حين ينعطف بنا الزمن من لحظة ماضية إلى لحظة آتية، ينحني خط الزمن بنا في انكسرات متتالية، بين ذكريات وحنين، أو أمل نرسمه حلمًا لقادم السنين، فتضيع اللحظة وهي تفتش عن اللحظة، ويموت الإنسان وهو يعتقد أنه يعيش الحياة، فما مضى لم يعد موجودًا، وماهو آت ليس موجودًا، وفي أثناء هذا الفقد يفتقد الإنسان إلى جوهره، فيبحث له عن انتماء، تتحدد سماءاته بما نراه في ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: هو ذاك الذي يزيده الفقد تمسكًا بذاته، فيجعل أناه مركزًا وكل شئ حولها يدور، فيطمع في الحصول على سعادة لها مضاعفة بسلبها من الضعفاء، ويطغى ويستبد ليغذي أنانيته، ويجعلها تكبر في حيّز من الوهم، يشعره أنه أكبر، فيبعث بكينونته وهويته في سبيل رؤية زائفة للذات، صوّرت الجوهر كمحور يتحرّك حوله العالم من شرقه إلى غربه، دون توقف لصناعة مواقف حقيقية، فكل المواقف لديه هي مجرد سلطةٍ لجلاد، يتقن بسوطه جلد الضحية، ويرى في ذلك كامل الاستحقاق، دون أي بحث عن الحق أو الحقيقة، فالحقيقة حاضرة دومًا في جوهره المظلم الذي عرف إليه الظلم ألف سبيل، من غير حجة أو دليل. فجعل من ذاته الإله الذي يستحق القداسة والعبودية، وقد ذهب الفيلسوف سبينوزا إلى معنى الألوهية حين عرّف الجوهر بأنه "ما كان موجوداً ومتصوراً من خلال ذاته، أي ما كان مفهومه لا يفتقر إلى أي مفهوم آخر ينبغي أن يُستمد منه، فلا يمكن  أن يوجد إلا شئ واحد فقط يصدق عليه هذا التعريف وهو الله"

الصنف الثاني: فهو من يبحث عن جوهره في غيره، بعد أن شعر بفناء ما فيه، فراح يفتش عن الكمال خارج ذاته ليكتمل بذاته، فينصهر في مثيل له وشبيه، أو ضدٍ له ليحاكيه، فيجد إمتدادًا آخرا لجوهره يشعره بديناميكية الحياة، وبنوعٍ من محاربة الفناء باتصالٍ مع البقاء، فيقدّم الخدمات الإنسانية التي تشعره بجوهره الإنساني، ويساهم بالحفر العميق في كل التجارب التي تشعره بالإنتماء، فتراه يتحمس للعرق أو الجنس أو الطائفة أو غيرها، ويتنطع بتقدير جوهره الذي لم يكن شطره، إلا محض انشطارٍ للحظة انتماء في غيره.

وهو ما يناقض ماذهب إليه العالم والفيلسوف ابن سينا حين قال: "الجوهر هو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع، أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه"

 الصنف الثالث: فهو من عرف حقيقة جوهره، فعالج النقص فيها بما اكتشف من نقص في غيرها، فحين اكتشف أناه الأنانية هذّبها بما يراه من انعكاسات لها في غيرها، فكان الغير مرآة يهذّب بها جوهره، لا جوهرًا يهذّب به غيره، فأصبح يتجلى في كل ذاتٍ بصفاته من غير استبداد ولا استعباد، وتلك هي القدوة التي تمتثل فيها الذات الحرة في جواهر عديدة، دون أن تمتثل هي إلى غيرها، فبين المثال والامتثال، وبين العطاء والاكتفاء يصنع الجوهر في هذا الصنف لحظة أبدية تبدّد معها كل خيوط الفناء.

فهذا هو الجوهر وهذا ماينبغي أن يبحث عنه الإنسان، ليكون فقط الإنسان، وهو ماكان في جوهر الرسل والأنبياء، وكان في صفوة الحلق رسولنا عليه الصلاة والسلام، فقال تبارك وتعالى:" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر" الآية 21 من سورة الأحزاب. 

فالزمن لحظة فارقة إما أن يكون فيها جوهر الإنسان وهمًا بالفوقية أو التفوقية سحيق، وإما أن يكون فهمًا للجوهر عميق، تتحول فيه اللحظة إلى عمر، والعمر إلى تاريخ، والتاريخ إلى لحظةٍ أبدية لاينجو فيها الإنسان لوحده، بل تنجو كل الإنسانية.

وهنا تتجلى عظمة دين الإسلام الذي جعل السلام لحظة بقاء، لاتتحقق إلا بأن يساوي فيها إنسان واحد كامل البشرية، فكما يقول المفكر مصطفى محمود رحمه الله:"احترام الإسلام للفرد بلغ الذروة، وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوق عليه، فماذا يساوي الفرد في الإسلام؟ إنه يساوي الإنسانية كلها".

قال عز وجل :"مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" الآية 32 من سورة المائدة.