منذ نشأة الحركة الإسلامية المعاصرة على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم من أعلام الحركة الإسلامية، كانت هناك إشكالات ما تزال مطروحة على الساحة الفكرية إلى اليوم، كالموقف من الديموقراطية، وحدود الحرية، وعلاقة الدين بالدولة، وغيرها من المسائل التي ألّفت فيها الكتب وعقدت لها الندوات وسجلت لها "السيديهات" قديما وحديثا، وملأت الدنيا وأشغلت الناس.

سأحاول في هذا المقال الإدلاء بدلوي في هذا المجال؛ عبر الإجابة عن أسئلة ثلاث: أولها عن موقف الشرع من الديمقراطية الحديثة، وثانيها هل يمكن أن يكون النظام الديمقراطي إسلاميا، وآخرها هو هل الديمقراطية اليوم هي السبيل الأمثل لتغيير واقع الأمة وإنشاء الدولة الراشدة التي ينظر لها الإسلاميون؟ 

إذا رجعنا إلى كتابات المفكرين الإسلاميين بشقيهم السلفي والإخواني نجد تباينا كبيرا في تقييم الديموقراطية ما بين مؤمن متمسكٍ بها يرى فيها السبيل الأمثل لتطبيق الشورى، وما بين رافض منكر لها يراها مناقضة لحكم الله وأن الشورى والديمقراطية ضدان لا يجتمعان.

ومن خلال تتبع مختلف هذه الآراء نجد أن مرد هذا الخلاف ليس في فهم واستيعاب النظام السياسي الإسلامي، بل في فهم المقصود من الديمقراطية، فمناصروا الديمقراطية من الإسلاميين يرون فيها ذلك الإجراء الذي يعطي للشعب حقه في اختيار الحاكم وعزله ومحاسبته، ثم يرون أن الشورى مقررة شرعا كمبدأ لا كوسيلة، فالمبدأ نصّي والوسيلة اجتهادية؛ حيث أن الديمقراطية هنا مجرد وسيلة لتطبيق الشورى. أما الرافضون للديمقراطية فينظرون لها بمنظورها الغربي وهي ذلك النظام السياسي الذي يكون فيه الحكم للشعب أو لغالبيته، فالشعب فيها هو صاحب السيادة تشريعا وتنفيذا، وهو ما يعتبره هؤلاء (وأغلبهم سلفيون) مخالفا لحاكمية الشريعة وللرد لله ورسوله، وهما من أهم مبادئ وقيم النظام السياسي الإسلامي، فالسيادة في الإسلام للشرع وإن كان الشعب هو مصدر السلطات كما في الديمقراطية، وإذا نظرنا إلى ترتيب القيم التي يقوم عليها النظامان الإسلامي والديمقراطي نجد أن جذر القيم في الإسلام هو العدل كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية ووافقه من المتأخرين الشنقيطي، في حين أن الديمقراطية كنظام سياسي تقدم الحرية على العدل عند تعارضهما، وهي الفكرة التي يقوم عليها العقد الاجتماعي لدى جان جاك روسو. 

بالرجوع إلى التاريخ السياسي الإنساني نجد أن النظم التعاقدية شورية كانت أو ديمقراطية، لم تكن أبدا هي الوسيلة المتبعة لتغيير النظام السياسي للمجتمع، بل كانت طوال تاريخها سواء في دولة النبوة والخلافة الراشدة بعد ذلك أو في الديمقراطيات اليونانية القديمة والدول الديمقراطية المعاصرة وسيلة للتداول السلمي على السلطة بين أطراف تتفق في الهوية والمبادئ والكليات وتختلف في الوسائل والجزئيات، وأي تغيير سياسي حقيقي حصل من خلال إحدى طريقتين لا ثالث لهما: إما الحرب كما في تغيير الخلافة الراشدة إلى ملك جبري عام 40هـ، أو ثورة عارمة كما في الثورة الفرنسية، وأقصى ما وصل له الإسلاميون في ظل النظم الديمقراطية، هو حالهم في تركيا وهو بعيد جدا -رغم كل حسناته- عن ما نظَّر له رواد الحركة الإسلامية قديما وحديثا. 

ختاما يمكننا القول إن الديمقراطية كإجراء لاختيار الحاكم وعزله لا تخالف الشريعة الإسلامية، أما النظام السياسي الديمقراطي فلديه اختلافات بنيوية مع مبادئ وقيم النظام السياسي الإسلامي، كما أن التجربة التاريخية أثبتت أن كل تغيير تاريخي عظيم لا بد أن يمر على شلال من الدماء -للأسف- لا على صناديق من الأصوات وشواهد هذا في عالمنا المعاصر ذات وفرة ولنا في النظام العالمي المعاصر خير دليل.