمة والمجتمع مع البيئة بما فيها من قوى خلقية وسنن كونية وموارد مادية استجابة من الأمة لدوافع البناء وحاجاته كما هو تعبير عن ما تمثله الأمة من قيم ومعادن وغايات نابعة من أعماق أبناء تلك الأمة وكيانها العقائدي والنفسي والفكري، لأن صروح الحضارات لا تبنى دوما ولا ترتفع إلا حين تتبلور رؤى الأمم وتتضح غاياتها فتدب الحركة والحياة في حوافزها وتنطلق طاقاتها، وتقوم مؤسساتها لتعبر ماديا عن تلك القيم والمعاني والغايات فتعمر الأرض وتقوم الحضارة، وتبقى العمارة ما بقي ذلك التفاعل، وتظل الحضارة ما ظلت تلك القيم والمبادئ".

واستطاع الكاتب أن يستخرج من هذا التعريف العناصر التي تقربنا أكثر من الدلالة الاصطلاحية لمفهوم العمران وهي كالآتي:

- العمران حركة تفاعلية لمكونات الأمة والمجتمع مع الطبيعة والوجود وما يحكم ذلك الوجود العمراني من سنن ناظمة ومنتظمة لظواهره وأحواله.

- اعتبار العمران فاعلية وفعالية وإنتاجية تتكامل فيها أبعاد مادية وعقدية وإنسانية وقيمية لا يصلح العمران أبدا بافتراقها وانفصال بعضها عن بعض.

- العمران سنن وقسم ومعان وغايات تتحدد بمنظومة عقدية وفكرية تستجيب لحاجات العمران ذاته.

- مفهوم العمران تعبير عن ذلك البناء والصرح الحضاري النابع من رؤية الأمة المعرفية المتوازنة التي تستحضر القيم والمبادئ في تفاعلها مع الوجود. 

ليأتي بعدها تعريف سعيد رمضان البوطي والذي يوضح من خلاله الغاية من العمران بقوله:

"فعمارة الأرض بمعناها الشامل تشتمل إقامة مجتمع إنساني سليم، وإشادة حضارية إنسانية شاملة، ليكون الإنسان بذلك مظهرا لعدالة الله تعالى وحكمه في الأرض... إن مهمته تحقيق جامعة إنسانية فعالة في سبيل النهوض بعمارة هذا الكوكب الأرضي، العمارة الكلية الشاملة لكل ما تتسع له كلمة "العمارة" من المعاني المادية والعلمية والاقتصادية".

         محمد سعيد رمضان البوطي

حيث اعتبر الكاتب أن البوطي يؤسس فهمه للعمران وعمارة الأرض على ضرورة الوعي بالمنظور الشامل لدلالة مصطلح العمران الذي يستحضر المعاني المادية والعلمية والاقتصادية، كما يسعى البوطي في تحديده لمعنى العمران ربطه بغاية كبرى تتجلى في إقامة مجتمع وحضارة إنسانية راشدة، وإشاعة قيم العدل والإيجابية والفعالية للنهوض بواجب الاستخلاف.

هو ما نلمسه أكثر في تعريف فريد الأنصاري الذي وضح المقصد الحقيقي لمصطلح العمران حيث اعتبر رحمه الله -في كتابه الفطرية، بعثة التجديد المقبلة- أنه:

"ليس المقصود بالعمران في اصطلاح هذا الكتاب هو تخطيط البناء المادي وهندسته فحسب كلا! وإنما المقصود به هندسة المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان. التي كان بمقتضاها كما كان. العمران إذن بناء الإنسان، بما هو عقيدة وثقافة وبما هو حضارة وتاريخ، وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي".

وهو ما يرى فيه الكاتب تنبيها على أن مصطلح العمران يتجاوز دائرة الهندسة المادية نحو الهندسة الحضارية الكلية الرامية إلى بناء الإنسان عقديا، وثقافيا، ووجدانيا، ونفسيا، واجتماعيا.

وهو ما ذهب إليه مسفر بن على القحطاني في تعريفه بقوله:

"إن مفهوم العمران ليس مفهوما ماديا بحتا، وإنما هو أثر لقوة العلم والقيم وعمق الوعي بسنن التحضر والمدنية وأكثر نصوص الوحي كانت لهذا البناء الإنساني أولا، وإيجاد المستلزمات الضرورية لإصلاح معتقده ونفي صور الانحرافات الشركية والكفرية من عقله وسلوكه، وتنقيته من رواسب الجاهلية وأخلاقياتها المادية".

ويقوم التعريف الذي اختاره مسفر القحطاني لمصطلح العمران من وجه نظر الكاتب على العناصر الآتية:

- ثنائية وجدلية "العلم المعرفة" و"القيم الأخلاق" في تشييد صرح العمران.

- يقدم مسفر تعريفا للعمران من منظور سنني يستحضر ضرورة الوعي بسنن التحضر والمدنية، وهذا يفيد أن العمران هو الغاية القصوى من التحضر والمدنية.

- العمران بناء إنساني تتكامل فيها أبعاد متعددة تتجاوز حدود ماهو مادي بحت.

- دعوة الوحي إلى اعتبار العمران منظومة مركبة من عناصر مختلفة تراعي تحقيق الإصلاح العقدي والفكري والسلوكي.

وفي آخر تعريف نستعرضه معكم في هذا المقال يرى أبو يعرب المرزوقي أن:

"العمران من حيث وجود كوني للبشرية يتعين في الثقافات الخاصة بصورة عامة وفي أعيان الأشخاص بصورة خاصة لأن الثقافات والأشخاص هي في الوقت نفسه ثمرة الاجتهاد (المعرفة النظرية والعلمية)، والجهاد (المؤسس على نوعي المعرفة)، وثمرة وظائفهما ومؤسساتهما…"

ففي الاجتهاد تكون صورة العمران (النظام التربوي والنظام السياسي) متقدمة على مادته (الاقتصاد والمجتمع)، لأنها تتعلق أساسا بالمعرفة النظرية والعملية من حيث هي تواصي بالحق...

ومن حيث هي مقومات الأمة المكلفة بالشهادة على العالمين بالصورة التالية:

أ‌- فصورة العمران تتعلق بالنظامين التربوي(مقصد العقل)، والسياسي(مقصد العرض) القادرين على إنتاج الشخص والجماعة المستثنين من الخسر.

ب‌- ومادة العمران تتعلق بالنظامين الاقتصادي (مقصد المال)، والاجتماعي (مقصد الدين)، القادرين على تحقيق الشخص والجماعة المستثنين من الخسر. وفي الجهاد ينعكس الأمر فتتقدم مادة العمران على صورته، لأنه مهتم أساسا بتطبيق لمعرفة النظرية المجردة والمطبقة المجردة من حيث تواصي الصبر.

ويبين الكاتب أن هذا التعريف جاء معتمدا على خلفية أنتروبولوجية وفلسفية وعلى رؤية مقاصدية شرعية، فالعمران وجود كوني واجتماع إنساني عالمي يعبر عن منظومة تتداخل فيها العناصر الرمزية والمادية والمعرفية والعملية والقيمية، تحقيقا لعمليتي الاجتهاد المعرفي والجهاد العملي، وهو ما يعني ضرورة تأهيل النظامين لعمليتي الاجتهاد المعرفي والجهاد العملي، وهو ما يعني ضرورة تأهيل النظامين التربوي السياسي لبناء الوجود الرمزي والفعلي للعمران وتأهيل النظامين الاقتصادي والاجتماعي لبناء الوجود المادي والوجود الذوقي الجمالي للعمران. 

وبهذا نختم هذا المقال برؤية أوضح عن مفهوم العمران وكونه يتعدى مفهوم الحضارة بل ويأتي شاملا لها على إعتبار أنه عبارة عن عملية بناء محكمة للإنسان والحياة على حد سواء.