كنا قد تناولنا في المقال السابق سؤال: هل يتناقض الدّين والعلم؟ ورأينا السياق الذي نشأ فيه السؤال، وخصوصيّة التجربة الغربية فيه، وأنه غير قابل للتعميم، بالرغم من سعي المتأثرين بالتجربة الغربية إلى تعميمه على كل الأديان. وفي هذا المقال نعرض لتساؤلين آخرين: أحدهما هل العلم والدين مجالان متمايزان لا يلتقيان؟ وثانيهما هل الدين والعلم منهجان متباينان للوصول إلى حقيقة واحدة؟ 

1-هل الدّين والعلم مجالان متمايزان؟

هناك من رأى أن بين العلم والدين تمايزا، لا تناقضا؛ فليس أحدهما يَثبُت حيث ينتفي الثاني، فيكون بينهما تناقض، وإنما يختص بما لا يختص به هذا الثاني؛ فما يشتغل به العلم لا يشتغل به الدين، وما يشتغل به الدين لا يشتغل به العلم؛ فالعلم عند من ذهب إلى هذا الرأي موضوعه المعرفة والحقيقة، بينما الدين موضوعه الشعور والحدس؛ وضوابط المعرفة والحقيقة لا تنطبق على مجال الشعور والحدس، وقواعد الشعور والحدس لا تنطبق على مجال المعرفة والحقيقة. وعلى هذا، فلا النقد العلمي بمقدوره أن ينال من الدين، ولا السلطة الدينية بمقدورها أن تنال من العلم (عبد الرحمن، 2007، ص 38-39).

وقد وجد هذا الرأي مقلدة من بين أبناء المسلمين، ادعوا ما ادعاه هؤلاء، حجتهم في ذلك أن العلمَ مبني على التدليل العقلي والدينَ مبني على التسليم القلبي، ولا مطمع في التقدم والتحضر مثلما تقدَّم وتحضَّر سوانا إلا باعتماد طريق العقل على شرطهم؛ ولكَمْ كان فخرها كبيرا أن تجد بين أسلافنا من أشبهَ قولُه قول غيرنا، وبخاصة المتفلسفة، فراحوا يشددون على اتباعه، وما دَرَوا أن البرهان لا يستقل بنفسه ولا يغني عن الإيمان، كما أن الإيمان لا يستقل بنفسه ولا يغني عن البرهان (عبد الرحمن، 2007، ص 39)!

2-هل الدين والعلم منتهان متباينان؟

وهناك رأي آخر يرى أن بين العلم والدين تباينا، لا تناقضا ولا تمايزا؛ فليس أحدهما يَثبت حيث ينتفي الثاني، فيكونَ بينهما تناقض كما ذهب من قال بالتناقض، ولا أنه يختص بما لا يختص به، فيكون بينهما تمايز كما ذهب من قال بالتمايز، وإنما الواحد منهما يتناول ما يتناوله الآخر، لكن بغير الوجه الذي يتناوله به، فمُتعلَّقهما واحد ووجه تعلُّقهما مختلف.

بمعنى أن الاعتقاد في العلم غير الاعتقاد في الدين، والمعرفة في هذا غير المعرفة في ذاك، والفعل هنا غير الفعل هناك، فيكون العلم والدين بمنـزلة شكلَين متباينين من أشكال الحياة، بل بمنـزلة عالمين اثنين لا مجال للمقارنة بينهما ولا لمقايسة أحدهما بالآخر؛ ومادام العلم والدين بهذا التباين البالغ، فلا يُعقل أن نصرف الدين بحجة أنه معرفة لا تقوى على النهوض بموجبات العلم، كما لا يُعقل أن نسعى إلى تقويته بأن نخلع عليه حلية العلم (عبد الرحمن، 2007، ص 39).

وقد وجد هذا الرأي أنصارًا من أبناء المسلمين اليوم، ادعوا ما ادعاه هؤلاء، مسترجعين بهذا الصدد ما قاله بعض أسلافنا من كون الدين يُعبّر عن الأشياء بلغة المجاز والإشارة، في حين أن العلم يُعبّر عن هذه الأشياء بلغة الحقيقة والعبارة؛ لذا لا يجوز أن نحكم على الإشارة بما يجب في حق العبارة، وإلا صارت قولًا كاذبًا، ولا أن نحكم على العبارة بما يجب في حق الإشارة، وإلا صارت قولًا لا يقبل التحقيق ولا التدليل.

ولهذا، فإن تباين الدين والعلم عند من ذهب إلى هذا الرأي كما تتباين لغة الشعر ولغة المنطق؛ وما دَرى هؤلاء أن الإشارة ليست درجة واحدة، وإنما درجات كثيرة، وأن العبارةَ -هي الأخرى- ليست درجة واحدة، وإنما درجات مختلفة! وحينئذ لا مفر من أن يتعذر عليهم الفصل في الأقوال التي تنـزل الدرجات الوسطى هل وردت على وجه الإشارة أم على وجه العبارة(عبد الرحمن، 2007، ص39).

ولعل هذا يذكرنا بقول إقبال عليه رحمة الله لما قارن بين الفلسفة والتجربة الدينية في الوصول إلى الحقيقة، حيث رأى أن "الدين -في أكمل صوره- يسمو فوق الشعر، فهو يتخطى الفرد إلى الجماعة؛ وفي موقفه من الحقيقة الكلية يتعارض مع عجز الانسان وقصوره، فهو يفسح مطالبه، ويتمسك بأمل لا يقل في شيء عن شهود الحق شهوداً مباشراً" (إقبال، تجديد التفكير الديني، ص7).

أما في ما يتعلق بالفلسفة والجهد العقلي، فإن إقبال يرى أن "مطمح الدين يسمو فوق مطلب الفلسفة. فالفلسفة نظر عقلي في الأشياء، وهي بوصفها هذا لا يهمها أن تذهب إلى أبعد من تصور يستطيع أن يرد كل ما للتجربة من صور خصبة إلى نظام أو منهج، فهي كأنما ترى الحقيقة عن بعد. أما الدين فيهدف إلى اتصال بالحقيقة أقرب وأوثق. فالفلسفات نظريات، أما الدين فتجربة روحية ومشاركة واتصال وثيق" (إقبال، تجديد التفكير الديني، ص77).

وكأنه يرى أن طريق الدين غير طريق الفلسفة في إدراك الحقيقة، وإن كان يؤكد أن الادراك العقلي إدراك براني، بينما الإدراك الديني إدراك جوّاني يسمو بالإنسان عن مجرد الإدراك الظاهري الشكلي الذي توفره الفلسفة والعقل.

ولعل هذه المواقف الثلاثة التي أثمرها النموذج المعرفي الغربي في الصلة بين الدين والعلم، لها أثرها في واقعنا الفكري اليوم، فتجد لها مقلدة تبنوا هذه المواقف، على غير بصيرة ووعي بأسباب هذه المواقف في سياقها الحضاري والثقافي الغربي، مما أدى إلى اضطرب في المواقف بين التناقض والتمايز والتباين، فجعل بعضها يستبعد الدين، وجعل بعضها العلم بمعناه الطبيعي متحكما في الدين، وجعل بعضها الدين والعلم في مرتبة واحدة لكنهما لا يلتقيان.

ولعل في مقالاتنا المقبلة محاولة لإيجاد طريق آخر يخرج بنا عن داعية التقليد، إلى بصيرة النقد والتجديد.