في إطار فعاليات اليوم الأول من الملتقى الفكري رمضان الإسلام، استضاف عمران الحضارة الدكتور محمد سعيد حوا من الأردن والذي قدّم محاضرة عنوانها "كيف أثرت الحضارة الماديّة على تهذيبِ الرُوح في رمضان؟" وذلك يوم 08 أبريل 2021. تقرؤون فيما يلي نص المداخلة كاملا.

الحضارة والروح.. فيما تتجلى معاني المصطلحين ودلالاتهما؟  

هناك مُصطلحين من الضروري جداً أن نُلقي الضوء عليهما قبل أن نبدأ في الموضوع وهما مُصطلح الحضارة ومُصطلح الروح، حتى نستطيع أن ننطلق انطلاقة صحيحة في الفهم منضبطةً إن شاء الله تعالى، الحضارة في أصلها من الحضر ضد البداوة؛ فإذا كانت البداوة قد تدل في أصلها على بدء أمر، فإذا قلنا أن الحضارة ضد البداوة، فإذاً الحضارة فيها معنى الحضور، حضور علمي، حضور ثقافي، حضور مدني، تقدم مدني ولو على الأقل فيما كان ذلك سابقاً وبغض النظر عن تطور أمور اليوم في القوانين وحضور الإنسان في هذه الحياة وفاعلية الإنسان في هذه الحياة فكله قد يدخل في جانب الحضارة، وبناء على ذلك اختلف الناس المهتمون بهذا الجانب هل الحضارة هي الجانب المدني وحسب؟ أم هي الجانب المدني والثقافي؟ أم هي الجانب الثقافي وحسب؟ هذا هو الاختلاف الذي وقع فيه الناس ولعلي أميل إلى أن الحضارة تدل على الجانبين معاً الجانب المدني والجانب الثقافي، وطبعاً هنا الكلام عن الحضارة المادية بشكل خاص لنا عودة له على وجه الخصوص.

إذاً الحضارة في النهاية هي اجتماع جانب المدنية وجانب الثقافة أي مدنية أمة ما وثقافتها والثقافة تعني كل العقائد وكل القيم وكل الأخلاق وكل السلوكيات التي تُحدد هوية أمة ما وأهدافها وحركتها ووجهتها.

لنأتي إلى المصطلح الثاني إذاً وهو قضية الروح، ما هي الروح وهل تُهذَب وهل تُزكى وتُنقى، فإذا بدأنا بما هي الروح لن نصل إلى جواب حدي في تعريف الروح لأنه مهما خُضنا في ذلك فسيبقى الأمر كما قال سبحانه وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، ولكن يُمكن أن نقول أن الروح هي ذاك السر الإلهي الذي به تكون الحياة وبه تكون القوى، قوة الحركة، قوة النماء، وقوة التفكير وغيرها من القوى، لِنصل بعد ذلك إلى السؤال الثاني؛ هل الروح تُهذَب؟ هل تقع تزكية في حق الروح؟ وهل تحتاج الروح إلى تزكية من حيث هي روح؟ هل يُقال زكي روحك وهل يُوجد نص يأمر بهذا الأمر؟ لم يحصل أبداً أن جاء نص شرعي يقول هذب الروح أو زكها أو نقها أبداً، إذاً لماذا؟ لِأن الروح في أصل خلقتها صافية صفية نقية طيبة راقية عالية ونورانية غير محدودة لا بالزمان ولا بالمكان بأمر الله سبحانه وتعالى فهذه حقائق وخصائص الروح في الأساس ومن هنا نجد أن جبريل قد وُصف بالروح كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) وأيضاً وُصِف القرآن كذلك قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، إذاً فهي تدل على معانٍ فيها السمو وفيها الرقي بطبيعتها والنقاء والصفاء، فإذا كانت هذه طبيعة الروح. إذاً ما الذي يقع عليه التزكية؟ وما الذي يقع عليه التهذيب؟ وما الذي يقع عليه التأثير السلبي أيضاً؟ إذا كان هنالك تأثير سلبي فإنه حقيقة يقع على النفس ولذلك جاء قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، عندما أقسم بها عز وجل حين قال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) فكل التهذيب والتزكية والتأثير السلبي إنما يقع على النفس.

ولكن يعود السؤال ثانية؛ ما هي النفس إذاً؟ أيضاً من غير أن نخوض في كثير من بحار التعريفات في هذا الجانب واختلافات العلماء لعلنا نختار الرأي الذي يقول أن النفس هي اجتماع الروح مع الجسد، بمعنى أنه عندما تدخل الروح بأمر الله تعالى وتُنفخ في هذا الجسد الإنساني فإنه يتكون عنصر ثالث قائم بذاته له صفاته وخصائصه ألا وهو النفس، وهو الذي يُمكن أن تقع عليه التزكية والتهذيب وهو الذي يحتاج إلى هذه التزكية وهذا التهذيب.

عندما يكون هنالك اختلاط الروح بالجسد فالروح صفاتها الرُقي والنقاء والصفاء وغيرها من الصفات العالية التي مرت معنا، بينما الجسد صفاته الصفات الدونية الترابية كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) أي من طين أسود مُنتِن، إذاً اختلاط هذين العنصرين عالم الروح الذي يُمكن أن نسميه عالم المعنى في النهاية وعالم الجسد الذي يُمكن أن نسميه عالم المادة من ناحية أخرى فيترتب على ذلك نشوء أمر آخر وهو النفس، هذه النفس أمام اختلاط هذين العنصرين ستكون تحت تأثير الجانب المادي ابتداء أكثر من كونها تحت تأثير الجانب المعنوي لِأنه بطبيعة الحال الجوانب المادية الحسية والصورة والحركة والمجسدات تكون أدعى إلى التأثير المباشر، إلا إذا كان لهذه النفس ما يُهذبها ويُرقيها ومن هنا وجب تهذيب النفس وتزكيتها.

في موضوع تزكية النفس؛ ما هو في حقيقة الأمر؟ وكيف نربط الأمر بقضية مصطلح تهذيب الروح الذي شاع كثيراً وحتى وصلنا إلى مصطلح آخر وهو تربية الروح؟ ونرى من أين جاءت هذه المصطلحات في أصلها أو في حقيقتها في الواقع، فنقول حيث أن هذه النفس في جسديتها كيف نعود بها لتتخلص من صفات الجسد الدونية لتتحقق هذه النفس بصفات الروح العلوية؟

فالروح ستبقى صفاتها كما هي والجسد صفاته كما هي، إذاً فالذي يتغير هو النفس وهي أثر عن اختلاط الروح بالجسد. فالمطلوب منك أيها الإنسان أن ترتقي بهذه النفس التي شاركت أو تكونت من هذين الخليطين معاً أن ترتقي بهذه النفس مع كونها في جسديتها محبوسة ينبغي أن ترتقي بها إلى خصائص الروح في صفائها ونقائها، ولذلك عندما يُقال مثلاً كيف تكون تربيتنا الروحية وأنت في عالم جسديتك متحققاً بصفات روحك وروحانيتك؟ وهذا حقيقته هو تزكية النفس.

بناء على ذلك تولد مصطلح آخر وهو غذاء الروح، شيء طبيعي أن كل مُتغذٍ يتغذى بما يُناسبه وما دام هذا الإنسان من روح وجسد فلابد أن للروح غذاؤها ولابد أن يكون للجسد غذاؤه، فبالتالي لابد أن يكون غذاء الروح مما يُناسب طبيعتها وأن يكون غذاء الجسد مما يُناسبه ويُناسب طبيعته، وقبل أن أمضي أكثر سنجد في الحقيقة عندما نقول غذاء الروح أنه غذاء القلب المعنوي الذي هو محل الإيمان أو الكفر لا سمح الله، والذي هو محل الحب والكره والذي هو محل النفاق أو الصدق وهو الذي محل الانقباض أو الانبساط والانشراح، وهو القلب القائم في الصدر أيضاً، فعندما نقول غذاء الروح هو في الحقيقة سيعود إلى غذاء القلب المعنوي لكن تجوزاً في ذلك قلنا غذاء الروح بناء على الأصل الذي أصلناه أنه هو تزكية النفس، نُخلص النفس من هذه التأثرات المادية الجسدية إثر اختلاط الروح بالجسد لتسمو هذه النفس فلا يكون فيها إلا صفاتها العلوية السامية الراقية النقية النورانية الشفافة ومن هنا جاز أن يُقال أيضاً غذاء الروح.

إذا كانت الروح عالما يتصل بالمعنى والجسد عالما يتصل بالمادة إذاً شيء طبيعي أن يكون غذاء الجسد من جنس هذا التراب وبالتالي مما يكون من نبات وحيوان ونحو ذلك، ولكن غذاء الروح لابد أن يكون أيضاً مُتسقاً ومُنسجماً ومُتصلاً بطبيعته العلوية فإذاً لابد أن يكون غذاء الروح من جنس القرآن الكريم وكل ما يتصل بالهداية الربانية ومن هنا كان لابد أن نعطي لكل جانب حقه ومن هنا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعط كل ذي حقٍ حقه"، فنجد بعض الناس باسم الزهد ربما جوع جسده فأدى إلى خلل خطير فيه فتجاوز الحد في ذلك، إذاً سيحدث خلل إذا لم يُعطى هذا الجسد الحد الأدنى من حقه الذي به قوامه، ومن هنا كان لفت النظر من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم "حسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه"، ولكن إذا زاد الأمر عن حده ولو بالمباح سيصل إلى حالة الإسراف وحالة الترف والتخمة وسيقتل نفسه، وكلما زاد شيء عن حده انقلب ضد الذي يُقابله، فكلما زاد إمدادنا للجسد ولو في المباح سيؤثر سلباً على الجانب الروحي عندك أيها الإنسان وبالتالي كان أهم شيء الاعتدال.

وفي المقابل لابد أن يكون غذاء الروح مما يناسبه أيضاً وبما يُكافئه، لكن إذا كان الازدياد من غذاء الجسد ضارا به فإن الإزدياد من غذاء الروح لِأنه يتصل بالعالم العلوي والروحي السامي فإنه لا حد للتسامي ولا حد للارتقاء ولا حد للازدياد فكان بمقدار ما تستطيع أن تزداد وتنال من غذاء الروح فأنت تسمو بذلك سمواً قاطعا، إذاً ونحن نغذي هذه الروح بما يُناسبها كما قلنا إذا تأملنا هذه الحقائق فنحن في حقيقة الأمر إنما نغذي القلب المعنوي الذي هو محل الإيمان أو محل الكفر وهكذا.

كيف أفسدت الحضارة المادية على المسلم تزكيته لنفسه والارتقاء بها؟

فإذا استطعنا أن نفقه هذه المصطلحات بدقة إن شاء الله تعالى ننتقل إلى مفهوم الحضارة المادية، الآن عندما يُطلق مصطلح الحضارة المادية قد تُطلق باتجاهين، اتجاه حيادي واتجاه سلبي مُطلق، الاتجاه الحيادي هو المقصود بالجانب المدني في هذه الحضارة الذي يستطيع كل إنسان أن يستخدمه إما بالاتجاه الصحيح وإما بالإتجاه الخاطئ، لكن عندما نقول الحضارة المادية فكأنما نقول هنا أننا نتكلم فقط عن الجانب السلبي في هذه المعطيات المدنية، ونتكلم عن ثقافة أيضاً لها هويتها وأهدافها الخطيرة من جهة أخرى لذلك اخترنا من البداية أن يكون مفهوم الحضارة هو مجموع مدنية أمة ما وثقافتها، المدنية من حيث ذاتها الأصل فيها أنها حيادية قد تستعملها في الخير وقد تستعملها في الشر، ولكن عندما تنظر للجانب الثقافي والجانب المعنوي في هذه الحضارة هو الذي إما أن يكون باتجاه الخير فهو الإيمان والهداية الربانية وما كان متصلاً بالله سبحانه وتعالى، وإلا فإن ذاك الإنسان سينحرف إلى تلك الحضارة المادية، إذا نظرنا إلى مفهوم الحضارة المادية ولم ننظر لها من حيث المدنية وإنما بهذا المصطلح الحضارة المادية. 

إذاً نحن نتكلم عن أولئك الذين لا يرون الحياة إلا مادة ولا يرون ما بعد هذه الحياة حياة ولا يؤمنون بشيء اسمه الغيب بل ربما أكثر من ذلك لا يؤمن بعضهم بالله سبحانه وتعالى ولو على سبيل الوجود ورفضوا بالتالي كل المعجزات وكل المؤثرات المعنوية في هذا الإنسان، بل وحرفوا القيم فالصدق عندهم هو بمقدار ما تستطيع أن تُحقق مصالحك في هذه الدنيا والقوة والشجاعة عندهم بمقدار ما تتغلب على خصمك ولو كان بالباطل فانحرفوا بكل المفاهيم والقيم في هذا الأمر.

وبالتالي المكاسب المادية هي التي تُحدد مسار هذا الإنسان فبمقدار ما يكسب هو بطل وقوي وهكذا، هذه الحضارة المادية هي التي قد تُترجم أفكارها وأفعالها وأهدافها وتصوراتها وهويتها من خلال الكثير والكثير من مسلسلات وأفلام وبرامج وما يُسمى ترفيه وما يُسمى في واقع الحياة وفي رمضان بالذات خيمات رمضانية ومسابقات رمضانية باسم الترفيه وباسم التسلية، هذا الجانب هو الذي طالما حذرنا القرآن منه عامة وليس فقط فيما يخص شهر رمضان، مثلاً عندما حذرنا ليُبصرنا ما حقيقة الدنيا إذا عاش الإنسان لذات الدنيا ولذات الحياة ولذات المادة حين قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ومن ثم صور حال هذا الذي ارتبط قلبه بالمادة والدنيا حتى في حالة الجهاد إذا دُعي إليه تجعل هذا الإنسان مشدوداً إلى الدون وإلى الأض ومشدوداً إلى متاع الغرور وإلى ما هو خداع في ذاته، هذه الحياة المادية وهذه النظرة المادية التي ولدت طغيان الترف وطغيان الشهوة وطغيان المادة فولدت الإستبداد وولدت الفساد بعد ذلك وأؤلئك الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) فلن تنال الحضارة المادية بهذه المعاني إلا الدمار والسحق فسحقت الإنسان وسحقت إنسانية الإنسان فاستخدمت المرأة كجسد كأنها سلعة من السلع في الوقت الذي تدعي فيه أنها تُحافظ على هذه المرأة أو تُدافع عنها، وسحقت الإنسان فتجده مسحوقاً في سوريا وتجده مسحوقاً في بلاد المسلمين وفي فلسطين؛ هذا الإنسان سُحق لِأنه يريد الحق ويُريد الحياة الكريمة ومن الذي يسحقه في الحقيقة؛ أؤلئك الذين يدعمون الباطل ويسكتون عن الباطل ويدعون أنهم يُمثلون حضارة ولكنهم يمثلون في الواقع حضارة مدنية هذه بعض صفاتها.

ولكن في الوقت نفسه نستطيع أن نقول إن هذه الحضارة لا في شقها المدني وليس في شقها الثقافي هنالك ما هو تأثير سلبي وهنالك ما هو تأثير إيجابي، في الشق المدني منها كل إفرازات المدنية هذه من وسائل الإعلام ومن وسائل الاتصال ومن وسائل ترفيه وتخفيف عن هذا الإنسان وخدمة لهذا الإنسان، كلها يُمكن لنا أن نستثمرها في الإتجاه الإيجابي بما يُعمق غذاء الروح وبما يُكثف حضور الإنسان المؤمن في هذه الحياة ليُبلغ رسالة الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان التحدي كبيراً وكان التحدي خطيرا. هل نستطيع أن نأتي إلى هذه الحضارة في شقها المدني وقد أفرزتها في جوانب كثيرة منها الحضارة في شقها الثقافي، وإن كنا نحن المسلمون أول من بدأ بالتقدم العلمي ولكننا نتكلم عن واقع الآن من ساهم أكثر في الجانب المدني الآن هو تلك الحضارة المادية بشقها الثقافي، هل نستطيع أن نأتي إلى هذا الإفراز المدني؟ هل نستطيع أن نحوله إلى جانب إيجابي في حياتنا فننتصر في هذا الصراع الخطير؟ هذا السؤال الكبير الذي نحتاج أن نجيب عنه وكيف نواجه ذلك الهجوم الخطير من قِبل الحضارة المادية ليسرقوا أوقاتنا وعقولنا وثقافتنا وهويتنا وأوقاتنا وعباداتنا وأن يحرفونا عن مناهج هذا الدين بل أخطر ما كان من مفرزات الحضارة المادية أنه في الحقيقة: كيف استطاع بعضهم أن يأتي إلى أناس يُسمي بعضهم نفسه مسلما وبل ربما يدعي انتماءه إلى علماء الإسلام وحاشا لعلماء الإسلام أن يكونوا كذلك، فيأتي ليعرض لنا من خلال حضارته المادية وباسم الإسلام أُناس شُوهت صورتهم وهويتهم وأفكارهم وعقولهم فينسبون للإسلام أموراً هي من الزور والبهتان بمكان. 

الآن عندما نربط بين الشق المدني والشق الثقافي فالحضارة المادية في شقها الثقافي تستغل الجانب المدني أعظم وأخطر استغلال في الإتجاه السلبي لأنها في الغالب تقوم على الصورة الغاوية الخادعة وعلى الحركة السريعة وعلى الصوت والضوضاء والإنسان من شأنه أن يتأثر بهذه الحركة السريعة والصورة الخادعة والأضواء الخاطفة فإذاً هذه الحضارة قامت على هذا الجانب، كيف تجعل جانب الإعلام وجانب مفرزاته الحضارة المدنية مستغلاً لها في الصورة والصوت والضوضاء إلى غير ذلك، لذلك حذر بعضهم إن هذه الحضارة الغربية في شقها الثقافي الذي هو أقرب إلى المادي بشكل من الأشكال يقوم على مبدأ استغلال الفراغ ليكون من وراء ذلك الانبهار والانصهار والإنهيار، فهذه هي التحديات الخطرة التي نواجهها اليوم.

حضارة هويتها الإيمان بالله واليوم الآخر.. حصن المسلم المنيع أما الغواية وطغيان المادية

القرآن حذرنا من ذلك كله ورسم لنا كل التفاصيل الدقيقة في منهجهم وكيف يؤثرون وكيف تتدحرج الأمور في حقنا، عندما قال سبحانه وتعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)، حقيقة نحن بحاجة إلى أن نتأمل كثيراً في هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام، أول الأمر عندما يأتي لفظ يُوحي والوحي في حقيقته إعلام لكنه إعلام بخفاء أو سرعة أو على وجه خاص، إذاً كأن وسيلتهم الإعلامية التي تقوم ابتداء على التواصل المطلق ومن أنواعه الصورة والصوت والضوء والضوضاء إلى غير ذلك، وفي يُحي لفت نظر إلى هذا المصدر المادي الخطير جداً في التأثيرات المادية من الحضارة المادية في شقها المادي الثقافي في الآخرين، ثم عندما يقول زخرف القول ويصفه بأنه غرور ويصفهم بأنهم يفترون إذاً فهو الكذب وهو الخداع والاستكبار وهو التزيين للباطل، فتلك وسائلهم التي يستخدمونها، ما الذي يحصل؟ يحصل أنه هنالك من يتلقى فكيف يتلقى هذا المُتلقي إن لم يكن مُحصنا؟ فمن هذا الذي يتلقى؟

إذاً طالما أن الفرد مُحصن بحضارة ثقافتها وهويتها الإيمان بالله واليوم الآخر وقيم الإسلام العظيمة وأخلاق الإسلام العظيمة وعادات وتقاليد الإسلام الأصيلة وأعرافنا السليمة فطالما نحن مُحصنون لن يؤثر فينا هذا الإغواء ولن يؤثر فينا هذا الإغراء أو هذا الإنبهار وهذا الانصهار، ولكن أولئك الذين غلبتهم مادياتهم وشهواتهم فإذا كان التلقي منهم سينتقلون إلى المرحلة الثانية فسيكون منهم القبول وإذا كان منهم ذلك فسينتقلون إلى المرحلة الثالثة وهو التنفيذ والاستسلام والانهيار.

فإذاً نحن الآن لو نظرنا في معظم وسائل الإعلام فضلاً عما يكون في واقعنا المادي المباشر غير وسائل الإعلام من خيمات رمضانية وبرامج وأسواق استهلاكية وعروض تجارية هائلة جداً ليتحول الإنسان إلى مجرد إنسان يأكل ويشرب وينام وهم يُريدوننا كذلك، فكيف ننجو من هذا الفخ الخطير جداً جداً؟ الذي يُراد منه ليس فقط إلغاء رمضان من وجود المسلمين أو من الوجود أصلاً لكن إلغاء المسلمين نفسهم وإلغاء وجود حضارتنا وهويتنا وثقافتنا في الواقع فهي حرب شاملة في الحقيقة.

عندما نأتي هنا إلى الإفراز المدني لهذه الحضارة المادية في جانبه الثقافي نجد أنفسنا أمام سيل من الإفراز الخطير، ليس عندي إحصائيات الآن ولكن لو قلت أنا أمام ساعة ربما قد تكون مفيدة بأي نوع من أنواع الفائدة مقابلها إذا افترضنا 100 ساعة سموم ومن الخطر ومن التهديم للأخلاق وإذا ما قلنا أخطر من ذلك بكثير، فضلاً عن أن تأثر الإنسان من جانب الحركة والصورة أكثر من تأثره لمجرد أن إنساناً يُعطي محاضرة ما، لو قارنا كم أُنتج من الأفلام والمسلسلات الإيجابية التي على سبيل المثال السلطان عبدالحميد إلى آخره بجانب ما يُلقى لهذه الأمة كل يوم من الأفلام التي تقوم على الفواحش بأنواعها وغيرها من الأمور الخطيرة والداعية إلى شيء من الإلحاد ونحو ذلك، إذاً نحن كما قال تعالى أمام شياطين يُوحي بعضهم إلى بعض. فإذا كان الشيطان الذي هو من جنس الجن قد صُفِد في رمضان ولكن شياطين الإنس سنة كاملة وهم يخططون ويعملون ومن اليوم الأول في رمضان يبدأون التخطيط لرمضان المُقبل والعياذ بالله وأحياناً بأسماء براقة كالترفيه والتسلية أو المسابقات ونحو ذلك، من هنا يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: كيف نحصن أنفسنا ونحصن الأمة ونغتنم هذا الشهر وننجح في هذا الامتحان الخطير في مواجهة الحضارة المادية في شقها الثقافي؟ لا شك أن المفتاح في ذلك كله هو قضية مجاهدة النفس لذلك كان التوجيه الرباني دائماً عند قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

وحقيقة الصوم أنه يقوم على قضية مجاهدة النفس، أعظم طريقة لمجاهدة النفس ومقاومة رغباتك وإغراءاتك هو الصوم، لِأن الطعام في أصله مباح وأنت تمتنع ولا يراك إلا الله وإتيان الأهل في الأصل مُباح ولكنه يمتنع ولا يراه إلا الله فإذا امتنع عن المباحات زمناً لِأنه لا يراه إلا الله فتحقق معنى المجاهدة وتحقق معنى المراقبة وتحقق معنى الإنضباط وتحقق معنى الصبر وتحقق معنى الإرادة.

عجباً لك أيها النسان تستطيع أن تنجح في ذلك كله عن طريق المجاهدة ثم لا تجاهد نفسك في مقاومة إغراءات الحضارة المادية في شقها الثقافي الإغوائي الإغرائي، إذاً قضية مجاهدة النفس أولاً وقضية كيف نغتنم الوقت؟ وكيف نبرمج الوقت؟ وكيف نعرف أن لنا أهدافاً نُريد أن نصل إليها؟ وكيف نُخطط لهذه الأهداف؟ فأنا قبل أن يدخل شهر رمضان أُخطط ماذا أُريد من هذا الشهر؟ وما هو التغيير الإيجابي الذي ينبغي أن أُحدثه في نفسي وفي مجتمعي في هذا الشهر على جانب الأخلاق وعلى جانب الثقافة وعلى جانب الإحسان وعلى جانب العطاء وعلى جانب هموم الأمة وعلى جانب قضايا الأمة؟ إذاً لن يبقى وقت للسفاسف ولأؤلئك الذين يُحاولون أن يسرقوا أوقاتنا أغلى شيء في الوجود، فإن هذا الزمن الذي أقسم الله فيه هو أغلى شيء في الوجود لا من حيث هو بل من حيث ما يكون فيه وفي رمضان أغلى ما يكون. فكيف يشعر المؤمن أن عليه أن يغتنم كل دقيقة في هذا الشهر حتى لا يُهزم أمام هذه المعركة الخطيرة في الواقع، وأيضاً أن يكون دائماً الوعي والحذر حاضرين في ذهن وعقل وقلب المؤمن حتى يعلم فعلاً أنهم يُخططون كيف يسرقون وقتك ودينك وقلبك وعقلك وبالنهاية أمتنا ومقدساتنا جميعاً، وهذا لن يكون إلا من خلال فهم دقيق وصحيح، لذلك نجد كيف أنهم يعقدون حوارات دينية يستضيفون فيها أؤلئك الذين هم في حقيقتهم لا يمتون إلى الإسلام بصلة ولذلك مسؤولية كبرى لكل من قدره الله مالياً أو عقلياً أو فكرياً أو إعلامياً، كيف نستطيع أن نُقدم البرامج الفعالة والهدافة التي تملأ الفراغ، فإن هذا الفراغ لابُد أن يُملأ فإن لم تملأه أنت فمن يملأه، وكيف نزيح من قلبنا هذه التعلقات المادية وهذه التعلقات الشهوانية.

دعونا نبدأ بقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) فكيف يكون هذا الانشراح؟ وكيف تكون هذه الهداية؟ فالانشراح كمال هداية وسكينة وطمأنينة فكانت البداية ووضعنا عنك وزرك، وأيضاً عندما نعود إلى سورة النور وهي تحدثنا عن هذا القلب الإيماني كيف يكون، لابد أن أوجد البيئة الروحية الإيمانية الصحيحة في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه التعلقات المادية والشهوانية التي تغرس في القلب فتدميه فتقتله عندما يقول: "إذا أذنب العبد نُكت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه وإن هو عاد زِيد فيها حتى يعلو قلبه الران وقرأ قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)"، وفي الحديث الآخر "تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ." إذاً هنا تحذيرات شديدة من الرسول صلى الله عليه وسلم من التعلقات المادية وخاصة الشهوانية التي تُفضي بنا إلى الذنوب والآثام لأنها ستقتل هذه الروح، لذلك فإن الإنسان عندما يُكثر من الطعام يقتل نفسه في الحقيقة ويقتل إمكانية المجاهدة فيه فتسيطر عليه التأثيرات الغضبية والنفسية والشهوانية ونحو ذلك، لذلك عندما يأتي إلى الصوم يُطهر نفسه جزئياً ويغذي الروح بالامتناع ابتداء لكن يكفي غذاء الروح الإمتناعي هنا فلابد أن يكون معه غذاء الروح المعنوي ولذلك كان الإكثار من قراءة القرآن وكان قيام الليل وكان الإحسان وهكذا تُبنى هذه الروح من جديد بغذائها الروحي المناسب.

وفي الختام أقول إن علماء الأمة المُربين السابقين قد لفتوا النظر إلى خطورة التأثيرات المادية حتى لو كانت مباحة فكيف إذا كانت محرمة على جانب التهذيب الروحي في الإنسان، ومثال ذلك عندما قال بن عطاء السكندري وهو يُحذرنا من القضايا المادية وتأثيراتها: "كيف يُشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته"، وحري بنا أن نقف مع هذه الكلمات الطيبة ولكن أقف فقط مع الجملة الأولى فالقلب في الأصل فيه نوع في من الفراغ ماذا يملؤه؟ فإذا ازدحمت فيه المادة وازدحمت فيه الشهوة وازدحمت فيه الرغبات الأرضية ماذا سيبقى إذاً؟ وهذا الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم تعبيراً مادياً حسياً لنكون أشد حذراً ألا وهو الصدأ وإنه الران الذي يعلو القلوب فبالتالي تُصبح هذه المرآة قد علاها الصدأ، فالقلب كالمرآة يتعرض لأنوار الإله ويتعرض للقرآن وللنفحات الربانية ولكن إذا كانت كل القلوب تأتيها هذه النفحات وإذا كان هذا القلب قد علاه الران بما كسبت أنفسهم وباستسلامهم فكيف للنور بعد ذلك أن يصل للقلب؟ فلابد من جلاء هذا القلب لتصل الأنوار إليه، فبدايتها قرار وإرادة ومجاهدة وصبر ومصابرة وهذا رمضان ويُحقق لنا ذلك كله إذا نحن أحسنا وضع خططنا وأهدافنا ورؤيتنا وعلمنا ماذا يعني بالنسبة لنا رمضان؟ وكيف نستثمر رمضان؟ وكيف لا نسمح أن نُهزم في هذه المعركة الخطيرة معركة المادية من جهة والحق من جهة والنور من جهة والظلام والضلال من جهة أخرى؟ لنستطيع أن ننتصر بعد ذلك في معارك الأمة كلها في معركة تحرير القدس أو تحرير الإنسان، فالإنسان الحقيقة اليوم بحاجة إلى أن يُحرر من هذه الحضارة المادية التي سحقت إنسانيته وسحقت روحه وروحانيته، نسأل الله أن يُفقهنا وإياكم في الدين وجزاكم الله خيراً.